حرمة الشامبو!
17-02-2017

 

لطالما عشقتُ البحر. وعلى الرغم من أنّني لستُ سبّاحةً ماهرة، فإنّني أحبّ الجلوسَ على الشاطئ والاستمتاعَ بألوان الغروب الخلّابة. أمّا رائحة الماء صباحًا فكانت تُشعرني بأنّني في عالم آخر مليء بالحياة والحريّة. ولأنني ترعرعتُ على بعد بضعة مئات من الأمتارمنه، فغالبًا ما كنت أراه من بعيدٍ كأنّه عاشقٌ يحرمني الاقترابَ من حضنه. وحين كنت طفلة، كنتُ أسأل والدتي، كلّما مررنا بالقرب منه، "أنستطيع النزول إلى البحر؟" فتأتي الإجابة دائمًا "لا"؛ فهي تخافه، مع أنّها وُلدتْ في بيتٍ تُطّل معظمُ نوافذه على البحر مباشرة.

لكنّ هذا الأمر تبدّل. كنتُ آنذاك في المدرسة، وكانت الأيّام الدراسيّة قيد الانتهاء. ذات يوم كنت أنتظر خلف باب المدرسة، كباقي الأيّام المعتادة عند انتهاء الدوام، عندما بدأ الرعد. هرع الأهالي يأخذون أطفالهم إلى منازلهم، لكنّ أحدًا لم يأتِ لاصطحابي.بقيتُ مع الناظرة بمفردنا. كانت الأصوات تعلو، وأنا أترقّب انهمارَ المطر، الذي لم تسقط منه نقطةٌ واحدة. رحتُ أرتجف من خوفي وأنا أتذكّر ما  كنتُ أسمعه دائمًا: هذا صوت "أمّ رعيْدة" التي تأتي لخطف الأطفال!

 سألتني ناظرةُ المدرسة إنْ كنتُ أعرف طريقَ المنزل. أجبتها أنّني أعرفه، لكنّ والدتي لا تسمح لي بالذهاب بمفردي، لذلك سأنتظرها هنا. كنتُ في الرابعة، أصغرَ أخوتي، وكانت أمّي تخاف عليّ كثيرًا، فتأخذني بنفسها إلى المدرسة. اشتدّت أصواتُ الرعود، فأمسكت المرأةُ بيدي وقالت:"هيّا بنا." سألتُها: "إلى أين تأخذينني...بيتي؟" فأجابت أنّ الوقت لا يسمح بذلك، وأنني سأرافقها إلى منزلها. بكيتُ. حاولتْ أن تطمئنني، وتؤكّد أنّها ستعيدني غدًا إلى المدرسة، وستأتي والدتي لتأخذني. لكنّي لم آبه لكلامها، وواصلتُ البكاء. بعد عشرات الأمتار من المدرسة، لمحتُ أخي الأوسط يهرول إليّ. ركضتُ وارتميتُ بين يديه. أخذني من المرأة وأسرع بي إلى المنزل، حيث كانت والدتي تنتظرني وتبكي أكثر منّي.

بعد قليل، بدأ الرعدُ يزمجر. لا بدّ من أن يكون ذلك اليومُ قد حفل بالأطفال المزعجين، فجاءت "أمّ رعيدة" لتقتصَّ منهم. لكنْ، فجأةً، هرعتْ والدتي تجمع بعض الثياب، وذهبنا جميعًا إلى "الملجأ."سمعتُهم يقولون إنّ الوضع صار خطيرًا. كان كثيرون قد سبقونا إلى هناك. كان الملجأ أشبهَ بمنزل كبير، ولكنّه تحت الأرض. نوافذُه في أعلى الجدار، يَظهر نصفُها فقط على طرف الشارع، ما يسمح بمرور بعض الهواء والنور.

طفق الرجال يجلبون الشمع استعدادًا لليل. كان التوتّر يعمّ المكان، والأخبارُ تصل تباعًا بما هو أسوأ. حتّى سمعتُهم يقولون إنّهم سيبقون هذه الليلة فقط في الملجأ، وإنّهم سيغادرون المدينةَ إلى مكانٍ أكثر أمنًا. وأخذ كلُّ واحدٍ يقترح منطقة. اقتربتُ من ابنة جيراننا وهمستُ لها:"حتّى أهالينا يخافون أم رعيدة!" ورحنا نضحك عليهم.

في الصباح الباكر، بعد ليلةٍ عامرةٍ بالأصوات المخيفة، ركب الجميعُ سيّاراتهم، وتوجّهنا مع بعض العوائل إلى منطقةٍ تبعد أقلَّ من ثلث ساعة. كان البحر ينظر إلينا على طول الطريق المؤدّي إلى هناك؛ فقد سمعتُ أنّنا سلكنا ذلك الطريق لتجنّب دخول المدينة.

وصلنا إلى مدرسة فرغتْ صفوفُها من الكراسي والطاولات. فرِحتُ للأمر، إذ لم أكن أتخيّل يومًا أن تأتي والدتي وإخوتي معي إلى المدرسة. هل سننام هنا أيضًا؟ كان الأمر رائعًا بالنسبة إليّ.

لم يكن هناك ما ننام عليه، ولا مانأكله. لم يكن ذلك يعني لي كثيرًا، لكنّي كنت أسمعُ والدتي وبعضَ النسوة يتحدّثنَ عنه. كنت ألعب مع الأولاد الذين أتوْا معنا، ونرسم بالطبشور على اللوح.

كنّا ننام مع أكثر من عائلة في المكان ذاته. ثمّ بدأوا بعد أيّام بإحضار بعض الأشياء:أوانٍ صغيرة للطبخ، غاز صغير يسمّونه "البابور." ثمّ تلقّينا بعض الفُرش للنوم عليها. أمّا المشكلة الكبرى فكانت الحمّامات والمغاسل التي توجد في باحة المدرسة، وبالطبع كانت النظافة قد أخذتْ منها إجازةً مفتوحة.

بدأتْ سعادتي تتراجع من اليوم الثاني لوجودنا في المدرسة، لأنّني لم أعرف النوم على الأرض، ولا تلفزيونَ لمتابعة أفلام الكرتون. حتّى لُعبي لم آخذ منها شيئًا. ولكنّ هناك ما أعاد البسمة إليّ في اليوم الثالث، يوم أخذتنا أمّي إلى البحر، الذي كان يبعد عشر دقائق مشيًا. لم أصدّق يومذاك أنّنا سننزل إلى الماء، فأنا أعرف خوفها منه. الأغرب أنّها أحضرتْ معها الشامبو!

 نزلنا على الصخور بكلّ حذر حتّى بلغنا الشاطئ ودخلنا قليلًا في الماء. غسلتْ أمّي رأسي، وأنا بكامل ملابسي، ثمّ رأسَ أخي الذي يكبرني قليلًا. أمّا إخوتي الأكبر سنًّا، فغسلوا شعورَهم بمفردهم، وراحوا يسبحون بكلّ حرّيّة. كان شكل البحر رائعًا وهو مليءٌ برغوة الصابون. كنتُ أراهم في الأفلام يلعبون بهذه الفقاعات في المغاطس، فصرتُ أقلّدهم: أرفع الرغوةَ عاليًا، وأرميها في الماء، وسرعان ما تختفي.

كنت سعيدة جدًّا بهذا الأمر. ولا أدري كيف باتت والدتي تحبّ البحر، فنذهب إليه كلَّ بضعة أيّام. غير أنّ الأمر لم يدم طويلًا، وعدنا إلى منازلنا.أمورٌ كثيرةٌ تغيّرتْ: ففجأةً، بات معظمُ النساء محجّبًا، والرجال بلُحًى طويلة. والدتي نفسُها صارت محجّبة.كنت أسألها ما الذي حصل، وهل سنعود إلى تلك المدرسة؟فتجيب بالنفي. واعتزلتِ الذهابَ إلى البحر نهائيًّا.

عادت الحياة شبه طبيعيّة بعد ذلك. وعدت إلى المدرسة في الموسم الثاني، ورحنا نخبر بعضنا بعضًا أين ذهبنا في تلك الأيّام. مرّ الوقت، وصرتُ في العاشرة من العمر. وذات يوم، كنّا نتلّقى درسًا في التاريخ يحكي عن هجرة أناسٍ أغارَ عليهم بلدٌ آخر. تذكّرت حين هُجّرنا من بيوتنا، وسألتُ المعلّمةَ عمّن أغار علينا في ذلك الوقت. لم تنبسْ ببنت شفة. كانت عيناها تشيان بالخزي والعار. ثمّ أردفتْ: "لم يهاجمْنا أيُّ بلد!"

بعدما كبرتُ وعرفتُ السر الذي لم يكن خافيًا على أحد. سافرتُ إلى بلد لا يعرف جمال البحر، ولم يُضطر أهله إلى الاستحمام فيه. وهجرتُ بحري الذي عشقته طويلًا، وصرتُ لا أراه إلّا مرّةً كلَّ عام، وكأنّه عقاب لي على ما فعلناه به حينما لوّثناه بالصابون. ولكنّي ما زلت أعشقُه، وما زالت رائحة مياهه تخترق رئتيّ لتعيد إليّ ذكرياتي، وما زلت حتّى يومنا هذا، أصرّ على عدم اصطحاب الشامبو معي إلى البحر.

بروكسل

امل الراغب

كاتبة لبنانية مقيمة في بروكسل. حازت بكالوريوس في المحاسبة. لها عدد من المقالات والمنشورات في الصحف العربيّة.