د. إسماعيل سكّريّة لـ "الآداب": مافياتُ الصحّة وتجّارُها
24-01-2020

 

 

أجرت الحوار عُبادة كسر.

على هامش الحَراك الشعبيّ اللبنانيّ المتواصل منذ 17/10/2019، أجرت الآداب حوارًا مع الدكتور إسماعيل سُكّريّة، تناول فيه واقعَ القطاعَ الصحّيّ في لبنان. توزّعت المقابلة على خمسة محاور: تجربته الشخصيّة في مواجهة الفساد، ومن ثمّ رؤيته المحدَّدة إلى موضوع الدواء، فموضوع صندوق الضمان الصحّيّ، فوزارة الصحّة، فالمستشفيات الحكوميّة.

والدكتور سكّريّة طبيبٌ متخصّصٌ في أمراض الجهاز الهضميّ والمناظير في المركز الطبي للجامعة الاميركية. انتُخب نائبًا لدورة 1996 - 2000، وفاز منفردًا عن محافظة البقاع. وانتُخب للمرة الثانية لدورة 2005 - 2009 عن منطقة بعلبكّ - الهرمل، حاصدًا الرقمَ الأعلى. وهو رئيسُ الهيئة الوطنيّة الصحّيّة الاجتماعيّةـ من مؤلَّفاته: الدواء: مافيا أمْ أزمة نظام؟ والحقّ في الصحّة في لبنان؛ والصحّة: حقٌّ وكرامة.

***

أوّلًا: في التجربة

* د. إسماعيل، كيف تصف تجربتَك الشخصيّة في مواجهة الفساد في الملفّ الصحّيّ؟

- تجربتي منذ أيّار 1997 في مجلس النوّاب غنيّة ومريرة: فقد واجهتُ نظامًا يستبيح كلَّ شيء، بما في ذلك الصحّة، وكشفتُ الكثيرَ من ملفّات الفساد بأخطر أشكالها.

في أيّار 1997 تقدّمتُ بأوّل سؤالٍ نيابيّ عن "المكتب الوطنيّ للدواء." واختتمتُه بالقول: "أيّها الزملاء، لا نستطيع، ولا يحقّ لنا، أن نتعاطى مع القطاع الصحّيّ كما نتعاطى مع زفت وزارة الأشغال أو أيّ ملفٍّ آخر!" ومرادُ القول أنّ سياسيّي لبنان، بشكلٍ عامّ، لا يحترمون عنوانَ الصحّة، ولديهم جهلٌ به. هذا ما لمستُه في مجلس النوّاب، ومع الحكومات، في انهزامها أمام شركات الدواء وكبارِ المستورِدين.

خذي مَن تولّوْا ملفَّ وزارة الصحّة منذ الاستقلال. ستلاحظين أنّ هذه الوزارة كانت دائمًا في خدمة المحاصصة السياسيّة الطائفيّة، بدلًا من أن تكون وزارةً أساسيّةً وسياديّة. تجربتي هذه عرّضتي للتهديد، و...

* وما الذي حماكَ حتى اللحظة؟

- إيماني بالموضوع الذي أقاتلُ من أجله. لقد تعرّضتُ للتهديد مرّتين. في الأولى نُقل إليّ التهديدُ بطريقةٍ "دبلوماسيّة." وفي الثانية تلقّيتُ اتصالًا يهدّدني بشكلٍ مباشر. الرئيس ميشال عون قال لي قبل عام: "أستغربُ أنّكَ لا تزال حيًّا!"

مرّةً واحدةً أحسستُ بالخوف. كان ذلك في 27 أيّار 1999، أثناء حكم الرئيس إميل لحّود، والمدّعي العام عدنان عضّوم، والقاضي خالد حمّود. فقد اقتُحم مكتبُ المدّعي العامّ، بعد أنْ تقدّمتُ بسؤالٍ نيابيّ حول الدواء. يومها، أعطى الرئيس لحّود "التفتيشَ المركزيّ" إشارةَ بدءِ التحقيقات، التي توسّعتْ وطاولتْ معظمَ ركائز القطاع الصحّيّ، وأنتجتْ ملفًّا يحمل الرقم 6/6/98. لكنّ الأمر انتهى باقتحام قصر العدل، وسُحب الملفّ الذي شكّل الهجمةَ الأساسَ الموجَّهة إليّ، إثر لقاءٍ جمع محسن دلّول ورفيق الحريري وعبد الحليم خدّام!

بعد أسبوعٍ من أوّل سؤال نيابيّ، جاء شخصٌ إلى عيادتي، وسلّم سكرتيرتي ملفًّا. وغادر من دون ذكر اسمه، تاركًا تعريفَه الشخصيّ داخل المغلّف الذي تضمّن ملفّاتٍ غنيّةً بوثائقها وإحصاءاتها.

سأضربُ لكِ مثالًا آخر كي يتّضح دورُ الشرفاء في كشف الفساد الصحّيّ. فقد تلقّيتُ يومًا اتصالًا من صيدليٍّ من الضاحية الجنوبيّة لبيروت، ثمّ زارني في مكتبي وشرح لي كيف يُزوَّر الدواءُ في السوق اللبنانيّة: كأن يُكتبَ عليه أنّه "صُنع في فرنسا" في حين لا تُصنِّع فرنسا هذا النوعَ من الدواء، أو "صُنع في ألمانيا" في حين أنّ الأخيرة أقفلتْ مصانعَ ذلك الدواء منذ خمسين سنةً. لكنني أتأكّد دائما من مصداقيّة الملفّات والوثائق قبل أن أباشرَ مهمّتي.

* وما الذي يدفعكَ إلى ركوب هذا المركب الخطر؟

- أوّلًا، تمسّكي بأخلاقيّتي المهنيّة ومبادئي وتربيتي. ثانيًا، استمررتُ في عملي هذا من خلال احتضان الناس، و"فقراءِ القوم" كما يسمَّوْن؛ وهم إرثي الأكبر، وهم الذين حفظوا صورتي على شاشات التلفزة ومَدُّوني بالدعم المعنويّ. ثالثًا، هناك الجنودُ المجهولون، "مَخْزنُ المعلومات،" الذين تطوّعوا بتقديم المعلومات تلبيةً لنداء الضمير الكامن في قلوبهم. هؤلاء مِن أعزّ مَن رافقوني في هذه المعركة، وتوزّعوا على العديد من المواقع الصحّيّة، خصوصًا في وزارة الصحّة و"التفتيش المركزيّ" و"ديوان المحاسبة" والمراكزِ الصحّيّة. ليتني أستطيع تسميتَهم فردًا فردًا، لكنّ حمايتَهم هي مِن أقدس واجباتي. رابعًا، احتضانُ الإعلام لي، إذ لعب هذا الإعلامُ دورَ المحرِّض في ترسيخ قضيّة الدواء في ذهن الناس ووجدانهم.

***

ثانيًا: في ملفّ الدواء

* ننتقل إلى ملفّ الدواء. هل سعرُ الدواء أحدُ مؤشِّرات الفساد الصحّيّ في لبنان؟

- بالتأكيد. فكارتيل الدواء هو الذي يَفرض السعرَ على الوزارة. وقد يصل سعرُ الدواء إلى خمسة أضعافِ ما ينبغي أن يكونَ عليه، ما يجعل القطاعَ الصحّيَّ تجاريًّا في الدرجة الأولى. وتتمظهر تجلّياتُ الذهنيّة التجاريّة في "المتمِّمات الغذائيّة" التي لا تمتلك مشروعيّةً طبّيّةً لازمة. ولقد أدّى بيعُ الدواء أضعافَ سعره الحقيقيّ إلى ذهاب مليارات الدولارات من جيوب اللبنانيين إلى جهاتٍ لا تستحقّها.

* وماذا عن نوعيّة الدواء؟

- هنا المسألةُ الأخطر، إذ ثمّة علاماتُ استفهامٍ كثيرةٌ حول هذه النوعيّة منذ التقرير الصادر عن الطبيب الهولنديّ جورج كولوس، بدايةَ التسعينيّات من القرن الماضي، ومفادُه أنّ "المختبر المركزيّ" لا يستوفي الشروط. وقد هُدم لاحقًا سنة 2008.

والحقّ أنّني، في 20/7/1998، زرتُ هذا المختبرَ، التابعَ لوزارة الصحّة، وهو المختبرُ المعنيُّ بفحص الأدوية في لبنان، فوجدتُ نفسي في مبنًى مهجور. ولطالما أكّدتُ، أمام المجلس النيابيّ وخارجه، أنّ هذا المختبر معطَّل بقرارٍ من مافيا الدواء؛ فلو كان فاعلًا، لسُحب نصفُ أدوية السوق اللبنانيّة من التداول، بسبب انتفاء الفاعليّة العلاجيّة أو الحاجة إليها.

* ما هي أبرزُ فضائح الدواء في لبنان، دكتور؟

- هناك 1200 قضيّة فضائحيّة في ملف رقم 6/6/98 (أدوية واستشفاء في لبنان). تخيّلي الرقم! لكنّ أكثرَ ما أثار اشمئزازي هو استيرادُ حقنٍ لتقوية الحَمْل  Pregnyl وتوزيعُها على إحدى مؤسّسات العجزة. عجزة... ويَحْملون؟! الخطر في مثل هذا الملفّ لا يقتصر على المادّيّات، وإنّما يتجاوزُه إلى المعاني الأخلاقيّة أيضًا، بل ينبغي أن يُسقِطَ الطبقةَ السياسيّةَ أيضًا. بالمناسبة، قال لي حبيب صادق ذاتَ يوم إنّ ما أقوم به يَحْفر في تركيبة النظام، ويُظْهر حقيقةَ كارتيل الدواء في لبنان.

* وما هو هذا الكارتيل؟

- هو كارتيلٌ سيطر، منذ الخمسينيّات، على مجلس النوّاب والحكومات. فالمسؤولون عن وكالات الأدوية هم مَن يموِّلون جزءًا كبيرًا من الحملاتِ الانتخابيّة للعديد من النوّاب! لذا لم يكن مستغرَبًا، بعد أن قدّمتُ مساءلتي إلى مجلس النوّاب في 30/7/2000، أن يقول رئيسُ مجلس النوّاب نبيه برّي: "لقد استطاعت مافيا الدواء أن تعرقل المجلسَ على مدى عقود."

أمّا عن الفضائح التي سألتِني عنها، فمن المهمّ أن يعرفَ اللبنانيون الدركَ الأسفلَ الذي وصل إليه بعضُ السياسيين والإداريين وسائرُ مكوّنات القطاع الصحّيّ. وهذه عيّناتُ ممّا كشفتُه وأعلنتُه أمام الناس:

1) وجودُ أدويةٍ تسبِّب السرطانَ في السوق اللبنانيّة.

2) اختفاءُ عدد كبير من ملفّات مرضى السرطان وسائر الأمراض المستعصية، وإتلافُها قبل وصول "التفتيش المركزيّ."

3) ضياعُ 9 مليارات ليرة من موازنات ملفّ المستشفيات في وزارة الصحّة.

4) هناك 3 مصانع تستورد أدويةً بالأكياس تحت عنوان "جينيريك."

5) فضيحة دواء Plavix، إذ تبيّن أنّه فاعل بنسبة 45% فقط.

 6) حُقَنُ Taxotere للسرطان، التي تُستبدل بماءٍ فقط!

* وهل للسياسيين دخلٌ في الأمر كلّه؟

- طبعًا. عندما أرى أنّ السياسيين يَحْمون مَن يتورّط في قتل بعض المرضى (كما حدث في موضوع إعطائهم الماءَ بدلًا من الدواء للتعجيل بموتهم!)؛ أو عندما أجد طبيبًا يعطي مريضَ السرطان نصفَ الدواء ويبيع النصفَ الآخرَ بلا حسيبٍ أو رقيب؛ فذلك بمثابة مدخلٍ إلى الكلام على همجيّة الطبقة السياسيّة، المفتقرةِ إلى كلّ القيم والأخلاقيّات.

كثيرةٌ هي المواقف التي يمكن إيرادُها في مجال سيطرة السياسة على قطاع الدواء والقطاع الصحّيّ برمّته، أو أقلّه، في مجال تدخّل السياسة بهذا القطاع.

ذاتَ مرّة، اتّصل بي جاك صرّاف، وكان "عميدَ الصناعيين "آنذاك، وطلب لقاءً نناقش فيه كيفيّةَ دعم صناعة الدواء المحلّيّة، متمنّيًا علي حملَ لواء هذه المهمّة. أبديتُ استعدادي المشروط: قلتُ له إنّنا، في سبيل ذلك، نحتاج إلى مختبر رقابة يوافق الشروطَ الصحّيّةَ والبيئيّةَ اللازمة، ويراقب عمليّةَ التصنيع. إلّا أنّي تفاجأتُ، قبل توقيع العقد، باعتذاره، ناقلًا عن الرئيس رفيق الحريري الطلبَ إليه وقْفَ التعاون، قائلًا: "اسماعيل ما فيك ليه!"

اليوم، زاد الفسادُ بسبب ذلك التدخّل، لا سيّما في وزارة الصحّة التي تشكّل دينامو القطاع بشكلٍ عامّ. فمثلًا، لو سار عملُ "المكتب الوطنيّ للدواء" (وهو إحدى أذرع الوزارة المذكورة) بشكلٍ صحيحٍ، لوفّر تلقائيًّا 50% من سعر الدواء في لبنان. أو خذي مسألةَ الاستيراد: فوزارةُ الصحّة السويديّة، مثلًا، اقترحتْ إعطاءَنا الدواءَ بسعرٍ أقلّ من سعره الحاليّ بنسبة 40%، لكنّ الحكومة اللبنانيّة لم توافقْ نزولًا عند رغبة مافيا الدواء في لبنان. وإليكِ مثالًا آخر، عبّر عنه الرئيس إميل لحّود في كتابه إميل لحّود يتذكّر، إذ قال إنّه استعان بالحملة الإعلاميّة التي كنتُ أقودُها لفضح أسعار الدواء المضاعَفة، وخفض مبلغ 15 مليون دولار لكميّة الدواء عينها إلى 5 ملايين دولار.

أستطيع القول إنّ دورَ مجلس النوّاب قد كان دائمًا، ومنذ الاستقلال، دورَ شاهد الزُّور على كلّ خطايا القطاع الصحّيّ وكبائره وفسادِه، ولاسيّما في الدواء. فقد سقطتْ جميعُ محاولات الإصلاح في مجال الدواء، أكان ذلك على مستوى النوعيّة أمِ الأسعار، بدءًا من تجربة نائب الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ فريد جبران سنة 1960. فقد قدّم جبران مشروعَ مكتبٍ للدواء، لكنْ سقطتْ محاولتُه في مجلس النوّاب؛ إذ تحدّدت الجلسة، ولم يحضرْها أحدٌ، فطار النِّصاب. وفي العام 1971، حاول الدكتور إميل بيطار في "حكومة الشباب" إصدارَ قرار بتخفيض أسعار الأدوية، فواجه ضغطًا كبيرًا، فاستنجد بمجلس النوّاب لإقرار قانون مكرّر معجّل يستطيع من خلاله المواجهة. لكنْ، كما حدث مع جبران، حُدّدتْ الجلسةُ وطار نِصابُها. وفي العام 1998 سقط، من جديد، مشروعُ المكتب الوطنيّ للدواء في مجلس النوّاب. أمّا موضوع المختبر المركزي، وهو من أكثر الموضوعات التي أثرتُها بأسئلةٍ نيابيّةٍ وحملات، فقد كان موقفُ المجلس النيابيّ منه سلبيًّا، وبشكل مستمرّ.

والنتيجة أنّ مجالس النوّاب المتعاقبة، ومعها لجانُ الصحّة، عبارةٌ عن "شاهد زُور" على كلّ ما لحق المواطنَ اللبنانيَّ من أذًى طال صحّتَه وجيبَه.

وباختصار، فإنّ سياسيّي لبنان، بشكل عامّ، يُخضعون القطاعَ الصحّيَّ وخدماتِه للاستثمار السياسيّ الرخيص، ويُولون التحالفاتِ السياسيّةَ والتجاريّة أهمّيّةً تفوق الاعتباراتِ الأخلاقيّةَ والإنسانيّة.

***

ثالثًا: في صندوق الضمان

*بعد الدواء، ماذا عن صندوق الضمان دكتور؟

- الصندوق بين سندان "الحماة" ومطرقة "المتربّصين." هنا ينقسم السياسيّون في لبنان بين فريقيْن: مَن يرفعون شعارَ "حماية الضمان" ولكنّهم يُغْرقونه بالتدخّلات السياسيّة والتنفيعيّة والتعيينات غيرِ الكفوءة؛ وأصحابِ نظريّة الاقتصاد الريعيّ - الخدماتيّ الاستثماريّ غيرِ المنتِج، الذين يَنْصبون الكمائنَ لهذا الصندوق من أجل إيصاله إلى فخّ الخصخصة. وذات مرّةٍ دعانا الرئيس رفيق الحريري إلى لقاء حول الصندوق، طالبًا إلغاءَ تعويض نهاية الخدمة. وكان لي شرفُ الردّ بالقول إنّ ذلك ينسف رسالةَ الضمان من الأساس.

والحقّ أنّني لعبتُ دورَ المحامي عن حقوق "الضمان" في وجه المستشفيات الخاصّة التي لطالما هدّدتْ بعدم استقبال مرضاها. ولا يعود دفاعي ذاك إلى انحيازي إلى الصندوق ومرضاه فحسب، بل بسبب تمكّني أيضًا من الاطّلاع على التجاوزات الكبيرة وأعمال الفساد والتزوير التي تقوم بها بعضُ المستشفيات - - وأذكّرُ بأخطرها: فمن أصل عشرة آلاف فاتورة استشفائيّة لمرضى مضمونين، جاءت نسبةُ المرضى الوهميين 75%!

وكانت الوقفةُ الأهمّ لي في تاريخ هذا الصندوق في 11/10/2005. يومَها، استطعتُ إقناعَ جهة سياسيّة قويّة وفاعلة بسحب مشروع قانون يلغي "براءةَ الذمّة" في الضمان، وهي الموردُ الماليُّ الأساسُ للصندوق، إذ يحقّ الطلبُ إلى كلّ مؤسسة إبراءَ ذمّتها الماليّة.

الجدير ذكرُه أنّ فرع "المرض والأمومة" في الصندوق مكسورٌ منذ عشرين عامًا، ويستعين بأموال تعويضات نهاية الخدمة. وهذا أضعف الصندوقَ تجاه المستشفيات الخاصّة. وانعكس ذلك، بدوره، على النسبة المدفوعة من قِبل المريض، حتّى تخطّت الكلفةَ الرسميّة.

***

رابعًا: في وزارة الصحّة

*ننتقل إلى الفساد في وزارة الصحّة.

- أنشئتْ هذه الوزارةُ بقانونٍ صدر في العام 1946، وحُدّدتْ لها ثلاثُ مهامّ أساسيّة: التوعية، والوقاية، والرعاية. كانت مسيرتُها في الخمسينيّات جيّدةً، وفي الستينيّات أيضًا مع الرئيس فؤاد شهاب، وحينها كانت المستشفياتُ الحكوميّةُ تابعةً لوزارة الصحّة مباشرةً. لكنْ مع الحرب الأهليّة اللبنانيّة [التي بدأتْ سنة 1975]، ضُرب القطاعُ الحكوميُّ بشكل كبير، وشهد القطاعُ الخاصُّ في المقابل نموًّا كبيرًا. عندها، استسلمتْ وزارةُ الصحّة للقطاع الخاصّ، واستسهلتْ صرفَ الأموال عليه، واستقالت من دورها الذي حدّده القانون. فأصبح 80٪ من موازنتها موظَّفًا للأسِرّة في مستشفيات القطاع الخاصّ!

في العام 2001 بدأت الوزارةُ تحدِّد سقوفًا ماليّةً للمستشفيات الخاصّة سنويًّا، لا علاقة لها بعدد الأسِرّة. وترافق ذلك مع "تفريخ" مستشفياتٍ خاصّةٍ في كلّ المناطق، وبعضُها تأسّس من أجل "السقوف الماليّة." فمثلًا، قبل أن يسعى صاحبُ مشروع مستشفًى خاصّ إلى المباشرة في تنفيذه، فإنّه يتأكّد من شبكة "العلاقة" مع الوزارة ومن حجم الاستفادة الذي سيحصل عليه.

درجت العادةُ أن يرتفع صوتُ المستشفيات في شهر حزيران، زاعمةً أنّها أنهت "السقوفَ الماليّة" المحدّدة، ولذا فإنّها تطلب السُلَف. ودرجت العادةُ أيضًا أن لا تَسترجع وزارةُ الصحّة هذه الأموالَ، بل يصار إلى تسويةٍ على صيغة "صلحة العشائر." مستشفى عيْن وزيْن، مثلًا، تأخذ من الوزارة، سنويًّا، 11 مليار ليرة، ومستشفى النبطيّة تأخذ 17 مليارًا. أتساءل: ماذا يفعل المستشفيان بهذه المبالغ؟!

* كم تبلغ موازنةُ وزارة الصحّة؟

- وصلتْ إلى 500 مليار ليرة تقريبًا العام الماضي.

* هل تستطيع هذه الموازنة أن تغطّي نفقاتِ المستشفيات الخاصّة؟

- في ظلّ الفساد الراهن، الجواب كلّا بالتأكيد. سأوضح بمثال: تُقدِّم المستشفياتُ الخاصّة إلى وزارة الصحّة فواتيرَ وهميّةً، بنسبة 50%؛ لكنها في الوقت نفسه تطلب منها سُلَفًا بحجّة أنّ السقفَ الماليّ "لا يكفيها." أهذا معقول؟! إنّه الجنون بحدّ ذاته، وقد قمتُ بحملةٍ ضدّه. للأسف كان النوّاب يطالبون دائمًا بدعم الوزارة ماليًّا للمستشفيات الخاصّة، لكنّهم يجهلون أين تذهب الأموال. لم يطالبوا مرّةً بالرقابة على المستشفيات الخاصّة، ولا بأيّ عمليّة إصلاح.

* هل تغطّي السقوفُ الماليّة عددَ المرضى في المستشفيات الخاصّة؟

- تغطّي أكثر من دون فساد. مدراءُ المستشفيات الخاصّة اغتنوْا، واشتروْا أراضيَ وعقارات، وبنوْا قصورًا بسبب "السقوف الماليّة،" وكلُّ ذلك على حساب المرضى. وهناك مصاريفُ مهرجانات وأنشطة بعض الأحزاب والحركات السياسيّة تموَّل من السقوف الماليّة التي تقدّمها وزارةُ الصحّة إلى هذه المستشفيات. هذا يفسِّر لنا أحيانًا كيف يموت المرضى على أبواب هذه الأخيرة!

والفساد ينطبق أيضًا على موضوع الأمراض المستعصية. فلقد انسحبتْ وزارةُ الصحّة من دورها تجاه هؤلاء المرضى، و"لزّمت" الأمراضَ إلى الجمعيّات: مرضُ التلاسيميا إلى جمعيّة [سيّدة أولى سابقة]، وأدوية الأمراض المزمنة إلى "جمعيّة الشبّان المسيحيين" التي تخصّها الوزارةُ بـ6 مليارات ليرة سنويًّا (وعن هذه الجمعيّة تحديدًا تقدّمتُ بسؤالٍ نيابيّ عام 1998 حول الهدر الكبير في أدائها). وإذا ما استطلعنا الناسَ عن مدى استفادتهم من هذه التقديمات، فالجواب يتوزّع بين "اختفاء الدواء" أو "المركز مقفل."

* نسمع دائمًا أنّ  وزارة الصحّة هي مغارة علي بابا. هل توافق على ذلك؟

- نعم. عندما دخلت الوزارةُ في اللعبة الماليّة وتركتْ مهامَّها الأساسيّة، تحوّلتْ إلى مغارة علي بابا. إنّ القرار الرئيس المتعلّق بالملفّ الصحّيّ هو في هذه الوزارة، ولذلك استفردتْ بالمال، بالتواطؤ مع المستشفيات الخاصّة ومع شركات الأدوية، فغطّت على الفساد وعلى "الفواتير الوهميّة،" وأهملت الرقابةَ التي غرق مَن يُفترض أن يتولّى مسؤوليّةَ القيام بها في الرشاوى والفساد.

* وما هي "الفواتير الوهميّة"؟

- سأضرب مثلًا. في إحدى المحافظات، وخلال سنةٍ واحدةٍ فقط، ذهبتْ سبعةُ آلاف وخمسمئة فاتورة من أصل عشرة آلاف فاتورة من فواتير مرضى الضمان إلى ما أسمّيه "مرضى ويك أند" (مرضى نهاية الأسبوع). هذا يعني أنّ 7500 "إخراج قيْد" تدخل سنويًّا المستشفى يومَ السبت وتخرج يومَ الاثنين من دون رقيبٍ أو حسيب، ومن ثمّ يدفع الضمانُ إلى المستشفى 7500 فاتورة استشفاءٍ لمرضى لم يدخلوا المستشفى أصلًا!

* إلى أيّ حدّ يتحمّل وزيرُ الصحّة مسؤوليّةَ الفساد في وزارته؟

- كلُّ الوزراء الذين استلموا وزارةَ الصحّة غطسوا في الفساد. مثلًا، اشترى أحدُ الوزراء أدويةَ سرطان بمبلغ 106 مليار ليرة لبنانية، لكنْ لم تدخل هذه الأدويةُ الوزارةَ (المقطوعةَ منه آنذاك).

* ألم يُقْدم أيُّ وزيرٍ على محاولة إصلاح؟ لقد شاهدنا محاولاتِ أحد الوزراء تحديدَ معايير مطابقة الغذاء أو عدم مطابقته للمواصفات الصحّيّة؟

- هذه المعايير أطلقها وزيرُ الصحّة آنذاك، وجمع أموالًا من خلال الخوّات التي فُرضتْ على أصحاب بعض المطاعم. وسمّيتُها "خوّات" لأنّها تعبّر عن ابتزاز تصنيفيّ لأهداف ماليّة.

بالمناسبة، هذا يطرح أيضًا تساؤلًا عن دور الموظّفين المشبوه. فطريقةُ توظيف طاقم وزارة الصحّة، كما باقي المؤسّسات، خاضعةٌ للزبائنيّة والطائفيّة، أيْ للجهة التي وَظّفتْه. ومن ثم فهي تعوِّق عمليّات الإصلاح، وتزيد عمليّات الفساد والرشاوى.

هنا تستوقفني أهمّيّةُ دور "التفتيش المركزيّ" في الرقابة والمحاسبة في حال تحريره من السياسة. مندوبُ "التفتيش المركزيّ" يذهب إلى وزارة الصحّة، ويوقّع على الأوراق شكليًّا، من دون أيّ رقابة. المواقع الإداريّة كلّها في هذه الوزارة متورّطة في الفساد، وإنْ بدرجات متفاوتة. والنتيجة أنّ مُناخ الفساد في الوزارة فرض نفسَه، حتى باتت مقاومتُه صعبةً. ومن يُرِدْ ذلك يصبحْ بلا وظيفة.

*ماذا عن برامج الأمم المتحدة في الوزارة؟

- خلال ثلاثة عقود، دعمتْ برامجُ الأمم المتحدة وزارةَ الصحّة بمليارات الدولارات. لكنّ أحدًا لا يعرف كيف تُصرف هذه الأموال - - باستثناء مرّةٍ واحدةٍ استطعتُ أن أكشفَ فيها مصيرَ مئة مليون دولار صُرفتْ عشوائيًّا، إذ خُصّصتْ لدراساتٍ تنفيعيّةٍ وتلزيماتٍ وهميّة.

أموال برامج الأمم المتحدة توظَّف، في معظمها، للتنفيعات والدراسات الوهميّة. رئيس "برنامج مكافحة التدخين" في وزارة الصحّة يتقاضى 3000 دولار شهريًّا، غير أنّ مكتبَه (وهو من أكثر المكاتب التي تعبق بالتدخين!) لم يقم بأيّ إنجاز. ومجملُ حملات "التوعية" التي تنفّذها هذه البرامج (مثل برنامج التوعية على سرطان الثدي وحملات اللقاحات) ليست إلّا استعراضًا، ولا يدري أحدٌ أين تذهب الأموالُ الضخمة.

وبالنتيجة، فإنّ وزارة الصحة قلعةٌ للفساد. وبدلًا من أن ترعى سياسةً صحّيّةً وطنيّة، فإنّها ترعى أعمالَ الفساد. فهي، مثلًا، تغطّي الدواءَ المنتهيَ الصلاحيّة الذي يباع إلى المرضى في المستشفيات. وهي تغطّي التلاعبَ بالأسعار: على سبيل المثال، كلفةُ السِّيخ البرازيليّ، كما الصينيّ والهنديّ وغيره، المستخدَمِ في عمليّة كسور العظام، هي 300 دولار، لكنّها تُسجَّل على الفاتورة بـ3000 دولار. كما أنّ الأدوية ذاتَ النوعيّة الرديئة، وتحديدًا الدواء "الفلْت" (غير الموضَّب)، والخيط الجراحيّ، كلّها تسعَّر على الفواتير بأسعارٍ مرتفعة. بل تُسجَّل عمليّاتُ زرع روسّورات (نوابض) في شرايين المرضى من دون أن يَعرف بعضُهم أنّ شيئًا منها لم يُزرع فيه!

سأعطيكِ مثلًا آخر. تصوّري أنّ بعض عمليّات القلب المفتوح يدخل فيها المريضُ إلى غرفة العمليّات، فيُفتح صدرُه ثمّ يُغلق، من دون إجراء أيّ عمليّة!

إليكِ مثلًا آخر: في العام 2008، أحدُ مرضى السرطان بلغ مرحلةً متقدّمةً من المرض بعد معاناته سنوات، وغدتْ فرصُ الحياة لديه ضئيلةً، ففكّر أحدُ "الأطبّاء" في أن يُخضعَه لعمليّة قلبٍ مفتوح؛ فالمريض - بالنسبة إلى هذا الطبيب الفاسد – ميّتٌ لا محالة، فلِمَ لا يستفيد الطبيبُ من الأجر الذي تخصِّصه وزارةُ الصحّة لهذه العمليّة؟! طبعًا توفّي المريضُ بعد ساعات من إجراء العمليّة، وعزا أهلُه الوفاةَ إلى"القضاء والقدر،" ولو امتلكوا الوعيَ الكافي لرفعوا دعوى في حقّ هذا "الطبيب." هذا الطبيب، ذاتُه، قدّمتُ بحقّه في مجلس النوّاب سنة 1998 (أيْ قبل وفاة المريض المذكور بعشرين عامًا) وثيقةً تُثبت إجراءه عملياتِ قلبٍ مفتوحٍ وهميّةً، تعتمد على تزوير تقارير؛ بمعنى أن تُنسبَ نتيجةُ تمييل قلبِ مريضٍ يعاني انسدادًا في الشرايين إلى مريضٍ آخر خَضع للتمييل وجاءت نتيجتُه طبيعيّةً.

* هل من أرقامٍ تفضح هذا النوعَ من الفساد؟

- في لبنان يبلغ عددُ عمليّات القلب المفتوح ثلاثةَ أضعاف عددها في فرنسا. ومع استخدام أجهزة التكنولوجيا، فإنّ لبنان يسجِّل خمسةَ أضعاف ما تسجّله فرنسا في هذا المجال. كما تسجَّل في لبنان أعلى نسبة تمييلٍ للقلب في العالم. وتتضخّم النِّسبُ في الأعمال الطبّيّة غير المبرَّرة، مثل استئصال المرارة أو الزائدة الدوديّة من دون ضرورة. هذا يبرهن أنّ "الخدمة" الصحّيّة إنّما هي، واقعًا، في خدمة التجارة والربح.

بناء الطابق الأعلى في مستشفى بعلبكّ الحكومي (من ضمن قرض البنك الدولي 35.7 مليون دولار في التسعينيّات لتأهيل المستشفيات الحكوميّة) كلّف مجلس الإنماء والإعمار 4 ملايين دولار، ولا زال "ينشّ" (يرشح ماءً) حتى اليوم.

***

خامسًا: في موضوع المستشفيات الحكوميّة

* ما هو واقعُ المستشفيات الحكوميّة، دكتور؟

- إنّه واقعٌ محزنٌ جدًّا. والسبب أنّ القانون أعطاها الاستقلاليّةَ وإمكانيّةَ تعيين مجالس إدارة بنفسها. وقتَها، في العام 1999، كنتُ النائبَ الوحيد الذي تحفّظ عن القانون، ليس لأنّني ضدّه بل اشترطتُ لقبوله ضمانةَ أن يأتي التعيينُ عبر "مجلس الخدمة المدنيّة،" لا أن يكون سياسيًّا طائفيًّا. ولكنّ القانون أصبح ساريَ المفعول بسبب جهل النوّاب الآخرين وتواطئهم، فـ "رُكّبتْ" مجالسُ الإدارة بالصيغة الطائفيّة السياسيّة المألوفة، وكانت النتيجة تراجعَ أداء هذه المجالس كثيرًا، إذ دخل الفسادُ إليها، واغتنى المدراءُ، واشتروْا أراضيَ وعقارات، شأنهم في ذلك شأن أصحاب المستشفيات الخاصّة.

أكثرُ الأمثلة إيلامًا أنّ مستشفى مرجعيون الحكوميّ أيّام الاحتلال الإسرائيليّ كان يعمل بشكلٍ أفضلَ من عمله اليوم بسبب الصراع السياسيّ وآليّات التعيين والمحاصصة. إحدى السيّدات النافذات عَيّنتْ أحدَ الأشخاص مديرًا لمستشفًى حكوميّ في منطقةٍ ما، وكانوا قد أخبروها بأنّه غيرُ مؤهّل ولا يفقه شيئًا. وحين سألوها "كيف تدعمينه؟" أجابت: "بكلّ صراحة، هذا هو المطلوب!"

* كيف تقوِّم الخدمةَ الصحّيّة في المستشفيات الحكوميّة؟

- متفاوتة بين مستشفًى وآخر. هناك حالات معيّنة يكون فيها الطبيب جيّدًا؛ وأسمّي ذلك "خَرْقًا" للقاعدة. الخدمة في حالة الأمراض البسيطة مقبولةٌ بشكل عامّ، وهي في حالة العمليّات دون الوسط. أمّا الحالات التي تحتاج دقّةً أكبر، فمن المؤكّد أنّ الخدمة فيها غير جيّدة.

* ختامًا، د. سكّريّة، وسط هذه الشبكة المتعثّرة، أين المواطن؟

- هذه الشبكة تجعل المواطنَ وحيدًا ومستفرَدًا به من قِبل قِطاعٍ لا يراعي احتياجاتِه الصحّيّة. كما أنّ هذا القطاع يساهم في فرز المجتمع إلى طبقتين: واحدة قادرة على التعاطي مع مستتبعات الاستشفاء ماليًّا، وهي طبقة قليلة العدد؛ وأخرى عاجزة، ومتروكة من دون أيّ دعم أو مساندة، وتمثّل ما نسبتُه 80% من مجمل الشعب.

* وما هو أفقُ الحلّ في رأيك؟

- لا أرى أفقًا إلّا إذا اتُّخذ قرارٌ على مستوى وطنيّ للإصلاح في وزارة الصحّة؛ قرارٌ يحرِّرها من المحاصصة السياسيّة الطائفيّة، ويُطْلق يدَها لرسم سياسة صحّيّة وطنيّة، ويعيدها إلى دورها المحدّد في القانون (توعية، وقاية، رعاية).

 سأضربُ لكِ مثلًا: عندما استلم الوزير سليمان فرنجيّة حقيبةَ وزارة الصحّة، كان متحمّسًا لمكافحة الفساد، فأحال رئيسةَ قسم الصيدلة على النيابة العامّة التمييزيّة؛ غير أنّ مرجعَها الطائفيّ (رجل دين) غطّاها وحماها. وقيسي على ذلك.

سأختم بمثلٍ عن فساد أحد وزراء الصحّة لأُثْبتَ أنّ الفساد في هذه الوزارة تاريخيّ. فقد شهد أمامي الوزير السابق جميل كبّي أنّه زار "مستشفى الأهلي" في بعلبكّ بتاريخ 21/2/1992، وأنّه كان شاهدًا على إجراء عمليّة قلب مفتوح بنِيّة دعم المستشفى المذكور. لكنْ، في ذلك اليوم تحديدًا، قَطعت الثلوجُ منطقةَ ضهر البيْدر ومات 50 شخصًا. فكيف تمكّن الوزيرُ من الوصول إلى بعلبكّ، علمًا أنّ المستشفى المذكور لم يجْرِ أيّ عملية قلب مفتوح؟!

بيروت