حين تسلّل الحبّ إلى زنزانتي
31-10-2018

 

أعوامٌ تمرّ، وما زلتُ أحيا بين أسوار السجن ــ ــ ككثيرين مثلي ناضلوا لأجل قضيّتهم، فدفعوا أغلى ما يملكون.

تمّر سنواتُ الأسْر، وتعجز محاولاتُ استهداف قيمنا الإنسانيّة عن تمزيقنا، بل هي تجدّد فينا مشاعرَ التمسّك بالحياة والمحبّة. فإذا كانت الإجراءات الصهيونيّة الغاشمة سياسةً "طبيعيّةً" لعدوٍّ يبحث عن هزائمنا، فإننا في المقابل نبحث بكل ثقةٍ عن انتصاراتنا.

والنضال من داخل السجون، على تواضعه في الشكل، يحمل قيمةً كبيرة، من صنع إرادة الأسرى: كأن تبتسم في وجه عدوٍّ يتوقّع بكاءك، وأن تتمسّك بقناعاتك حين ينتظر تنحّيك.

***

على أنّ الانتصار الحقيقيّ الذي شعرتُ به مؤخّرًا يعود إلى تعرّفي إلى إنسانةٍ تمنّيتُ أن تكون شريكتي، بسببِ ما تحمله من صدقٍ ووفاءٍ وثقافة. الانتصار الحقيقي، في رأيي، هو أن تشعر بأنّ للحب مكانًا في قلبك، على الرغم من سجنك. فلا حدودٌ تقف أمام الحبّ، ولا قسوةٌ تحجب ضوءَه، ولا مسافاتٌ تقطع أوصال قلوبنا عمّن نحبّ ونهوى.

لم يكن اختياري لشريكة حياتي صمود السعدات نابعًا من حاجتي إلى علاقة عاطفيّة بعد سنوات الأسْر الطويلة الشاقّة (وقد يكون هذا السبب طبيعيًّا)، ولكن لقناعتي بأنّ ما نختاره يتجلّى في قدرة الحبيب على إقناعنا به من خلال ما يمتلكه من حب وقيم وثقافة. هكذا تتكامل تلك العناصرُ لتشكّل مشهدًا جميلًا لحبيبيْن.
كنتُ أقرأ في كلمات صمود حبًّا صادقًا، وأشعر بصدق كلماتها وهي تكسرُ حصارَ زنزانتي، وتهبني الحياةَ من جديد. في رسائلها كنتُ أسمع أصواتَ الحريّة، وقد دقّت بابَ سجني لتنقلَني إلى عالم الهواء والفضاء والشمس والنور، ولتقولَ لي: "هيّا بنا نَبْنِ غدَنا معًا في سعادةٍ وفرح." وها أنا اليوم أعدُّ الساعات واللحظات في انتظار زيارتِكِ الأولى، علّكِ تزرعين ساحاتِ السجن القاحلة ورودًا وسنابلَ، وتسقين جرحي وبُعدي بماءِ الياسمين. أنتظرُ اللقاءَ الأول، وقطرةَ الأمل الأولى، ولحظةَ النصر في وجع المظلومين.

***

أنظرُ إلى رفاقي من حولي يقاسمونني حدودَ زنزانتي الضيقة. إنّهم الآن يفرحون لفرحي، ويرقصون، ويغنّون، ويوزّعون الحلوى، ويقبّلونني مهنّئين الحياةَ بعودتها سالمةً إليّ، سائلين باستهجان:

"كيف استطاع الحبُّ أن يتسلّل إلى زنزانتك المظلمة على الرغم من القيود والأسلاك وكلاب الحراسة يا عاصم؟"

ولا أتردّد في الردّ بأن لغتي هي لغة الصبر، وأنّ "صمود" معجزتي. وإذا استطاعوا أن يأخذوا منّا الأرضَ والأعمارَ والأجساد، فلن يستطيعوا أن يأخذوا منّا إرادةً تتربّع فوق قمّة المستحيل.

***

صمود هي شريكة الأمل والسعادة والمعاناة. هي التي تُسند ظلّي لتهوّنَ وحشةَ الغربة وقسوةَ الأيّام. هي الأغنيات التي تتحدّث عن شمسٍ دافئةٍ تتسلّل إلى زنزانةٍ ملؤها البردُ القارص. هي الأناشيدُ التي قاتلنا من أجلها كي نحيا بشغف، وكي نستمرَّ غيرَ آبهين طول الطريق.
 

***

صمود هي حكايتي، التي سأرويها متى أشاء، وأينما أكون. يربطني بها صوتُ الناي البعيد، ورائحةُ القهوة في الصباح، وصوتُ فيروز. هي ميلادُ الحياة، وأحلامٌ كثيرةٌ وجميلةٌ نحرسها من جنون الطغاة. وسيظلّ الموت يسائلنا كيف تمكّنّا من الهروب من مصيدته، فنصيح في وجهه:

يا أيّها الأحمق! ظلُّ الحياة أكبرُ منكَ ومن سجّانك. أين أنتَ من حياةٍ تتماهى بالأمل، بالسعادة، بالصبر، فتشبهُ سيلانَ ضوء القمر نحو قوافلَ تشقّ دربَها إلى بدايات جديدة؟!

***

خارج أسوار السجن، على أعتاب الحبيبة، أجلس. أراقبُ نشيد الهديل للشهداء الذين زرعوا النرجسَ على فوّهة البنادق. يناديني صوتُ الأحبّة من بعيد. أسمعُ صداه مردِّدًا:

"نحن إلى جانبكَ، بعدما أنهكتْك لوعةُ الغياب، وجفّت مياهُ النبع في الوادي خلف سجنك. نُورِثُكَ مَن أحببتَ، لتجدَ في ملامحها حبَّنا وصوتَنا ودمعَنا وخوفَنا في وجه مكيدة الحياة. فهيّا يا حبيبنا، ازرعِ الحبَّ جداولَ، كي ينبتَ شعرًا في مديح سيّدة الكلام."

صمود صبرٌ، ومدرسةٌـ ووعدٌ مشرق. وهي الدربُ الوحيدُ الذي سأسلكهُ.

سجن النقب (فلسطين)

عاصم الكعبي

أسير فلسطينيّ. من مواليد مخيّم بلاطة، في مدينة نابلس.  39 عامًا. محكوم بالسجن 18 عامًا، قضى منها 16 عامًا. اعتُقل في 24 نيسان 2003 بعد أن طاردته قواتُ الاحتلال ثلاث سنوات بذريعة الالتحاق بالأذرع اليساريّة لمقاومة الاحتلال والنشاط العسكريّ في فعّاليّات الانتفاضة الثانية.