د. نهوند القادري عيسى لـ "الآداب": الحراك اللبناني والإعلام
21-11-2019

(أجرته: عُبادة كسر)

أجرت الآداب هذا الحوار مع د. نهوند القادري عيسى حول الحَراك الشعبيّ اللبنانيّ وكيفيّة تعاطي الإعلام اللبنانيّ معه. والدكتورة القادري أستاذة جامعيّة وباحثة في شؤون الإعلام والاتصال. من مؤلَّفاتها: الإعلاميّات والإعلاميّون في التلفزيون: بحثٌ في المواقع والأدوار (بالاشتراك مع سعاد حرب)؛ و قراءة في ثقافة الفضائيّات العربيّة: الوقوف على تخوم التفكيك؛ و الاستثمار في الإعلام وتحدّيات المسؤوليّة الاجتماعيّة: النموذج اللبنانيّ. كماحرّرتْ كتاب: الإعلام العربيّ ورهاناتُ التغيير في ضوء التحوّلات.

***

* د. نهوند، بدايةً، كيف تعاطت وسائلُ الإعلام المرئيّة مع الحَراك الشعبيّ اللبنانيّ؟

- قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من توضيح الأمور الآتية:

أوّلًا، الإعلام التقليديّ في لبنان هو ربيبُ النظام السياسيّ - الاقتصاديّ اللبنانيّ، القائم على المحاصصة المذهبيّة والطائفيّة، بما تعنيه هذه الكلمة من حماية كلِّ طائفةٍ للمتورِّطين وللمرتكبين في مواجهة الطوائف الأخرى.

ثانيًا، طرأتْ على الإعلام التقليديّ، عمومًا، جملةُ متغيِّرات، فغدا متشابكًا مع المنظومة الاتصاليّة، وراح يغذّي واحدُهما الآخر. ونتيجةً للتطوّر التكنولوجيّ والاتصاليّ، فقد أصبح في إمكان المتلقّي أن يكون مرسِلًا، واختلط الفضاءُ العامّ بالخاصّ، وحرّيّةُ التعبير بحرّيّة الإعلام، والكلامُ النخبويّ بالكلام العاديّ، والجِدُّ بالهزْل والإثارة، والمسرحُ بالكواليس. هذا عدا عن تداخل الإعلام مع عالم المصارف، ومع سوق الإعلانات والاحتكارات الإعلانيّة، وما ينجم عن ذلك من الاضطرار إلى اتّخاذ مواقف (علنيّةٍ أو ضمنيّة) تصبّ في خدمة مصالح المصارف والمحتكِرين.

وفي هذا السياق سأضربُ لكِ مثلًا: نلاحظ أنّ هناك محطّات تلفزة تتابع متابعةً حثيثةً الحَراكَ الشعبيّ اللبنانيّ، لكنّها أحجمتْ عن نقلِ ما يجري أمام "مصرف لبنان المركزيّ" بشكلٍ مباشرٍ ودوريّ وكثيف. لكنّ الحيرة تتبدّد قليلًا حين نلحظ إعلاناتٍ لمصارفَ تسبق نشراتِ الأخبار في هذه المحطّات!

نضيف إلى ذلك انخراطَ هذا الإعلام في الصراعات الإقليميّة. ونضيف أيضًا تبنّيَه منحًى عالميًّا شائعًا في الاقتصاد والسياسة. وقد نجم عن ذلك أساليبُ تضليلٍ ودعايةٍ وتحويرٍ للوقائع، وبناءٌ لحقائقَ مغايرة، ليس أقلَّها: التصويبُ على القطاع العامّ وعلى التقديمات الاجتماعيّة، بل على مجمل الإيديولوجيّات التي كانت تنادي بالعدالة الاجتماعيّة وبالحدِّ من التفاوت الطبقيّ، تمهيدًا لسياسات الخصخصة وبيعِ الدولة بمختلف أجهزتها إلى القطاع الخاصّ.

 

* هل تريْن أنّ التنافس بين المحطّات ناجمٌ عن مصالح أحيانًا؟

- بالتأكيد. يسيطر التنافسُ بين أصحاب هذه المحطّات على مصالح اقتصاديّة واحتكاريّة وإعلانيّة قويّة ومتشابكة. بل قد يظهر هذا التنافسُ داخل القناة نفسها أحيانًا: بين الأب وابنِه (كما في محطّة MTV)، أو بين "حلفاء الأمس" كالشيخ بيار الضاهر وحزب القوّات اللبنانيّة (كما في محطّة LBC).

لذلك، عندما نتحدّث عن التغطية الإعلاميّة للحَراك اللبنانيّ، أو لغيره من الحراكات العربيّة، لا نستطيع أن ننطلقَ من "محاكمة" المحطّات على أساسِ "موضوعيّةِ" تغطيتها. فقد تستطيع وسائلُ الاعلام أن تشجّعَ الحَراكات وأن تدفعَها نحو زخمٍ كبير، أو قد تعمد إلى إرباكها - - وكلُّ ذلك بناءً على المصالح المذكورة أعلاه.

هذا من دون أن ننسى وجودَ "تشبيك" فعليّ بين الصحافيين والسياسيين وأجهزة الاستخبارات!

 

* وهل من متطلّبات أخرى للإعلام؟

- بالتأكيد. فالإعلام يعمل بأساليبَ مشابهةٍ لعمل رجال السياسة، ومن هذه الأساليب: الشخصنة، والمسرحة، والتجزئة، وعقد "التسويات." وبهذا يركّب مشهديّةً مثيرةً تستميل الانفعالات، أو تخلط بين السياسة والترفيه. وقد تعيد هذه المشهديّةُ إظهارَ الأوضاع الإشكاليّة وكأنّها "طبيعيّة" بهدف تهدئة النفوس، وبهذا يتمّ الحفاظُ على الستاتيكو القائم.

ثمّ إنّ الشاشات، عمومًا، تقع تحت عنوان "الاستقطاب الثنائيّ،" بمعنى أنها تُرْسي معادلةً أنّ شيئًا يلغي الآخر. وهو ما يقودنا إلى نتيجةٍ واحدة: المستوى الفكريّ شبهُ معدوم. هذا عدا عن أنّ الشاشات إجمالًا "تحوم" حول الموضوع المطروح، ولا تدخل في صلبه. والدليل أنّ التركيز لا يكون في أغلب الاحيان على حلقات النقاش التي تجريها بعضُ المجموعات الشبابيّة في ساحات الانتفاضة، وإنّما على تكريس الميكروفون لصراخ الناس وللكلام الانفعاليّ الذي غدا مستهلَكًا في كثير من الأحيان.

 

* مثلًا؟

- خذي برنامج مارسيل غانم مثلًا. ألم تلاحظي كيف "تتركّب" الأمور؟ لقد كان في برامجه السابقة مروِّجًا كبيرًا لأصحاب رؤوس الأموال والشركات والمصارف ورجال الأعمال، بل هو صنع مِن حاكم "مصرف لبنان المركزيّ" ما يشبه أعجوبةَ عصره؛ وإذا به [أيْ غانم] يركب اليوم موجةَ الثورة! لكنْ لم نفهم: الثورةَ على مَن؟ على أيّ وجهةٍ اقتصاديّةٍ وماليّةٍ وسياسيّةٍ بالتحديد؟

 

* بالمناسبة، في رأيكِ، كيف تعامل المنتفضون مع الإعلام؟

- المنتفضون في الشارع هم أيضًا هندسوا مساحتَهم واستدرجوا الإعلامَ إليهم. أصبح بعضُ الإعلام وجزءٌ من المنتفضين جسمًا واحدًا. الطرفان يمارسان لعبة المرايا من أجل أن يتحسّسوا وجودَهم تحت عنوان: "أنا مرئيّ، إذًا أنا موجود." المنتفضون يتحسّسون وجودَهم على الشاشة، وفي المقابل الشاشة موجودة على الأرض لتُظْهرَ دورَها البطوليّ في التغطية.

 

* هذا يتعلّق بمنظومة الإعلام التقليديّة. فماذا عن المنظومة الإعلاميّة عبر شبكة التواصل الاجتماعيّ؟

- هنا أطيحَ بأخلاقيّات العمل الإعلاميّ التي كان متعارَفًا عليها ضمن الوسط الصحافيّ. وهذا لا تتحمّل مسووليّتَه "أعلمةُ السياسة" وحدها، وإنّما أيضًا التحوّلُ الكبيرُ الذي حصل من جانبين متضافريْن: التطوّر التكنولوجيّ، والتوجّه نحو المزيد من النيوليبراليّة في العالم.

هكذا صُوِّر لنا أنّ فضاء الإنترنت حرٌّ لا رقابة فيه. لكنْ تبيّن أنّ لهذا الفضاء شركاتٍ راعيةً له، وأنّ له منطقَه الخاص ومنفعتَه وربحيّته وانحيازَه السياسيّ. وهو ما ظهر، مثلًا، عندما تَحْجب تويتر موقعَ قناة المنار.

كلُّ المنصّات على وسائل التواصل الاجتماعيّ تشجّعنا على التكلّم والاحتجاج، مستفيدين من "المجّانيّة" و"سرعة الانتشار." ولكنّها في الواقع غيرُ مهتمّةٍ بما نقول، لأنّها تعتبرنا محضَ "منتوج." ولهذا تبيع بصماتِنا إلى شركات الإعلان وأجهزةِ الاستخبارات. هذه المنصّات أصبحتْ تعرف توجّهاتِ كلّ واحدٍ فينا، ودورَه، وماذا يحبُّ، وما لا يحبّ. عندما تحجب تويتر كلامًا عن فلسطين، أو عن حزب الله، فهذا يعني أنّ الشركات الاحتكاريّة الكبيرة هي التي تدير اللعبة، ولها منطقُها وشروطُها وآليّاتُها.

ثمّ إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ تتيح أمام المجموعات المتجانسة بناءَ شرنقةٍ لها تتواصل مع شرانقَ أخرى بطريقةٍ عنيفةٍ وعدائيّة ،يسود فيها الصراخُ، ولا أحد فيها مستعدٌّ لأن يسمع الآخر.

هذا من دون أن ننسى ملياراتِ الدولارات التي تُدفع عبر هذه الوسائل من أجل شراء انتباهنا، وذلك عبر بيع الشركات الكبرى معلوماتٍ عنّا لكي تعودَ هذه فتنبّهنا!

إذًا، كلُّ هذه الجهات تمارس دورَ آلة إقناعٍ وترويجٍ وتضليلٍ كبيرة، تمأسّستْ في السوق الرأسماليّة، وخارج الأطر الأكاديميّة. لذا من الخطأ الكبير الوقوعُ في فخّيْن: 1) فخّ المبالغة في تعظيم دور وسائل التواصل في عمليّات التغيير؛ و2) فخّ المبالغة في التقليل من شأن هذه الوسائل وعدم الالتفات إلى أنّنا أمام عمليّة تشكّلٍ جديدٍ للفرد ولطباعه وطريقةِ تفكيره ومحور انتباهه.

 

* كيف يؤثّر ما يجري على وسائل التواصل الاجتماعيّ في وعي المتظاهرين؟

- لقد طرحتُ هذا الكلام لأعودَ إلى المتظاهرين! فسمةُ الحركات الاجتماعيّة التي انبثقتْ في العالم الافتراضيّ كان عنوانها السخط والاستنكار. وهي اتّسمتْ باللامركزيّة، وبغياب التراتبيّة، وبالوزن الكبير المعطى للفرد، وبالوقوف ضدّ سلطة المال والبنوك، وضدّ الفساد والعنف. وهي تعمل بنوعٍ من الديمقراطيّة المباشرة.

انتظم مستخدِمو وسائل التواصل الاجتماعيّ في مجموعاتٍ افتراضيّة. لكنّ هذا الانتظام بقي "التزامًا رخوًا." صحيح أنّهم يعبّرون بحريّةٍ أكبر بشكل عامّ، لكنّ المحاججة أضعفُ ممّا هي عليه في أرض الواقع.

هؤلاء الشباب المتظاهرون هم أبناءُ هذا الفضاء الافتراضيّ. وأبناءُ هذه المنظومة أفقيون، يريدون كلامًا سريعًا. المنظومة الاتصاليّة الجديدة تحْكمُها السرعةُ والآنيّة، لا التمهّلُ والتفكيرُ بعمقٍ وتحليلُ الموضوعات وربطُها بعضها ببعض وايجادُ المحاججة. هي تريد فقط فعلًا وردَّ فعل - - وهذا ما أسموْه (تضليلًا): "التفاعليّة"!

أقول ذلك لا لأقلِّل من أهميّة انتفاضة الشباب والشابّات طبعًا؛ فهؤلاء أوجدوا ديناميّةً في طور التشكّل، أهميّتُها أنّها عابرةٌ للطوائف والمذاهب، وهي ستشكل لاحقًا نواةً صلبةً لإعادة بناء الدولة.

 

* ألا يعكس ما يريدونه، من ديناميّة و"ديمقراطيّة مباشرة،" يأسَهم من دور "النخب،" وتحديدًا النخب الحزبيّة؟

- لا شكّ في أنّ الأحزاب أخفقتْ في إيجاد بديل. لكنّ المنظومة الإيديولوجيّة الرأسماليّة والنيوليبراليّة أزاحت كلَّ البدائل بفضل مقدرتها على امتصاص كلّ جديد. إضافةً إلى أنّ الكلام "المعقّد"غيرُ مرغوبٍ على وسائل الإعلام، ولا هو قريبٌ من الشباب، الميّالِ اليوم عمومًا إلى الشيء الجاهز والسريع. لكنّ العناوين التي يطرحها الشباب، مثل "محاربة الفساد" و"إسقاط النظام،" تحتاج إلى عملٍ جذريّ وآليّةِ عملٍ معقّدة. هم يطرحون كلامًا كبيرًا، ولكنّ كثيرين منهم غيرُ مستعدّين للخوض في تعقيداته!

 

* نعود الى دور الإعلام في تغطية الحراك اللبنانيّ. ما رأيكِ في مقدّمات نشرات الأخبار، والبرامج الحواريّة (توك شوز)، والتغطيات المباشرة؟ ما هو المسكوتُ عنه، وما هو المُظْهَر؟

- المسكوت عنه في كلّ وسائل الإعلام هو المشكلة الحقيقيّة، حتى بين الخندقيْن المتصارعيْن في الوسط الإعلاميّ. فلنبدأْ بمقدِّمات النشرات الإخباريّة. هذه بدعةٌ في عالم التلفزيونات، تقوم بدور "افتتاحيّة" صحيفة، وتحمل ضمنًا السياسةَ العامّةَ للوسيلة الإعلاميّة - - هذا إنْ كانت لديها سياسةٌ بالفعل؛ فأنا شخصيًّا بتُّ ضائعةً في سياستهم.

نصنّف المحطّات في اتجاهين: 1) الأول يروِّج لأهل السلطة، ويشيح بوجهه عمّا يحصل. وهو ضائعٌ بين "مغازلة" الحَراك من جهة، وبين التخوّف منه وتوظيفِه لاحقًا في الصراعات الإقليميّة من جهة ثانية. هذا الاتجاه لا يمارس نقدًا ذاتيًّا، ولا يأبه لكون الناس لم تتحرّك إلّا لأنّها شعرتْ بالمهانة ولم يعد يعنيها كثيرًا صراعُ المحاور أو الإيديولوجيّات. 2) الثاني ركب موجةَ الثورة، وراح يقدّم نفسَه ثوريًّا أكثر من الثوّار. هنا يجري التركيز على شخصنة الموضوع - - وهذا أسلوبٌ أميركيٌّ بامتياز في علم الدعاية والتضليل، وهو يعمل دائمًا على شيطنة الشخص المنتقَد حتى يغدو وكأنّه كلُّ المشكلة، في حين أنّه جزءٌ من المشكلة فحسب. هكذا تحوّلت الأنظارُ جميعُها نحو شيطنة "العهد،" وحمّلت الرئيس ميشال عون ووزيرَ الخارجيّة جبران باسيل مسؤوليّةَ كلّ التراكمات والسرقات، ولم يُنظرْ إلى "التسوية" التي أتت بهذا "العهد" إلى الحكم (وهي تسوية مرتبطة مباشرةً بالنظام الطائفيّ اللبنانيّ وبالصراعات الإقليميّة)، ولا أُخِذ في الاعتبار أنّ هذه التسوية راهنتْ على انفكاك التحالف بين "التيّار الوطنيّ الحرّ" وحزب الله لاحقًا - - وهذا ما لم يحصل. المسؤولون جميعهم في المركب نفسه: فيهم مَن ارتكب، وفيهم مَن غطّى. كلُّهم شركاء، فلماذا لا ننظر إلى السياق العامّ للمشكلة وامتداداتها؟ ولماذا لا نعتبر أنّ الأداء الاقتصاديّ والماليّ مرتبط بوجهة لبنان السياسيّة؟ الإعلام اللبنانيّ، عمومًا، يتكلّم على النتائج، ويغيِّب الأسباب، ويجهِّل الفاعل، ويقتطع الأمورَ من سياقاتها. وبهذا يُغرقنا وإيّاه في اللامعنى.

 

* وماذا عن البرامج الحواريّة (التوك شوز)؟

- التوك شوز، عادةً، تركيبُ "مشهديّة." وفيها يقدِّم المُعِدّون وجهةَ نظرٍ تلغي الأخرى. وهذا منافٍ للموضوعيّة! فحتّى لو استُضيف رأيان متصارعان، فالموضوعيّة لا تعني إلغاءَ أحدهما الآخرَ. الموضوعيّة تعني أنّ بين الأبيض والأسود تدرُّجَ ألوانٍ لا نهاية له، ووجهاتِ نظرٍ لا أوّلَ لها ولا آخر.

 

* وماذا عن التغطيات المباشرة؟

- أحيانًا أتعاطف مع المراسلين لأنّه مطلوب منهم أن ينقلوا دائمًا ما تريده المحطّات، فيصطدمون أحيانًا بالناس في الشارع، ويتعرّضون للإهانات أحيانًا أخرى، وقد يتطفّل عليهم البعضُ مرّات. وأشعر أنّ بعض المراسلين لا يمتلكون ما يكفي من التدريب والإعداد المسبّق على كيفيّة التغطية المتواصلة والمباشرة.

 

* وماذا عن البرامج التي تسعى إلى "كشف الفساد،" كما نرى على قناة الجديد وMTV؟

- قناة الجديد خطت خطوةً جيّدة وفيها جرأة، لكنّ ذلك لن يُحْدث تحوّلًا [ملموسًا]. مثلًا، أنا كأكاديميّة، عندما أكتب بحثًا فأنطلق من أنّني "أنا الموضوع،" فكأنّني لم أكتبْ شيئًا [ذا قيمة]. الأمر نفسُه يصحّ حين أُعِدّ برنامجًا تلفزيونيًّا فأحوِّل نفسي فيه إلى الموضوع والبطل معًا!

ثمّ إنّ هذه المحطّات تمارس انتقائيّةً لافتة: فهي تكشف الفسادَ في مكان، وتغضّ الطرفَ عنه في أماكنَ أخرى.

وأخيرًا، لا ننسى أنّ صراعَ المحطّات اقتصاديّ أحيانًا، وهذا ما يفقدها الكثيرَ من الصدقيّة. مثلًا: صراع قناة الجديد مع الرئيس نبيه برّي هو، في الأساس، صراعٌ على مصالح اقتصاديّة. حتى صراع المحطّة المذكورة مع MTV  ذو وجه اقتصاديّ.

 

* كيف تقوِّمين تجربة الصحافة الاستقصائيّة في لبنان؟

- لهذه الصحافة وظيفةٌ خاصّة: أن تكشفَ المسكوتَ عنه. في لبنان لا تستطيع هذه الصحافة أن تكون قويّةً وتحقّق هدفَها. خذي مثلًا برامجَ الفساد التي قدّمتها الإعلاميّة غادة عيد على قناة الجديد، وحاليًّا على قناة MTV. هذه البرامج تجعلني أتساءل: ما الذي يؤكِّد لي أنّ الصحافيّ، حين يَكشف فسادَ جهةٍ، لا يغطّي جهةً أخرى؟

الحقيقة أنّ نظام الإعلام في العالم كلّه، لا في لبنان وحده، يعاني مشكلةَ التداخل مع النظام الاقتصاديّ والسياسيّ بشكل مخيف، لا فكاكَ منه، على ما سبق الذكر. وعندما يتداخل بهذه الطريقة، يصاب المُشاهدُ بالضياع. ماكينة التضليل ممسوكة ماليًّا. لا قدّيسَ في هذا الموقع!

ثم مَن يسائل الإعلاميّ الذي حصّل ثروةً من عمله؟! المعلومة ليست مجّانيّة، بل غدت سلعةً تباع وتشرى.

الماكينة الإعلاميّة العالميّة هي التي مهّدتْ لاستقالة الحريري منذ أن قامت نيويورك تايمز بإعادة نشر معلومةٍ قديمةٍ عن دفع الحريري 16 مليون دولار لعارضة أزياء من جنوب أفريقيا. توقيتُ نشر المعلومة ليس بريئًا. المنظومة الإعلاميّة تملك معلوماتٍ كثيرةً، لكنّها تخفيها إلى حين قرار توظيفها لهدفٍ ما. هذا العمل أقرب إلى العمل الاستخباراتيّ!

 

* يقال إنّ "تثوير" القنوات التلفزيونيّة يُدار بمالٍ خليجيّ. ما رأيكِ؟

- لم يكن الإعلام اللبنانيّ في حياته في منأًى عن الخليج. السوق اللبنانيّة للإعلام ضيّقة، ويتشابك فيها الإعلامُ اللبنانيّ مع المال الخليجيّ. الإعلام اللبنانيّ يزوِّد الخليجَ بخبراتٍ وكفاءات، والخليج يعطيه المال في المقابل. والدليل على ذلك أنّ الوسائل الاعلامية بدأتْ تتعثّر عندما ظهرت الأزمةُ في الخليج.

 

* مَن يَلحق مَن: الإعلام، أمِ الناس؟

- هذا سؤال تصعب الإجابةُ عنه. في رأيي أنّ الطرفين يلحقان بعضهما بعضًا. الإعلام اليوم يحتاج إلى أن "يعبّي هوا،" والناس تحتاج إلى التحدّث عبر الشاشات. ما يحصل في الإعلام لعبةُ مرايا، حصيلتُها صخبٌ وضجيجٌ إلى حدّ كبير!

 

* هل يعني ذلك أنّ الإعلام لا يستطيع أن يصنع ثورة؟

- الإعلام لا يستطيع أن "يصنع" ولو ظاهرةً! الظاهرة توجد من الأصل، فيأتي الإعلامُ ليُضخّمَها أو يسرِّعَها أو يزخّمَها أو يهملَها لكي تنطفئ.

إذا أراد الإعلامُ أن يُسهم فعلًا في الثورة والتغيير والتحوّل الديمقراطيّ، فعليه أن يقوم بثورةٍ داخليّةٍ على أدائه. وقبل أن يدعو إلى تعزيز الديمقراطيّة، عليه أن يكون ديمقراطيًّا مع ناسه... ومع الموظّفين!

لا يستطيع الإعلام أن يدّعي أنّه يقوم بثورة، وفي داخله تُعشِّش منظومةُ فساد. لا توجد شفافيّة في الطريقة التي يعمل بها هذا الإعلام. جزء من الطبقة الإعلاميّة الموجودة في البلد حاليًّا شبيهٌ بالطبقة السياسيّة ويتماهى بها: المنطق نفسه، الأسلوب نفسه، لا فرق!

بيروت