طفلٌ ضائعٌ في السُّوق
21-12-2018

 

علا صوتُ الأذان، فغطّى على كلّ الأصوات المرتفعة في سوق الأشلة، ظُهرَ ذلك اليوم الغريب، ودفعني إلى أن أستيقظ من شرودي دقائقَ طويلةً، محدِّقًا في جماعةٍ من البطّ والأرانب داخل أقفاصٍ نتنة.

لم يكن ممكنًا أن يتخلّص المارّون من رائحة فضلات الدجاج إلّا حين كانوا يقتربون من دكّان العطارة والتوابل. لشدَّ ما كانت تسحرني ألوانُ التوابل، الموضوعةِ في أكياسٍ كبيرةٍ قرب المحلّ ذي الباب الخشبيّ المهلهل، الذي تعلوه نافذةٌ على شكل حدوةِ حصان، تسمح بمرور الهواء ومنعِ الرطوبة.

كانت أمي تمسك يدي المتعرِّقة، والعديدَ من الأكياس الملوَّنة المليئةِ بالحاجيّات، إضافةً إلى كيس يحتوي على حقيبتي وكندرةٍ تحتاجان إلى التصليح. وكانت تتوقف كلّ بضع دقائق لتسأل عن حاجيّات، أو لتشتري بعضًا آخر. وقد ابتاعت دجاجةً وبيضًا وخضروات، ولم تشترِ التفّاح الذي كنتُ أشتهيه. كما ابتاعت سروالًا لي، قالت إنني أحتاجه، وإنّ أفضل السراويل هي سراويلُ "الكاوبوي" لأنّها تتحمّل شقاوتي ولعبي بالأوساخ.

لم أكن راغبًا في هذا السروال. وكانت أمّي توبّخني من حين إلى آخر: فمرّةً تنهرني لأنني سحبتُ يدي من يدها وأمسكتُ بفستانها الطويل كي تتوقّف؛ ومرّةً تنهرني حين تضبطُني أمسك بحاجيّاتٍ منثورةٍ لدى البائعين هنا وهناك. وفي نهاية الأمر ضربتني على يدي لأنّها اعتقدتْ أنّني كنتٌ أهمُّ بأخذ لعبةٍ لطالما حلمتُ بالحصول عليها: كيسٍ مملوءٍ بالجنود الملوّنين باللون الحرجليّ الغامق، إضافةً إلى أسلحةٍ وأشجارٍ وأسوارٍ من المادّة واللون نفسهما. لم أكن أريد سرقتَها. كنت فقط أتأمّلها لأعرفَ عددَ الجنود، ولم أكن أعلم أنّ هذا يُسمّى سرقةً. يومَها قالت أمّي: "أنت ولد شقيّ. دائمًا ما تجلب لي الخزيَ والعار." لا أعرف إنْ بكيتُ وقتها. لكنني، بعد الضرب، توقّفتُ عن تأمّل أيّ شيء في السوق حولي.

***

كنّا قد انتهينا من شراء الحاجيّات، وتوجّهنا إلى الكندرجيّ، الذي راح يسألها عن أمورنا المعيشيّة بعد تردّي الظروف الاقتصاديّة وقلّة فرص العمل، وذلك بحكم معرفته القديمة بعائلتنا. دعانا أبو محمّد إلى الاستراحة ريثما ينتهي من تصليح كندرتها القديمة.

في الرصيف المقابل، تصاعدتْ رائحةٌ زكيّة. كان ثمّة رجلٌ يقف أمام "محمصة النقولات" المحاذية لجامع القشلي، وقربَه ولدٌ يأكل الفستق ويمسك يدَ أبيه بدلال.  فجأةً وجدتُ نفسي بالقرب منه، أنظر إليه، بينما راح أبوه يتحدّث إلى ذلك الرجل. تناهى إليّ صوتُ بطّ أو إوزّ. مشيتُ بضع خطوات، وإذ بي في المكان الذي كنّا فيه عند مجيئنا إلى السوق، على الرغم من أننا سلكنا طريقًا آخر.

لم أقترب كثيرًا من أقفاص البطّ هذه المرة، إذ شدّني شيءٌ آخر. ففي أسفل الشارع الذي وقف فيه الصبيّ محلٌّ كبير، ذو بوّابة ضخمة، إلى جانبها بضعةُ أكياس كبيرة من الخيش، مليئةٍ بالحبوب. وكان هناك رجالٌ بملابس متّسخة بالطحين، يحملون أكياسًا ثقيلةً على ظهورهم، يخرجون ويدخلون كلَّ حين. وقفتُ قربهم أتأمّل عددًا من اليمام ينقد الحَبَّ بشراهة. كان سربٌ منها يحطّ على تاج العقد، ومجموعةٌ أخرى تحطّ بشكلٍ متوازٍ على رِجْلِ العقد. رحتُ أتأمّل تجمُّعَها وتفرّقَها، وأتمنّى لو أستطيع الطيرانَ مثلها.

بعد قليل، جاء رجل ضخم، أصلع الرأس. سألني باهتمام:

ــــ أين أهلك؟

نظرتُ من حولي. أين أمّي؟! شعرتُ برهبة. وإذ بالرجل يمسك يدي ويقول لي بلطف:

ــــ لا بدّ أنك ضائع!

كان مهيبَ القامة. وما لبثتْ أن انضمّت إليه امرأةٌ بدينة تضع على رأسها غطاءً أبيض، وراحت تقول بصوت قلق:

ــــ أين وجدتَه؟ لا بدّ أنّه ضائع. كيف سنجد أهلَه الآن؟

تجمّع بعضُ الواقفين حولي بعد أن سألهم الرجل إنْ كانوا قد رأوْا أحدًا يبحث عن طفلٍ ضائع. كنتُ خائفًا منهم، وخصوصًا من ذلك الرجل الضخم ذي الرأس اللامع.

تذكّرتُ تحذيراتِ والدتي الدائمة من الغرباء. ثم بدأ خوفي يزداد وأنا أصغي إلى ما يقوله أصحابُ المحلّات عنّي، وقد تبدّلتْ ملامحي واتّسخت ملابسي. ظلّ الرجلُ ممسكًا يدي، وتابع المشيَ والبحثَ بين أصحاب المحالّ والمارّة، وذلك بعد أن سألني عن اسمي ولم أجبْه بشيء. فكلّما حاولتُ نطقَ اسمي تلعثمتُ، فأزدادُ حنقًا، إذ أقول له "محمود،" فيسألني: "مسعود؟" ثم يسألني: "أمْ أنّك تقصد محفوظ؟"

لم أعرف كم بقيتُ على هذه الحالة من الهلع والرعب. لشدّ ما رغبتُ سابقًا في أن تتركَني والدتي ألهو كما أشاء. لم أكن أعلم أنّ هذه الفرصة ستأتي يومًا، وسيكون لها هذا الأثرُ الذي ما زال يرعبني أحيانًا كثيرةً حتى الآن. ولا أبالغ إنْ قلت إنّه غطّى على خوفي من الأصوات الرهيبة التي كنّا نسمعها عندما يشتدّ القصفُ وأصواتُ الرصاص والرشّاشات. كنتُ أعتقد أنّ هذه الأمور هي الأشدّ رعبًا؛ إضافةً إلى خوفي كلّما قال والدي إنّ علينا الانتقال لأنّنا سنُقتَل إنْ بقينا في مكاننا. ولقد تنقّلنا كثيرًا بين صيدا وبيروت وصور، شأن كثير من الفلسطينيين في الثمانينيّات. في تلك الأيّام، كنتُ أعاني كوابيسَ مرعبةً تحتوي، غالبًا، على رجال ملثّمين يدخلون فجأةً ليختطفوني. وزاد من رعبي أنّ بابَ بيتنا كان جرّارًا حديديًّا؛ فهو أصلًا معملٌ لنجّار يعرفه جدّي، وقد سمح لنا بأن نقطنه إلى أن نجد مكانًا يؤوينا. ولاحقًا، كما علمتُ، أجبرتنا المعاركُ بين فصائلَ فلسطينيّةٍ وأطرافٍ أخرى على النزوح من مخيّمنا في صور إلى منطقة صيدا. في ذاك اليوم شعرتُ بأنني أحبّ والدتي أكثرَ من أيّ يوم آخر؛ كما شعرتُ بأنها سرّ أماني الأعظمُ.

***

بعد بضع ساعات من البحث والدوران، وجدتني أمّي، فصرختْ بصوت مبحوح سمعه كلُّ المارين:

ــــ محموووود!

ركضتُ إلى حضنها باكيًا. عصرتْني وهي تصرخ بي وتتشاجر معي، بعد الرعب الذي شعرتْ به وهي تلفّ السوقَ ذهابًا وإيابًا، فتسأل القاصي والداني عن طفل أسمرَ يرتدي سروال كاوبوي ويعتمر قبّعةً حمراء.

ضربتني أمّي على يدي، وملامحُها منتفخةٌ من شدّة البكاء. وقالت معاتبةً بغضبٍ ملتاع:

ــــ إيّاكَ أن تترك يدي مرّةً أخرى في الشارع!

هذه المرّة، لم أشعر بالغضب، ولا بالحزن، عندما تلقّيتُ ضربتَها. كلُّ ما شعرتُ به هو الامتنان لأنّها والدتي التي أحبّها. وكم أتمنّى اليوم، وقد تجاوزتُ الأربعين، لو تُبعث أمّي  حيّةً لكي تضربَني وتقسوَ كما يحلو لها. فما أشدَّ شوقي إلى قلقها، وإلى كثرة أوامرها، وإلى حضنها الذي يبقى ــــ من دون أدنى مُنازع ــــ مصدرَ أماني الدائم.

صيدا

سارة البيطار

رئيسة جمعيّة لبنانيّة، ومدرِّبة مهارات حياتيّة. مواليد العام ١٩٨٧. حاصلة على إجازة في علم النفس التربويّ من كليّة الآداب، الجامعة اللبنانيّة، وطالبة إجازة في اختصاص اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة نفسها.