حماية النساء للشباب في الانتفاضة الأولى
24-12-2018

 

نجدةُ نساء فلسطين للشباب أثناء تعرّض قوات الاحتلال لهم لم تتوقّفْ على معرفةٍ مسبّقة، أو صلةٍ، أو قرابةٍ ما. كان يكفي أن تكون فلسطينيًّا تتعرّض له قواتُ الاحتلال كي تُنجدَكَ نساءُ فلسطين ليُخلّصنَكَ من بين أيديهم. وتدخّلُهنّ هنا لم يكن "رفْعَ عتب،" أو انفعالًا عابرًا، أو فعلًا رمزيًّا، بل كان عملًا نضاليًّا ينطوي على روح الفداء، وعلى كثيرٍ من القوّة والإبداع الفطريّ.

اليوم، عندما أتذكّر تدخّلَ النساء ذاك، أرى فيه تجسيدًا لمعنى الاحتضان الجماهيريّ لشباب الانتفاضة ــ ــ أكانوا مطارَدين (مطلوبين للاعتقال أو التصفية)، أمْ في حاجةٍ إلى مؤازرة فعليّة أثناء التحضير للأعمال النضاليّة أو للتمويه عليها.

***

كغيري من آلاف الشباب الفلسطينيّ، تعرّضتُ مرارًا، خلال الانتفاضة الأولى، للاعتقال والضرب والتنكيل على يد قوّات الاحتلال. وكثيرًا ما حظيتُ، في لحظاتٍ حرجة، بنجدة نساء فلسطين، حتى صرتُ أؤمن أنّهن ملاكي الحارس الذي يَظهر من حيث لا أدري. المجد والسلام لأمّ جميل العطابي، وجميلة القصاص، وأمّ أكرم، وأمّ خالد مزهر، وأمّ حسن العزّة، وغيرهنّ الكثير الكثير من المناضلات/الفدائيّات اللواتي كنّ درعَ الشباب، ورموزَ فِرَق التدخّل الوطنيّ النِّسْويّة.

***

 

محمد الحواجري، من مجموعة "مريم"، أكريليك على قماش، 2015

 

في مطلع العام ١٩٨٨، دخلتْ فرقةٌ من جيش الاحتلال إلى مخيّم العزّة، أحدِ مخيّماتٍ ثلاثةٍ في مدينة بيت لحم. أوقفوني، وأرادوا مني مسحَ الشعارات الوطنيّة عن الجدران، فرفضتُ. وما إنْ بدأوا بتهديدي بالضرب لإجباري على إحضار دهانٍ ومسحِ الشعارات، حتى تحلّق جمعٌ من نساء المخيّم حولي، في مجادلةٍ صاخبةٍ مع الجيش، وفي تدافعٍ جعل هذا الجيشَ يتراجع خطوات.

شكّلت النساءُ حاجزًا بيني وبين الجيش. وفي لحظةٍ مواتية، غمزْن لي بالفرار. فررتُ، فلاحقني. ركضتُ إلى أن اضطررتُ إلى دخول أحد المنازل في مخيّم العزّة. أقفلتُ الباب خلفي بعنف، فأدركتْ أمّ حسن أنّ الجيش قادمٌ ورائي. نهضتْ بخفّة، على الرغم من ثقلها وكِبر سنّها. قالت، وقد اشتدّ الطرْقُ على الباب:

ــــ لا تخف يمّا. نُطّ من شبّاك المطبخ ع بيت أبو الرائد بسرعة.

تسمّرتْ أمّ حسن أمام الباب، رافضةً السماحَ للجيش بالدخول. قاومتْ دفعَ الجنود وركلاتِهم، ولم يفلحوا في تنحيتها عن الباب، حتّى أيقنتْ أنّني قفزتُ وأصبحتُ في مأمنٍ منهم.

***

في مطلع أيّار ١٩٨٨، شاركتُ في مسيرةٍ جماهيريّة حاشدة انطلقتْ من مخيّم عايدة للاجئين باتجاه مخيّم الدهيْشة المحاصَر بعيْد استشهاد أحد أبنائه. وقبيل الوصول إلى الدهيشة، حاصرنا جيشُ الاحتلال، وأحكم الطوقَ حولنا.

أدرك الجميع أنّ المطلوب هو تمكينُ الشباب من الفرار. هنا، تحلقّتْ بعضُ النساء في درعٍ بشريّة في مواجهة الجيش، بينما شكّلت الباقياتُ مسْربًا يؤدّي إلى سورٍ كان على الشباب تسلّقُه بخفّة والتواري خلفه في الأحراش والأزقّة المتشعّبة.

ما إنْ فرّ عشراتٌ من الشباب، حتى اندفع الجيشُ بقوّة، مبعثرًا المسلكَ الآمن. لحظتَها، أدركتُ أنّ احتمالَ اعتقالي أصبح واردًا، وأنّ عليّ التخلّص من الشعْبة (النقّافة) وقِطَعِ الحديد التي كانت بحجم البنانير/جلول (كنتُ أستخدمُها بدلًا من الحجارة الصغيرة).

حين رفعتُ بلوزتي لأتخلّص من الكوفيّة، التي كنتُ أخفيها تحت ملابسي في ربطةٍ تمتدّ ما بين رقبتي وصدري وخصري على هيئة حرف x، لمحتُ جنديًّا يهوي عليّ بهراوته بكلّ قوّة. صددتُ الضربةَ الأولى بساعدي، ولكنّني هويتُ تحت ضرباتٍ متلاحقة.

أُغمي عليّ من شدّة الضرب والركل من عدّة جنود. صحوتُ في مكانٍ يبعد بضعة أمتار عن المكان الذي سقطتُ فيه. كان جنديّان يجذبانني من يدي وكتفي، وكان آخرون ينهالون على جمعٍ من النساء يُمسكن بقدميَّ ورجليَّ لتخليصي من الجيش. تظاهرتُ بأنّني ما زلتُ في حالة إغماء. تكاثرت النساءُ، واشتدَّ العراكُ مع الجيش، وتعالى الصياح، حتى أسقطني الجيشُ على الأرض، مكتفيًا بانتزاع بطاقتي الشخصيّة من جيبي.

حملتني النساءُ إلى سيّارة إسعاف كانت في الجوار. بعد التواري عن الجيش، طلبتُ من طاقم الإسعاف التوقّفَ لأنّني لا أريد الذهابَ إلى المستشفى خشية اعتقالي هناك؛ فقد اعتادَ الجيشُ خلال الانتفاضة الاولى مداهمةَ المستشفيات لاعتقال الشباب المصابين او لاختطافِ جثثِ الشهداءِ لمنعِ تشييعِهم في جنازاتٍ شعبيّة. حاول الطاقم أن يقْنعني بأنّني دامي الوجه والرأس، ومحطّمُ العظام، وبحاجةٍ إلى مستشفى. إلّا أنّني نزلتُ وفررت.

***

 

محمد الحواجري، من مجموعة "مريم"، أكريليك على قماش، 2015

 

في صيف ١٩٨٩، كنتُ مع صديقٍ عائديْن في سيّارةٍ مهلهلة، مليئةٍ بالمسامير والبراغي المثبتة في قِطع كاوتشك كنّا قد أعددناها لنثرها في شارع لتعطيل حركة المستعمِرين عليه. وإذ بجيش الاحتلال يفاجئنا على مدخل مخيّم الدهيشة. كان ضابطُ المخابرات المسؤول، الذي انتحل اسمَ "كريم،" يَعْرفنا بالوجه والاسم، إذ سبق أن اعتقلنا مرارًا. هلّلَ الضابطُ فرحًا وكأنّه أحرز غنيمةً، وسأل: "ماذا تفعلان هنا؟"

حاولنا إخفاءَ ارتباكنا بعدما أُنزِلنا من السيّارة تمهيدًا لتفتيشها. في هذه اللحظة، أطلّت امرأةٌ، عرفتُ فيما بعد أنّها تدعى أمّ خالد مزهر، وقالت: "كريم، ليش موقّف الشباب؟ انتَ ما بدّك تحلّ عنا؟!"

ذُهل كريم، بعدما كان فرحًا بالقبض علينا، وانشغل بعراكٍ لفظيّ مع أمّ خالد، التي كانت تتعمّد رفعَ صوتها، مستدعيةً الرفيقاتِ من نساء الحيّ. لم يطلْ انتظارُنا حتى احتشد الشارعُ بنساءٍ أخذن ينازعن الجنودَ؛ إلى أن انفضح وجودُ الجيش في المخيّم، فانسحب عسكرُه من دون تفتيش السيّارة.

***

نعم، ما أسعد حظّي، شأن آلاف الشباب الآخرين، بأمّ جميل العطابي، وأمّ حسن العزّة، وأمّ خالد مزهر، وأمّ أكرم، وجميلة القصاص، وغيرهنّ الكثيرات الكثيرات! وبئسًا لـ"سلام أوسلو" الذي غيّب فدائيّاتٍ لا نزال ندين لهنّ بحياتنا؛ "سلامٍ" يكاد يئِد مشهدَ احتضان الجماهير للمناضلين.

بيت لحم - فلسطين المحتلّة

 

نضال العزّة

كاتب فلسطينيّ مقيم في مخيم عايدة - فلسطين المحتلة.