دور الحركة الوطنيّة الأسيرة في الانتفاضة الأولى*
27-12-2018

 

 لا يمكن عزلُ الدور الطليعيّ الذي تؤدّيه حركةٌ اجتماعيّة أو ثوريّة عن نشأتها وتكوينها وديناميّاتها الداخليّة. والحركة الفلسطينيّة الأسيرة ليست تكوينًا معزولًا عن نبض الشارع، ولا عن الحالة النضاليّة بكل مكوِّناتها وتعبيراتها ، بل هي طليعةُ هذه الحالة وأحدُ إفرازاتها المباشرة.

منذ بدايات الأسْر الأولى، عبّر الأسرى عن هويّتهم النضاليّة. واستنادًا إلى تعريفهم لذواتهم ولمعنى وجودهم، فقد بنوْا أطرًا داخليّةً وهرميّةً تسهم في التكيّف مع واقع الاعتقال من جهة، وتهيِّئهم للانعتاق منه.

هذا البناء وَجد في الانتفاضة الأولى فرصةً للالتحام مع الانفجار الشعبيّ، الذي اعتُبر مصدرًا للأمل في انبعاث الثورة الفلسطينيّة من جديد. وهنا جاءت اللحظة التي توقّف الأسيرُ فيها عن أن يكون محضَ "أسير" يقبع خلف الجدران، ليشارك في النضال الجديد، بل ليتصدّرَ المشهدَ، انطلاقًا ممّا يمثّله الأسرى من ثقلٍ معنويّ ومن مكانةٍ تصل إلى حدّ تقديس الجماهير لهم.

تجسَّدَ هذا الالتحام في تفاعل الأسرى مع الانتفاضة على المستويات كافّةً، انطلاقًا من سجن نفحة، الذي اعتُبر أهمَّ السجون بحكم وجود عدد كبير من قادة الحركة الأسيرة وقُدامها فيه. وتحوّلت الانتفاضة إلى حدثٍ داخليّ، وباتت جزءًا من نشاط الأسرى اليوميّ ــ ــ الثقافيّ والنضاليّ والأدبيّ.

***

يمكن تقسيمُ حالة التماهي بين الأسرى والانتفاضة الى شكلين:

ــــ داخليّ، موجَّه إلى الأسرى داخل السجون. وهدفُه استلهامُ الروح الثوريّة التي أشاعتها تلك الانتفاضة. وتمثّل ذلك في تشكيل لجانٍ من شتّى الفصائل، مهمّتُها: رصدُ بيانات الانتفاضة التي تُصدرها "القيادةُ الوطنيّةُ الموحّدة،" وتسجيلُها، وتعميمُها على الأسرى، وإجراءُ نقاش سياسيّ حولها، وتحليلُ مضمونها، واستقراءُ مستقبل الانتفاضة من خلالها.

هذا النشاط توسَّع ليصبح اليومُ التاسعُ من كلّ شهر (ذكرى مرور شهر جديد من عمر الانتفاضة) يومَ إضرابٍ شاملٍ في السجون، يُكرَّس للحديث عن الانتفاضة ودورِ المرأة والأشبال فيها. وقد نجم عن ذلك صدورُ مجلّاتٍ أدبيّة وسياسيّة داخل السجون، حفلتْ بالقصائد التي تتغنّى بالانتفاضة وبرموزِها (شهداء، حجر، نقّيْفة، مقلاع،...)، واحتشدتْ بالزجل الشعبيّ، وبالتحليلات السياسيّة، والقصص. وهذا ما شكّل انطلاقةً أدبيّةً حقيقيّةً داخل السجون، ورفع الحالةَ الثقافيّة والتعبويّة لدى الأسرى؛ كما أنّه هيّأ الأسرى الذين شارفوا على إنهاء أحكامهم لأداء دورٍ تثويريّ في الانتفاضة حالَ الإفراج عنهم.

 

ميسرة بارود، "خيال مجنّح"، حبر على ورق فبريانو، 2016.

 

الجدير ذكرُه أنّ انقطاعَ الأهل عن زيارات الأسرى بسبب الوضع الأمنيّ زاد من تقارب الأسرى فيما بينهم. فظهرت الصناديقُ المشتركة[1] بين مختلف الفصائل، وسادت روحٌ من التسامي على الخلافات ركّزتْ على ضرورة صبّ الجهود في خدمة الانتفاضة. وقد ازداد هذا التقاربُ مع امتداد زمن الانتفاضة سنةً بعد سنة، وتحوّلتْ ذكراها السنويّةُ إلى مهرجاناتٍ مشتركة تقام في ساحات السجون، وتُلقى فيها الكلماتُ الحماسيّةُ والسياسيّة. كما أنّ استشهادَ قادة كبار، مثل أبي جهاد الوزير، تحوّل إلى حدثٍ وطنيّ داخل السجون، تفاعل الأسرى معه، وكتبوا عنه، مستذكرين مآثرَ أولئك الشهداء ودورَهم في قيادة نضال شعبنا.

ــــ خارجيّ، ونعني به دورَ الأسرى الموجَّه إلى خارج السجون، وإلى الانتفاضة تحديدًا.  فانتقالُ الثقل الكفاحيّ الفلسطينيّ، بعد بيروت بشكل خاصّ، إلى الداخل الفلسطينيّ (الضفّة والقدس وغزّة)، الذي هو ميدانُهم الذي خبروه جيّدًا، أعطاهم دورًا أوسعَ من السابق، ورفع من نسبة اهتمام فصائلهم بهم وتفاعلهم معهم. وهذا الدور تجسّد في قيام اللجان الفصائليّة بتوسيع نشاطها خارج السجون، وبالتواصل مع لجان المقاومة الشعبيّة. فأصبح كلُّ أسير ملزَمًا بتسريب رسالةٍ إلى القوى الضاربة في منطقته، تحتوي على تعليماتٍ ونصائحَ إرشاديّة وتحليلات سياسيّة. هذه الرسائل تلقّفتها القوى واللجانُ الشعبيّة خارج السجن بحماس وترحاب شديديْن. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ فكرة "التعليم الشعبيّ،"[2] عند إغلاق الاحتلال للمدارس، كانت من إبداع الأسرى، شأن فكرة تشجيع "الاقتصاد المنزليّ."[3]

هذا وقد بلغتْ حالةُ التداخل بين الأسرى والخارج حدَّ أنّ الفصائل في الميدان باتت تلجأ إليهم لحلّ خلافاتها ولتذليلِ العقبات التي تعترضها! وأصبح كلُّ أسير محرَّر يزوَّد بشيفرةٍ وكلمةِ سرٍّ تربطه مباشرةً بقيادة الانتفاضة في منطقته. ومع ازدياد أعداد الشهداء تكفّل الأسرى بجمع تبرّعاتٍ لعائلاتهم، مصدرُها مؤسّساتٌ محلّيّةٌ وعربيّة. كما عمدوا إلى مراسلة أفراد تلك العائلات، باسم الحركة الاسيرة، من أجل رفع معنويّاتهم. بل هم أطلقوا أسماءَ الشهداء على الغرف والخلايا والساحات داخل السجون.

***

 

ميسرة بارود، "ذاكرة جريحة"، حبر على ورق فبريانو، 2015.

 

لقد حرّرت الانتفاضةُ الأولى الأسرى من الحيّز الضيق الذي أراد الاحتلالُ حشرَهم فيه، ووضعتْهم في قلب المواجهة معه. وهو ما انعكس إيجابًا على جوانب حياتهم جميعِها، وأكسب الانتفاضةَ عنصرًا داعمًا أسهم في تأجيجها. وهذا ما لم نشهدْه في الانتفاضة الثانية (صيف العام 2000)، ولا في الهبّات والموجات التي تبعتْها، وذلك يعود إلى أسباب موضوعيّة وذاتيّة وتاريخيّة، أبرزُها الآتية:

 1) سنوات أوسلو العجاف (1993 ــــ...) التي ألقت بظلّها الثقيل على الحركة الأسيرة، وأدّت إلى إضعافها، وذلك بعد تجزئة الأسرى إلى فئات خلقتْها التصنيفاتُ الإسرائيليّة في عمليّات الإفراج المشروطة: بين "مؤيِّد" و"مُعارض،" وبحسب التهمة ("أيدٍ ملطّخة بالدماء وأخرى غير ملطّخة")، وبين "ضفّة" و"داخل" و"قدس"...الخ.

كما أنّ تلك السنوات أدّت إلى خلق تفاوتٍ سياسيّ بين الفصائل، وإلى تراجع دورها، على حساب تزايد قوّة الحركات الإسلاميّة داخل السجون ــ ــ وهذه حركات حملتْ رؤية وثقافة مختلفتيْن، ولم تتشبّع بتقاليد الحركة الأسيرة وطُرق عملها. وهذا برز بشكل واضح في فترة الانقسام بين الضفة وغزّة.

2) أعداد أسرى الانتفاضة الثانية، إذ كان عند اندلاع الانتفاضة بضع مئات.

3) طبيعة الانتفاضة الثانية، وذلك لكونها عنفيّةً في الأساس، لا شعبيّةً، خلافًا للانتفاضة الأولى.

4) وجود السلطة الفلسطينيّة في مرحلة الانتفاضة الثانية.

 إلّا أن ذلك لا ينفي وجودَ طاقة ثوريّة هائلة كامنة داخل الحركة الأسيرة الحاليّة، تؤهّلها للعب دور حيويّ في المراحل النضاليّة القادمة. ومردُّ ذلك هو تناقضُ تلك الحركة الجوهريّ مع المحتلّ، وتضرّرُها المباشرُ من وجوده.

رام الله - فلسطين المحتلّة

 

* المعلومات الواردة في السطور أعلاه تستند إلى تجربتي الخاصّة، وإلى ما قدّمه مؤيّد عبد الصمد ("الشيص") من معلوماتٍ مهمّةٍ بحكم أقدميّته ووجوده في سجن نفحة في تلك الفترة.

[1] المبالغ القليلة التي كانت تصل الأسرى من عائلاتهم أو فصائلهم، أو ما كانت تصرفه لهم إدارةُ السجن من موادَّ عينيّة، كانت تُجمع في صناديق فصائليّة وتُوزّع بشكل جماعيّ وعادل.

[2] تعمّد الاحتلالُ إغلاقَ المدارس والجامعات، وذلك في إطار عقوباته الجماعيّة لوأد الانتفاضة، وفي سياق سياسة التجهيل ضد الأجيال الصاعدة. فكان الردّ تشكيلَ لجان تعليم شعبيّ في المنازل والساحات العامّة.

[3] نمط من الاقتصاد جرى اللجوءُ إليه في الانتفاضة الأولى من أجل تعزيز مقاطعة منتجات الاحتلال والاكتفاء الذاتيّ. وهو قائمٌ على الزراعة، وتربية المواشي، ودعم الإنتاج المحلّيّ، واستصلاح الأراضي.

عصمت منصور

أسير محرّر وروائيّ. أمضى في الاعتقال ٢٠ عامًا. صدر له خلال اعتقاله: سجن السجن (رواية)، وفضاء مغلق (مجموعة قصصيّة)، والسلك (رواية).