منير شفيق لـ "الآداب": هذا ما أتوقّعه بعد الصفقة!
13-02-2020

 

 

حاوره: بشّار اللقّيس

 

أجرت الآداب حوارًا مع المثقف والمناضل المعروف الأستاذ منير شفيق تناول صفقة القرن، وتداعياتها، وسبلَ مواجهتها، وآفاقَ مستقبلها، وموازينَ القوى الحاليّة.

 

* في الشكل والمضمون، كيف قرأتم صفقة القرن؟

- الصفقة نتاجُ اتفاقٍ بين طرفيْن على بيعٍ أو شراء أو تبادل أو حلّ. أمّا هنا، فنحن لسنا أمام طرفيْن كي نتحدَّث عن صفقة. نحن أمام طرفٍ واحد، ووجهةِ نظرٍ واحدة، أو نحن أمام قرارٍ من جهةٍ واحدة في ما يتعلَّق بالقضيّة الفلسطينيّة أو بالصراع الدائر حول فلسطين. وهذا الطرف هو الجانبُ الأمريكيّ - الصهيونيّ، ممثَّلًا في شخصٍ اسمُه دونالد ترامب، رئيسُ الولايات المتحدة الأميركيّة. وقد قرَّر ترامب الآتي:

كلُّ ما استولى عليه المستوطِنون اليهود الصهاينة في حرب 1948 هو للصهاينة، وليس موضوعًا للمراجعة. وهذا يعني احتفاظَ الصهاينة بـ 78٪ من فلسطين، وبما استولوْا عليه من أملاك، ومنْعَ الفلسطينيين من حقّ العودة إليها.

وأمّا في شأنِ ما احتُلَّ من فلسطين منذ العام 1967، فقد قرّر ترامب أن تكون القدسُ عاصمةً الكيان الصهيونيّ، وأَلحَقَ بهذا الكيان كلَّ المستوطنات المُقامة في الضفّة والأغوار. إذًا، ليست هنالك أراضٍ احتُلّتْ سنة 1967!

وأمّا ما تبقى من أراضٍ لم تُقَم عليها المستوطناتُ في الضفّة الغربيّة، فهو معروضٌ على المفاوضات المباشرة، بما في ذلك قطاعُ غزّة، بعد نزع سلاحه طبعًا. وعند هذه المفاوضات الثنائيّة المباشرة ستقرَّر مسألةُ قيام دويْلة فلسطينيّة.  

إذا اعتُمدتْ تجربةُ المفاوضات الثنائيّة المباشرة ما بعد اتفاق أوسلو، فهذا يعني أنّ الطرفَ الواحد، الأميركيّ الصهيونيّ، سيعطي المشروعَ الصهيونيَّ كلَّ فلسطين، بناءً على السرديّة الصهيونيّة المتعلّقة بتاريخ فلسطين. وهذا يعيد طرحَ المسألة كلِّها وفق مرحلتيْن: 1) الأولى تُكرِّس ما قام عليه الكيانُ الصهيونيّ منذ العام 1948، بما في ذلك اعتبارُ القدس عاصمةً له، واعتبارُ الأغوار وما قامت عليه المستوطناتُ (والطرقُ الالتفافيّة) حقًّا لهذا الكيان مبتوتًا فيه. 2) والثانية تقرِّر، بناءً على مفاوضاتٍ ثنائيّة، مصيرَ ما تبقّى من أراضٍ، وآليّةَ الحكم المستقبليّ فيها. ويكون ذلك بمثابة تكرار لتجربة المفاوضات الثنائيّة المباشرة التي أُعطي فيها المفاوضُ الصهيونيُّ "حقَّ تقرير" مصير الأرض المحتلّة بإبقائها تحت الاحتلال والاستيطان والتهويد، وبإبقاء الفلسطينيين فيها تحت سيف سياسات التهجير. فالمشروع الصهيونيّ مشروعٌ اقتلاعيّ، إحلاليّ، يريد كلَّ فلسطين، من دون بقاء فلسطينيّ واحدٍ فيها.

وبهذا يكون ما سُمّي "صفقة" هو المشروع الصهيونيّ، وقد تبنّاه الطرفُ الأميركيُّ دونالد ترامب كاملًا، ويحاول فرضَه على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم. هكذا أفهم هذه "الصفقة" من حيث جوهرها ومحتواها وشكلها.

أمّا في خصوص الأهداف المباشرة التي توخّاها ترامب ونتنياهو، فمن جهة التوقيت، لا يمكن استبعادُ حاجتهما إلى دعم حملتهما الانتخابيّة القادمة خلال هذا العام. فكلاهما مأزومٌ بالطبع، ونتنياهو في حالةٍ يُرثى لها، ويبحث عمّن يرمي إليه بطوق النجاة. وترامب أراد القولَ لجمهوره "المسيحيّ المتصهيِن" إنّه قدّم إليهم - بهذا التماهي مع المشروع الصهيونيّ - ما يريدونه. وأمّا على مستوى الشكل، فقد راح ترامب يمازح نتنياهو، ويُشْركُه معه في تقديم "الصفقة" إعلاميًّا، عسى أن يعزِّز الأخيرُ وضعَه الانتخابيَّ، وهو المهدَّدُ بدخول السجن ما لم يفُزْ برئاسة الحكومة مرّةً أخرى.

 

* للتوقيت جملةُ دلالات. هل تعيدها إلى ارتباك نتنياهو وترامب وإدارتيْهما، أمْ إلى البعد الإقليميّ العربيّ المترهّل؟

- عندما يصبح الهدفُ الانتخابيّ لرئيس دولةٍ كبرى حافزًا أوّلَ لقراراته، فذلك عادةً ما يدفعه إلى ارتكاب الأخطاء، وإلى تعريض دولته ونفسِه للفشل والهزائم. ما فعله ترامب بتقديم هذه الصفقة، وبهذه الطريقة، أنّه قدّم فرصةً ثمينةً للفلسطينيّين كي يوحِّدوا صفوفَهم ويصعِّدوا مقاومتَهم. كما قدَّم فرصةً لنشوء معارضة شعبيّة ورسميّة عربيّة وإسلاميّة وعالميّة ضدَّه. في المحصّلة، لم يكن التوقيتُ في مصلحة أميركا؛ وهو ما انعكس في اجتماع مجلس الجامعة العربيّة نفسه، الذي رفض مبادرتَه.

لقد كانت غايةُ نتنياهو وترامب دعمَ أحدِهما الآخرَ. ولأنّ ترامب يريد دعمَ نتنياهو، فقد جاء به ليشاركه تقديمَ "الصفقة،" ما جعل ترامب جزءًا لا يتجزّأ من المشروع الصهيونيّ. وزاد الطينَ بلّةً الإخراجُ الإعلاميُّ للصفقة: فالمشهد الهزليّ الذي بدا به ترامب وهو يغمز يمنةً ويسرةً ويمازح نتنياهو، وقد راح الاثنان يستدرّان تصفيقَ جمهورٍ جيءَ به لهذه الغاية، جعلهما بعيديْن عن المستوى التاريخيّ لِما اعتدناه من زعاماتٍ أمريكيّةٍ وإسرائيليّة. فماذا كان سيقول روزفلت، أو ترومان، أو آيزنهاور، لو رأوْا ترامب يهرِّج في ذلك الحفل الكوميديّ؟ وماذا كان سيقول بن غوريون، وغولدا مائير، ومناحيم بيغن، وهم يروْن نتنياهو أشبهَ بـ"كومبارس" رديء يلاحق ترامب؟

 

ماذا كان سيقول روزفلت أو ترومان أو آيزنهاور لو رأوْا ترامب يهرِّج؟

 

يجب أن يُقرأ البعدُ الأخير باعتباره مظهرًا لتدهور أميركا في موازين القوى، ومعها الكيان الصهيونيّ. فالإمبراطوريّات والدول حين تدخل مرحلةً من التدهور يصبح حكّامُها أقزامًا. ومن هنا أرى أنّ المشروع الذي قدّمه ترامب تحت مسمّى "صفقة القرن" وُلد في الفضيحة، وجاء مسخًا مرشَّحًا للفشل الذريع، بل لانقلاب السحر على الساحر.

فبدايةً، يجب أن نلاحظ أنّ ميزان القوى الدوليّ والإقليميّ لم يعد في مصلحة أميركا والكيان الصهيونيّ، كما كان عليه الحال منذ العام 1948 (بل منذ العام 1918 في حقيقة الأمر)، حتّى نهاية القرن العشرين. ولهذا يخطئ مَن يتصوَّر أن يكون مستقبلُ هذه "الصفقة" هو نفسه ما حدث بعد قرار التقسيم، أو القرار 242، أو اتفاق أوسلو. فأميركا لم تعد أميركا الأربعينيّات حتى نهاية القرن العشرين. لقد فشلتْ في حربها على أفغانستان سنة 2001 ، وعلى العراق سنة 2003، وهي الآن في ورطةٍ حقيقيّةٍ في هذيْن البلدين. ثمّ جاءت أزمةُ 2008 لتُطيح بالعولمة، قبل أن يأتي ترامب ليطلق النارَ على هذه العولمة. واليوم بات أمام الولايات المتحدة كلٌّ من روسيا والصين، وهما يتحدّيانها دومًا. أضف إلى ذلك صراعَ ترامب مع حلفائه الأوروبيّين داخل الأطلسيّ، ومع اليابان، وكوريا، وارتباكَ أميركا في تحديد استراتيجيّتها الدوليّة وموقع كلٍّ من الصين وروسيا فيها.

إقليميًّا، دخلت الإدارةُ الأمريكيّة، ومعها ترامب، في مواجهةٍ مع إيران، دونها خرطُ القتاد. والأمر يزداد سوءًا إذا ما اقتربنا من المشهد الداخليّ الأمريكيّ. فأميركا تواجه أزمةَ حكم مُربكة، عُبِّر عنها صراحةً من خلال صراع ترامب مع الدولة العميقة (الأمن القوميّ) ومجلس النوّاب، فضلًا عن الانقسام الشعبيّ الداخليّ.

وقد يخالفنا البعضُ في مدى تراجع أميركا في ميزان القوى. ولكنْ لا يجوز أن يختلف أحدٌ في أنّ أميركا اليوم ليست كأميركا بعد العام 1945 أو 2010.

أمّا الكيان الصهيونيّ، فتراجُعُ وضعه في ميدان القوى الإقليميّ لا يقبل جدالًا. لقد فقد حليفيْه الماضيَيْن، التركيّ والإيرانيّ؛ وخسر أربعَ حروب (2006، 2008 - 2009، 2012، 2014) بعد أن اندحر من جنوب لبنان سنة 2000 من دون قيدٍ أو شرط، وبعد ان انسحب وفكّك المستوطنات من قطاع غزّة سنة 2006 بلا قيدٍ أو شرط أيضًا. وهو يواجه اليوم قاعدة مقاومة عسكريّة تتحدَّاه يوميًّا في قطاع غزّة، ومقاومةً عسكريَّةً يُحسب لها ألفُ حساب في لبنان.

أمّا في خصوص ما يجري في إيران من تطويرٍ لبرنامج الصواريخ البالستيّ، والتكنولوجيا العسكريّة، فالكيان على غير ما كان عليه من تفوُّقٍ عسكريّ كاسح يَسمح له بشنّ الحروب ضدّ أيّ جيشٍ في البلاد العربيّة والإقليم من دون خوفٍ من النتائج. لقد أصبح يواجه ردعًا أفقده ذلك التفوُّقَ، وجعله يتردَّد في اللجوء إلى الحرب. وإلّا فكيف "يسمح" لغزَّة بأن تحفر الأنفاقَ وتتسلَّحَ بالصواريخ وتطوِّرَها؟ أو كيف "يسمح" بأن يصلَ حزبُ الله إلى ما وصل إليه من قوّةٍ عسكريّةٍ من دون مشهد حربٍ كاسحة كما فعل في العام 1967 أو 1982 أو ما بينهما، عندما لم يكن يحتمل أن تمتلك المقاومةُ ولو صاروخَ كاتيوشا واحدًا؟! ومن هنا، فإنّ التصوّر الذي يعتقد أنّ صفقة القرن ستُطبَّق وستنجح وسيجري الرّضوخُ لها تصوُّر خاطئ يبني على تجربة الماضي، ولا علاقة له بموازين القوى الراهنة.

يمكن أنْ أضيف هنا أنّ مستقبلَ القضيّة الفلسطينيّة، بل مستقبلَ المنطقة كلّها، سيتقرّر أيضًا، وبالإضافة إلى ما تقدَّم، بناءً على نتائج الصراع الدائر الآن بين أميركا وإيران. وهو صراع لا تميل رياحُه، عالميًّا وإقليميًّا، كما تشتهي سفنُ أميركا.

 

* أين ردّ الفعل الشعبيّ والرسميّ الفلسطينيّ؟ هل تعب شعبُنا الفلسطينيّ؟ هل بات العمل الفصائليّ مقونِنًا لأيّ ردّة فعل في الساحة الفلسطينيّة؟

- البداية إيجابيّة وواعدة، ولكنّ ردّة الفعل ككلّ ليست كافية. المطلوب تجاوزُ الصمود والرفض، بل تجاوزُ مسألة إفشال المشروع "صفقة القرن" نفسها. فالتحليل أعلاه حول موازين القوى الدوليّة يسمح بما هو أكثرُ من الرفض وإفشالِ المشروع؛ إنّه يسمح بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفّة الغربيّة! وأرى أنّ ثمّة إمكانيّةً جدّيّةً لذلك، خصوصًا إذا توحَّد الموقفُ الفلسطينيّ لإطلاق انتفاضةٍ شعبيّةٍ شاملة، في القدس والضفّة الغربيَّة، تصل إلى حدّ العصيان المدنيّ، ومحاصرةِ حواجز العدوّ وطُرق المستوطنات، والاعتصامِ بالشوارع لأسابيعَ وأشهرٍ لتحقيق الهدفيْن المذكورين: دحر الاحتلال، وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط، ومن دون طرح شعار "الدولة الفلسطينيّة" أو القبول بالتفاوض. فالاحتلال غيرُ شرعيّ ويجب أن يرحل، والاستيطان غيرُ شرعيّ (وجريمة حرب) ويجب أن يفكّك. ولا ينبغي للاحتلال أنْ يكافَأَ على احتلاله، أو يُعترَفَ بشرعيّته، أو شرعيّةِ أيّ مستوطَنة. والأممُ المتحدة نفسُها، وبإجماع دوليّ واسع (ما عدا أميركا ترامب)، تؤكّد أنّ الاحتلال غيرُ شرعيّ، وأنّ الاستيطان جريمة حرب. فالمطلوب ترجمةُ ذلك بوحدةٍ فلسطينيّة، وبانتفاضةٍ شعبيّة شاملة مصمِّمة على تحقيق هذين الهدفين.

وأحسب أنّ الشارع الفلسطينيّ بأكمله يستطيع أن يتّفق على ذلك. غير أنّ محمود عبّاس، على الرّغم من موقفه الإيجابيّ ضدّ الصفقة الإجراميّة، ما زال يدعو إلى التفاوض، ويرفض الانتفاضةَ الشاملة، ويطبِّق حتى الآن برنامجَ "التنسيق الأمنيّ" مع العدوّ... علمًا أنّ هذه السياسة أثبتتْ فشلَها، وجعلت الاحتلالَ والاستيطانَ ومصادرةَ القدس مسائلَ سهلةً يتعاطى معها الاحتلالُ كأنّه يدخل فندقًا بخمسة نجوم!

 

*ما هي الحلول العمليّة التي تقترحها لمواجهة صفقة القرن؟

- أظنّ أنّ الحلَّ الممكن هو أنْ يخرج عبّاس إلى أغلب دول العالم من أجل كسبها سياسيًّا ضدّ صفقة القرن، ويتركَ الانتفاضة في عهدة كلّ الفصائل، بما فيها حركة فتح، مع تسجيل "تحفّظه" عنها. فلقد جرَّب سياستَه وفشل، فليجرّبْ سياسةً أخرى! طبعًا، لا أتوقَّع أنْ يفعل ذلك للأسف الشديد، وإن كنت أتمنَّى أنْ تتطوَّر الأحداثُ لتفرض هذا الاتجاه.

وأخيرًا أتوقَّع، في الآتي من الأيام، صفيحًا ساخنًا تقف عليه كلُّ القوى. وسيكون، بإذن اللّه، في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيونيّ. وسيضع المنطقة أمام أوضاعٍ جديدة، وفرصٍ جديدة، تلعب في تقريرها شعوبُ المنطقة وقواها الحيَّةُ الدورَ الرئيسَ والمقرِّر!

بيروت