البعد الثقافي للنهوض العربي: مبادئ واقتراحات
05-07-2019

 

 

طلب إليّ الصديق العزيز محمد السعيد إدريس أن أكتب مقالًا في هذا الموضوع لمجلة آفاق عربيّة. أرجو أن أكون قد وُفّقتُ ولو قليلًا.

***

سال حبرٌ كثيرٌ في الكلام على مشاريعَ تهدف إلى النهوض العربيّ، وسال أقلُّ منه في الكلام على البعد الثقافيّ في هذا النهوض تحديدًا. قد يكون في بعض السطور أدناه تكرارٌ لشيء من ذلك الكلام، أو إعادةُ تدوير له بصياغةٍ مختلفة. غير أنّ الكاتب يحاول أن يقدِّم هنا اقتراحاتٍ يزعم أنّها تحظى بقابليّة التطبيق على المدييْن القريب والمتوسّط. لكنْ، قبل الشروع في ذلك، أقترحُ الإجابةَ عن سؤاليْن رئيسيْن:

الأول: هل يمكن النهوضُ الثقافيّ في معزلٍ عن النهوض السياسيّ والاقتصاديّ وغيرِهما من عوامل النهوض المتعدّدة؟ جوابي أنّ النهوض الثقافيّ لن يكون مكتملًا، بل سيكون متعثّرًا على أقلّ تقدير، في غياب العوامل الأخرى. ومع ذلك، فإنّ على المثقف العضويّ، الملتزمِ بهموم شعبه والبحثِ عن سُبُل رقيّه ومنْعتِه، أن يدلوَ بدلوه، فيعملَ على تعزيز النهوض الثقافيّ العربيّ، في معزلٍ عن انحطاط تلك العوامل، ولو كان ذلك الأمرُ عسيرًا؛ وشعارُه في ذلك قولُ غرامشي: "تشاؤمُ العقل تفاؤلُ الإرادة،" أو القولُ المنسوبُ إلى الإمام عليّ بن أبي طالب: "لا تستوحِشوا طريقَ الحقّ لقلّةِ سالكيه."

وفي تقديري أنّ تقاعُسَ كلّ طرفٍ في المجتمع، بمن في ذلك العاملُ في الحقل الثقافيّ، عن القيام بمسؤوليّاته، برميِ كلّ المصائبِ على الطرف "الآخر،" هو أحدُ أسباب تدهورنا الحاليّ على غالبيّة الصُّعد. وفي سياقنا هذا تحديدًا، فإنّ من الخطأ التلكّؤَ في السير على طريق النهوض الثقافيّ بذريعة هزيمتنا السياسيّة والعسكريّة أمام الاحتلال أو الاستعمار، أو بسبب وقوع بلادنا في قبضة أنظمةٍ بوليسيّةٍ عربيّةٍ كابحة. إنّ تخلّي بعض المثقّفين عن دورهم النهضويّ إنّما هو أحدُ أسباب التضعضع العربيّ العميم، لا نتيجةٌ له فقط.

 

أحدُ أسباب تدهورنا التلكّؤَ في السير على طريق النهوض الثقافيّ

 

السؤال الثاني: هل "المثقّف" الذي نعنيه هنا هو المتعلّم، الواسعُ الاطّلاع، أو الملِمُّ بألوانٍ معرفيّةٍ شتّى؟ جوابي هو النفي. إنّنا نميل هنا إلى تبنّي التعريف الغرامشيّ، الذي يَعتبر أنّ معيارَ تحديد المثقّف هو وظيفتُه في المجتمع، ومناصرتُه لمطالبِ فئاتٍ محدّدةٍ فيه. وعليه، وربطًا بموضوعنا بشكلٍ حصريّ، فقد يحتشد مجتمعُنا بآلاف الأكاديميّين "المختصّين" من دون أن يَخرجَ تأثيرُهم عن حفنةٍ ضئيلةٍ من طلّابهم، أو دائرةٍ بالغةِ الصغر من نظرائهم، فلا يمكن عدُّهم - في هذه الحال - من عوامل النهوض الثقافيّ بالمعنى الشامل الذي يفيد المجتمعَ أو الوطنَ أو الأمّةَ، ما لم ينخرطوا في أنشطةٍ أوسع، نقابيّةٍ أو سياسيّةٍ أو تعبويّةٍ أو قتاليّةٍ أو إعلاميّةٍ مثلًا.

بعد ذلك نقول إنّ النهوض الثقافيّ لأمّتنا يتطلّب، بشكلٍ خاصّ، تضافرَ العاملِين في حقولٍ وثيقةِ الترابط في ما بينها، وهي الثقافة والتربية والتعليم والإعلام والنضال السياسيّ. فـ"الثقافة" ليست "نتاجَ ذاتها،" إذا صحّ التعبير، حتى حين يتّصل تراثُها الأدبيُّ والعلميُّ والفلسفيّ، السابقُ والحاليّ، بوشائجَ قويّةٍ. النهوض الثقافيّ لأيِّ أمّةٍ من الأمم مرتبطٌ بالإعلام، المرئيّ والمكتوب والمسموع، وبالمدرسة، والجامعة، والبيت، والحركة السياسيّة. وما لم يَجْرِ ربطُ هذه الميادين جميعِها بعضها ببعض، فإنّ النهوضَ الثقافيّ لن يكون مكتملًا، وسيتعثّر هنا أيضًا، مثلما سيتعثّر ـــ كما ذكرنا ـــ إنْ لم يواكبْه نهوضٌ في ميادينَ أخرى.

***

في اعتقادي أنّ المهمّة الأولى والأساس أمام نهوضٍ ثقافيٍّ حقيقيٍّ في بلادنا هي زرْعُ قيمٍ محدّدة في النشء الجديد، وفي عموم الشعب. وأسارعُ الى القول إنّني لا أعني بكلمة "زرْع" ما قد يتبادرُ إلى الذهن من "غسيلِ دماغ" أو "حشوٍ" على طريقة أنظمةِ الاستبداد، ولا على طريقة الإعلام الأميركيّ الخبير بتسريب الأضاليل تحت ستارٍ خلّابٍ من الصور البرّاقة. الزرْع المنشود يأتي عن طريق أعمالٍ تربويّة - إعلاميّة - ثقافيّة، مشتركةٍ أو منفصلة، تستند إلى الإقناع المبنيّ على النقاش بالمعلومة والرقمِ والوثيقةِ والدراسة. أمّا أهمُّ هذه القيم الثقافيّة، وهي بالضرورة قيمٌ وطنيّةٌ وإنسانيّة، ولا مفرَّ لأيّ نهوضٍ من دونها، فهي الآتية كما أرى:

أولًا، النظر نظرةً موضوعيّةً إلى الثقافة العربيّة والتراث العربيّ والحضارة العربيّة. إنّ نظرةَ التحقير إلى الذات، وهي سائدةٌ لدى أقسامٍ كبيرةٍ من شبابنا اليوم، عاملٌ أساسٌ دون النهوض الثقافيّ العربيّ.

والحقّ أنْ لا أمّةَ تنهض إنْ نفرتْ من تراثها بقضِّه وقضيضِه، واشتهت الالتحاقَ بالغرب، وانتشتْ بجميع إنجازاته، متعاميةً عن مساوئه ومظالمِه ـــ  وعلى رأسِها الاحتلالُ، والاستعمارُ، والانتدابُ، والعنصريّةُ، ورُهابُ الإسلام، ودعمُ الصهيونيّة والاستبدادِ العربيِّ والإرهابِ التكفيريّ. وفي المقابل، فإنّ اعتبارَ قسمٍ آخر من شبابنا أنّ كلَّ مخزون الخير والجمال والفضيلة محصورٌ في الماضي وحده، وفي الإسلام فقط، بل في تأويلٍ محدَّدٍ لهذا "الإسلام،" يعوِّق أيَّ انفتاحٍ على الثقافات والحضارات الأخرى، كابحًا احتمالاتِ النهوض الثقافيّ. ذلك لأنّ النهوض الثقافيّ، في رأينا، يحتاج إلى تشجيع الفكر النقديّ تجاه مثلِ هذه الموضوعات الحيويّة. فالاغتراب، أكان عبر الإغراق في عبادة الغرب، أمْ عبر تمجيد السلف الصالح إلى حدّ "تكفير" كلّ الحضارات والثقافات الأخرى، لا يبني إنسانًا أو مجتمعًا قادرًا على النهوض الثقافيّ. والسبب هو أنّ هذا النهوض يحتاج إلى ثقةٍ بقدرة الذات على التطوّر، وإلى تقديرٍ حصيفٍ لعناصر الخير والقوّة في التراث، وإلى القدرة على نبذ الشعور بالدونيّة والاستلاب.

 

 اعتبار الخير محصورًا في الماضي يعوّق الانفتاح على الثقافات الأخرى

 

ثانيًا، محبّة اللغة العربية. هذه مسألة تتعلّق بالمسألة السابقة طبعًا، لكنّها جديرةٌ بأن نخصَّها بشيءٍ من التركيز. جزءٌ كبيرٌ من شعبنا للأسف، ولا سيّما مَن يعرف الفرنسيّةَ و/أو الإنكليزيّة، يَحتقر اللغةَ العربيّة، ويتماهى مع حضارة الأقوى ومع لغاته. هكذا باتت اللغةُ العربيّة، في ذاتها، عنصرَ انحطاطٍ ومذلّةٍ ونقصٍ في رأي كثيرين. لكنْ، كيف يمكن أن ننهضَ ثقافيًّا، وبشكل مستديم، ما لم نُنتجْ بلغتنا؟ كيف نتقدّم حقًّا إنْ لم "نبيِّئْ" إنجازاتِنا، خصوصًا العلميّة، في تربتنا المحلّيّة؟ وهل ما يحقِّقه علماؤنا أو مثقّفونا أو فنّانونا العرب بلغاتٍ أخرى ينعكس إيجابًا، بالضرورة، على بلادنا وناسِنا هنا والآن؟

ثالثًا، الحضّ على فكرة "الالتزام" بصالح المجتمع المحلّيّ أو العربيّ. هذه الفكرة تتراجع كثيرًا في مجتمعنا، وتُربَط بشكلٍ شبهِ دائم بـ"الإيديولوجيا" أو النسخة الفجّة من "الواقعيّة الاشتراكيّة" والجدانوفيّة و"البطل الإيجابيّ." غير أنّ الحقيقة هي أنّه يستحيل النهوضُ الثقافيّ إذا تنكّرْنا لفكرة "خدمة المجتمع،" أو نبذناها في وصفها إيديولوجيا تنتمي إلى عهودٍ بائدة.

رابعًا، الحضّ على رفض الاحتلال الصهيونيّ، والاستعمارِ الأجنبيّ، والاستبدادِ المحلّيّ، والإرهابِ التكفيريّ، والاستغلالِ الاقتصاديّ، فضلًا عن الهيمنة الذكوريّة، والعنصريّة، والشوفينيّة. فلا نهوضَ ثقافيًّا حقيقيًّا من دون وعيٍ عميقٍ لخطر هذه العناصر، وهو خطرٌ يتفاوت حدّةً بين مرحلةٍ ومرحلة، فيتقدّم أحدُ العناصر على العناصر الأخرى في هذه المرحلة أو تلك.

***

أمّا اقتراحاتي في شأن النهوض الثقافيّ فبعضُها خاصٌّ بعمل الدولة، وبعضها خاصٌّ بعمل المؤسّسات الخاصّة، وبعضُها مشتركٌ بين الجهتين. وهي الآتية:

أولًا، قيامُ الدولة بتشجيع متخرّجي المدارس على التخصّص في مجالات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، والإبداعِ السينمائيّ والتشكيليّ والأدبيّ والمسرحيّ ونحوه، وذلك بتوفير فرص عملٍ لهم بعد التخرّج من الجامعة. فلا ريْب في أنّ نهضتَنا الثقافيّة مرتبطةٌ، إلى حدٍّ بعيد، ببروز جيلٍ جديدٍ من المبدعين والمؤرِّخين والمتفلسفين والفنّانين وعلماءِ الإنسان والاجتماع وغير ذلك. ولا شكّ في أنّ كثيرين من متخرّجي مدارسنا إنّما يقصدون مجالاتِ إدارة الأعمال والطبّ والهندسة والتجارة حتى حين لا يستهويهم أيٌّ منها، لأنهم يدركون أنّ مجالاتِ العمل في ما قد يستهويهم فعلًا، كالأدب والتاريخ والفنّ والصحافة، غيرُ متوفّر، أو غيرُ مُجْزٍ، أو لا يكفي للقيام بأودِ الأهل أو العائلةِ العتيدة.

ثانيًا، وجوبُ تقوية اللغات الأجنبيّة لدى الطلّاب، بمختلف مراحلهم الدراسيّة. فمن البدهيّ أنّنا لن نخطوَ أشواطًا ثقافيّةً واسعةً ما لم نضفْ إلى قراءاتنا ومعارفِنا باللغة العربيّة قراءاتٍ ومعارفَ بلغاتٍ أخرى. الجدير ذكرُه هنا أنّ الترجماتِ إلى العربيّة ما زالت قليلةً نسبيًّا؛ ما يُلْزمُنا بقراءة المادّة بلغتها الأصليّة، وربّما بلغةٍ وسيطةٍ أحيانًا كثيرةً. وهنا واجبٌ نهضويّ مهمّ يقع على كاهل الحكومات العربيّة، يمكن أداؤه بدعم برامج تدريس اللغات الأجنبيّة داخل الجامعات والمعاهدِ المحلّيّة، أو عبر تقديم مِنحٍ صيفيّةٍ أو سنويّةٍ إلى الطلّاب للتمكّن من هذه اللغات في الخارج.

 

لن نخطوَ أشواطًا واسعةً ما لم نضفْ إلى قراءاتنا العربيّة قراءاتٍ بلغاتٍ أخرى

 

على أنّه ينبغي هنا عدمُ حصر مطلبنا بالفرنسيّة أو الإنكليزيّة وحدهما، كما قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى، بل إضافة لغاتٍ أخرى تدلُّ كلُّ المؤشِّرات على أنّها ستؤدّي دورًا طليعيًّا في المستقبل على كلّ الصعد، وخصوصًا اللغة الصينيّة.

ثالثًا، دعمُ الترجمة والمترجمين الأكْفاء. وهذا يحتاج إلى قناعةٍ رسميّةٍ عربيّةٍ راسخةٍ بأهمّيّة الترجمة الممتازة، لا كيفما اتفق، شأنَ عشرات الترجمات الرديئة التي تعجُّ بها سوقُنا العربيّة. فقد بات المترجِمون الممتازون باهظي الكلفة (قد تتجاوز كلفةُ ترجمة الصفحة الواحدة عشرين دولارًا)، وصارت ترجمةُ الكتب إلى العربيّة من دون ذلك الدعم الرسميّ شبهَ مستحيلة. والأمر ينطبق على الترجمة من العربيّة إلى لغاتٍ أخرى - - وهو أمرٌ ضروريٌّ لمزيدٍ من التثاقف؛ فالترجمة من العربيّة لا تعرِّف الخارجَ بثقافتنا وإبداعِنا فحسب، وإنّما تُسهم كذلك في تبديل الصورة الاستشراقيّة البالية عنّا كعربٍ وشرقيين. كما أنّ التثاقفَ يُسهم، عادةً، في تجديد أفكارنا، وتوسيعِ آفاقنا ـــ لكنْ شرطَ ألّا نصابَ بلوثة الانبهار الأعمى بحضارة الأقوى.

رابعًا، وجوبُ إرسال عددٍ من شبابنا إلى جامعاتٍ، معظمُها في الخارج، للتخصّص في ميادين الثقافة والكتابة، وضمنها الكتابةُ للأطفال والناشئة، شرطَ الالتزام بالعودة إلى أوطانهم وخدمتِها بما اكتسبوه من معارفَ وخبراتٍ هناك.

وهنا لا بدّ من تخصيص بعض الكلام على الكتابة الموجَّهة إلى هاتين الفئتيْن العمريّتيْن (الأطفال والناشئة). فلا ريْبَ في أنّ هذه الكتابة علْمٌ في ذاته، وليست ناجمةً عن محض عواطفَ و"حبٍّ" للأطفال والناشئة. ونهوضُنا الثقافيّ لن يأخذَ مداه الأوسعَ ما لم تتدرّبْ هاتان الفئتان على حبّ القراءة، خصوصًا الأدب الجيّد، وعلى مُثُلٍ عليا تتغلغل في نفوسهم وعقولِهم بطريقةٍ مرهفةٍ ورشيقةٍ وسلسة.

والأمرُ عينُه ينطبق على تدريب الشباب على الرسم للأطفال والناشئة، بما يُسهم في توسيع خيالِهم وتثقيفِ ذائقتهم؛ فالرسمُ الناجح المرافقُ للنصّ - كما لا يخفى عليكم - "كتابةٌ ثانيةٌ" لا مجرّدُ تعليقٍ عليه.

خامسًا، زيادةُ مِنح التفرّغ للكتّاب والمبدعين العرب لكي يُنجزوا أعمالَهم في وقتٍ أسرع، وفي مُناخاتٍ أهدأ وأكثرَ إلهامًا. هذه المِنح، التي تقدّمها حكوماتٌ أو أحزابٌ عربيّة، أسهمتْ سابقًا في ولادة رواياتٍ مهمّةٍ ودراساتٍ طليعيّة، في مصر ولبنان بشكل خاصّ. وهي اليوم حاجةٌ لا غنى عنها لقيام مشاريعَ فكريّةٍ وفنّيّةٍ وإبداعيّةٍ مهمّة.

سادسًا، وجوبُ اضطلاع الدولة العربيّة بتشجيع الإنتاج المكتوب والفنّ، مثلًا عبر شراء مئات النسخ من الكتب والمجلّات الثقافيّة المستقلّة (والأخيرة اندثرتْ تقريبًا ويا للأسف) وتوزيعِها على المكتبات العامّة والسفارات في الخارج، وعبر شراء اللوحات الفنّيّة ونشرِها في الأماكن العامّة والمؤسّساتِ الرسميّة، وعبر دعمِ المخرجين والمؤلِّفين المسرحيين والسينمائيين.

وفي هذا الصدد لا بدّ من الإشارة إلى تراجع دُور النشر العربيّة الجادّة، وهي إحدى أهمّ وسائل نهضة الثقافة العربيّة الحديثة. وهذا يستلزم إيلاءَها عنايةً خاصّةً، ولاسيّما في ظلّ سيادة الشعوذة، و"ثقافة" الوجبات السريعة، وطغيانِ المال النفطيّ بمعاييره الخاصّة، وزحفِ مال المنظّمات الأجنبيّة غير الحكوميّة ذاتِ الأجندات التطبيعيّة.

سابعًا، لزومُ بناء الدولة المزيدَ من المكتبات العامّة. ففي خضمّ الفقر المدقع الذي ينوء بثقله على ملايين العرب، يغدو شراءُ الكتب صعبًا لكثيرين، وتبرز الحاجةُ إلى مثل هذه المكتبات وسيلةً لا مفرَّ منها لبناء الثقافة العامّة والنهوض الثقافيّ.

لكنْ ما يفوق بناءَ هذه المكتبات إنّما هو تفعيلُها بالأنشطة (ورش العمل، والمحاضرات، واللقاءات مع المبدعين، وعروض الأفلام، والقراءات للأطفال، والرسم مع الأطفال،...). فكثيرًا ما يدخل المرءُ تلك المكتباتِ فلا يجد إلّا بعضَ متصفّحي الجرائد، في حين تتكدّس الكتبُ على الرفوف، لا يؤنِسُها سوى الغبارِ والعناكب.

على أنّه ينبغي أن نشدّدَ هنا على أنّنا، إذ ندعو الدولةَ إلى زيادة تدخّلها في دعم الكتابة والقراءة والفنّ والترجمة والمكتبات العامّة ودُورِ النشر والمسارح ومعارضِ الفنّ التشكيليّ، فذلك لا يعني أنّنا نوافق، ولو بأدنى قدْر، على أن تمارِسَ هذه الدولةُ أيَّ شكل من أشكال الضغط على حريّة الفكر والإبداع والبحث العلميّ "مقابلَ" ذلك الدعم. دعمُ الدولة لهذه المجالات، أو لأيِّ مجالٍ يفيد الناسَ بشكلٍ أعمّ، ينبغي أن يكونَ بلا أيّ مقابل، لأنّه من واجبات الدولة الحقيقيّة تجاه مواطنيها الذين يدفعون إليها الضرائبَ وينتخبون ممثِّليهم فيها، لا "دولةِ" المزرعة والعصابة والعائلة والطائفةِ والشلّة.

ثامنًا، محاربةُ الرقابة على الكتب والإنتاج الفنّيّ. فلا نهوضَ ثقافيًّا مع الحَجْر على الحريّات والبحث. وكلّما تحرّرتْ بلادُنا من سطوةِ الفقيه وهراوةِ البوليس، زادت إمكاناتُ نهوضها الإبداعيّ والبحثيّ والعلميّ. ومحاربةُ الرقابة، كما محاربةُ أشكالٍ أخرى من الكبت، مهمّةٌ ثقافيّةٌ ونقابيّةٌ وسياسيّة وحزبيّة وطلّابيّة ونسْويّة وشبابيّة، بل قد تَدخل أيضًا في مجال رجال الدين المتحرِّرين والمجتهدين.

على أنّنا نسارع هنا إلى التمييز بين الرقابة على الإنتاج الإبداعيّ من جهة، ومحاربةِ التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ وداعميه من جهةٍ ثانية. فمحاربةُ التطبيع، بفرض قوانين المقاطعة الصادرة عن جامعة الدول العربيّة، واجبٌ وطنيٌّ وقوميٌّ وأخلاقيٌّ وإنسانيٌّ وقانونيّ، وتحصينٌ للأمن الثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ العربيّ. وهي لا تتناقض على الإطلاق ـــ بل ينبغي أن تتكاملَ ـــ  مع خوض أشرس المعارك الداخليّة في وجه التكفير الدينيّ، والقمعِ البوليسيّ، والهيمنة الذكوريّة، والنزعات العنصريّة. وباختصار: يمكن، بل يجب، أن نمارس أقصى الانفتاح على الآخر في الداخل، وأقصى التشدّد على العدوّ في الخارج.

 

مقاومة التطبيع لا تتناقض مع خوض المعارك ضدّ التكفير والقمع

 

تاسعًا، وهو خاصّ بالأحزاب التقدّميّة العربيّة، وجوبُ زيادة "الجرعة" الثقافيّة داخلها. إنّ أحدًا من المطّلعين على واقع الأحزاب العربيّة، الفلسطينيّة واللبنانيّة في الحدّ الذي ندّعي معرفتَه على الأقلّ، لا يستطيع أن ينْكرَ أنّ منسوبَ الثقافة فيها قد تراجع إلى أدنى المستويات خلال العقديْن الأخيريْن. ولم يعد نادرًا أن تجد عضوًا حزبيًّا، يساريًّا أو قوميًّا مثلًا، تقتصر معارفُه على بيانات الأمين العامّ، ولا تتعدّاها إلى معرفة أوّليّات الاقتصاد السياسيّ والنظريّة السياسية المتبنّاة.

إنّ زيادة المنسوب الثقافيّ لدى الحزبيين قد تعزِّز من عوامل النهوض الثقافيّ العامّ في البلاد، ولا سيّما على مستوى العمل السياسيّ والجدلِ الإعلاميّ. وهي، أي الزيادة، فضلًا عن ذلك، قوّةٌ للحزب نفسِه، وترسيخٌ لبقاء العاملين فيه، لأنّها ترفدُهم بالحجج الإضافيّة تجاه الخصوم السياسيين، وتجاه ذواتِهم نفسِها إنِ اعتراها الشكّ. لكنّ الزيادة المذكورة قد تكون أيضًا مجالًا للتفاخر المَرَضيّ، أو مجالًا للغرق في الجدل الثقافويّ على حساب النضال اليوميّ والاستراتيجيّ.

عاشرًا، وهو خاصّ بالمدرسة، ضرورةُ زيادة القراءات خارج الصفّ، وإخضاع الطلّاب لمسابقاتٍ متنوّعةٍ تتناول قضايا لم يتطرّقْ إليها المنهجُ التربويُّ بالضرورة (كالإبداع الروائيّ، والنضال العالميّ ضدّ الاستعمار، وتاريخِ الحركات العمّاليّة العربيّة،...)، ومكافأة الطلّاب المبرّزين في تلك المسابقات. فـ"الثقافة،" عادةً، لا تأتي فجأةً، عند الثلاثين من العمر مثلًا، بل تُنمَّى منذ الصغر، وخصوصًا في سنوات الدراسة التكميليّة والثانويّة. وكلّما حسّنّا مستوى الثقافة لدى الطالب التكميليّ والثانويّ، زادت حظوطُ نهوضنا الثقافيّ لاحقًا على مستوى المجتمع والأمّة.

حادي عشر، وهو خاصّ بالمدرسة أيضًا، لزومُ إصلاح البرامج التربويّة، خصوصًا لجهة تعزيز آليّات التفكير النقديّ المستقلّ، بعيدًا عن التلقين والحفظِ الأعمى ("البصْم"). تريدون نهوضًا ثقافيًّا؟ إذًا ادعموا التفكيرَ النقديَّ منذ الصغر، وجنّبوا الطلّابَ (والأولادَ عمومًا) الانصياعَ للإملاءات و"المسلَّمات" بلا تفكيرٍ أو تحليلٍ أو إقناع.

ثاني عشر، لزومُ أن يعرِّف الأساتذةُ الجامعيون طلّابَهم إلى ما يتجاوز النصوصَ أو الكتبَ المقرَّرة في المساقات منذ سنوات طوال.

غير أنّنا سنقع، هنا تحديدًا، في معضلةٍ كبيرة، عاشها كاتبُ هذه السطور أثناء سنوات دراسته الجامعيّة الأولى، وهي أنّ بعضَ الأساتذة الجامعيين أنفسهم قد توقّفوا عن الاطّلاع على المعارف والكتب والنظريّات الجديدة، واطمأنّوا إلى ما قرأوه قبل عقود. فكيف نطلب إليهم أن يعطوا طلّابَهم ما لا يملكونه؟ إنّنا هنا في حاجة ماسّة إلى تثقيف الأستاذ قبل الطالب!

ثالث عشر، وهو مرتبط بالجامعة أيضًا، وجوب تعزيز دور مراكز الأبحاث في الجامعات العربيّة، وتدريب الطلّاب على معايير البحث الأكاديميّ السليم.

رابع عشر، محاربةُ القرصنة والتزوير. ومن أسفٍ أنّ هناك جهلًا فاضحًا في هذا المجال لدى غالبيّةِ المواطنين. فهم محقّون في أنّ تزويرَ الكتب أو قرصنتَها يوفّران على المواطن الكثيرَ من المال أو بعضَه، لكنّ ما يجهلونه هو أنّ التزويرَ والقرصنةَ يَحُولان دون طباعة الكتاب طبعاتٍ لاحقة؛ ما يُقلِّل من مردود الكِتاب على صاحبه وعلى الناشر معًا، ويؤدّي ـــ  من ثمّ ـــ إلى خفضِ الإنتاج الثقافيّ، وخفضِ إمكانيّة النهوض الثقافيّ نفسِه، لأنّ هذا النهوض يقوم على الإنتاج أيضًا، لا على القراءة وحدها!

القرصنة والتزوير، إذًا، ضربٌ للكاتب والناشر معًا. فهل هذا من مصلحة القارئ؟ أفلا يمكن اجتراحُ وسائلَ لا تضربُ فئةً على حساب فئةٍ أخرى، وترفع من مستوى الوعي والفائدة للفئات الثلاث (الكاتب والناشر والقارئ) جميعًا؟

هنا دورٌ حاسمٌ للدولة، يمكن أن يتجلّى في دعمٍ مزدوج: دعمِ المكتبات العامّة، ودعمِ دُور النشر. هكذا تنخفض قيمةُ الإنتاج، ويصبح في مقدور المواطن شراءُ الكتاب، بدلًا من اللجوء إلى القرصنة أو النسَخ المزوّرة.

خامس عشر، لا مندوحة من التفكير في إنشاء اتحاداتٍ مصغَّرة، مكوّنةٍ من دُور نشرٍ وُسطى وصُغرى، ذاتِ رؤًى سياسيّةٍ وفكريّةٍ ووطنيّةٍ وقوميّةٍ متقاربة، لكنّها لا تنشر ما يمكن أن يشكِّل تنافسًا تجاريًّا في ما بينها (مثلًا يمكن أن تتّحدَ دارُ نشرٍ معروفةٌ بالروايات مع دار نشرٍ معروفةٍ بالدراسات). هكذا تستطيع هذه الاتحاداتُ المصغّرة المقترحة أن توسِّع انتشارَها، وأن تتحدّى تكاليفَ معارض الكتب الباهظة وكافّةَ العراقيل المشابهة، وأن تفرضَ "سطوتَها" الرمزيّةَ في ساحةٍ تعجّ بموبقاتٍ مختلفة: من الاستزلام الثقافيّ للأنظمة العربيّة، والارتهانِ لأجندات المنظّمات غير الحكوميّة، إلى الانجراف في التشوّشِ الفكريّ الصادر عن وسائل التواصل الاجتماعيّ أو غيرها.

***

تلك كانت بعضَ الاقتراحات لنهوض ثقافيّ منشود. وهي برسم الجميع، أفرادًا ومؤسّساتٍ خاصّةً وأحزابًا وحكوماتٍ، وإنْ كنّا لا نعوّل كثيرًا على هذه الأخيرة.

 

بيروت

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.