ذاكرة الآداب: حوار مع إميلي نصر الله
18-03-2018

 

قبل أيام رحلتْ واحدة من أبرز الكاتبات اللبنانيّات العربيّات، إميلي نصر الله. إميلي، الهادئة، الطيّبة، الوفيّة، الصلبة، تركتْ مخزونًا كبيرًا من الجمال والقِيم للقرّاء العرب، وضمنهم الناشئة الذين قلّ أن اهتمّ بهم كتّابُنا للأسف.

في الصفحات الآتية حوارٌ أجراه يسري الأمير سنة 1999 مع إميلي ضمن سلسلة "حوارات مع روائيين لبنانيين." نعيد نشرَه تحيّةً لهذه الكاتبة الكبيرة.

الآداب

 

تناهى إلى سمع تلاميذي أنّني أُجري حوارًا مع إميلي نصر الله، فانبرتْ سنواتُهم النديّةُ تسألني عنها. وتشعّبت الأسئلةُ كثيرًا، لكنّ السؤالَ الذي تردّد على غير لسان ـــ وعذرًا لذكره ـــ "أهي حيّة؟!"  أثار فيّ هذا السؤالُ فكرةً لازمتني منذ الصغر، ومؤدّاها أنّنا ــــ نحن القرّاءَ الصغار ــــ نربط بين ورود اسم الكاتب (وصورتِه) في كتاب القراءة من جهة، وموتِه من جهةٍ ثانية؛ وكأنّ ترسيخ الكتابة في النشر يرادف زوالَ الكاتب من الحياة. وهذه الفكرة مضحكة، لأنّ الكاتب يحارب الموتَ بكتابته؛ يمارس فعلَ الحياة على الورق؛ بل يتماهى مع الخالق في إبداعه كونًا آخرَ يسيطر على مقدّراته ومنطقِه. غير أنّ هذه الفكرة المضحكة مبكيةٌ أيضًا لأنّ مَن نطمح إلى العيش فيهم، وعَبْرهم، يحسبوننا أمواتًا. وهذا ما يخيفنا كلَّنا، ويُقلق إبداعَنا، ويَخلق فينا حالتيْن متناقضتيْن: رغبةً محمومةً في الردّ على تحدّي العصر البارد الذي نحياه، وإحباطًا متينًا يُفشلنا ويعيدنا إلى مواقع ذاتيّةٍ هاربةٍ من مجتمعٍ يَطحن ويُطحَن.

هذا البوح كان ضروريًّا في بداية حديثي مع إميلي نصر الله، ربّما لتعقيم الأجواء قبل الدخول في تفاؤلِ هذه السيّدة اللطيفة والهادئة. أو لعلّه كان استفزازًا لقراءةِ ما قد باحت به في حوارٍ متشعّبٍ ومضنٍ، أعترفُ فيه بأنّها هي مَن كان لطيفًا ومصرًّا على ردّ الاعتبار إلى الجذور في زمنٍ يغترب فيه كلُّ شيءٍ، ومصرًّا على استيعاب الاختلاف بيننا وقبولِه وترويضِه في سبيل حديثٍ ممتعٍ وغنيّ.

وبغضّ النظر عن الاختلاف، فلا بدّ من الاعتراف بأنّ إميلي قد صارت جزءًا من ذاكرتنا الأدبيّة، إذ يكفيك أنّها أكثرُ من يُقرأ في سنيّ الفتوّة، تلك السنين الذهبيّةِ التي يُجبَر المرءُ فيها على القراءة، ويكافَأ عليها أو يُعاقَب. وبذا، فإنّ في ذهن مجايلينا صورةَ الطيور المرسومة على الغلاف البنّيّ، والاسمَ الذي يتناغم مع الغلاف حزنًا، طيور أيلول، ولا سيّما أنّنا في مجتمعاتٍ لا يترسّخ فيها إلّا الحزنُ الذي قلّ منافسوه.

وبالعودة إلى الكتابة، ومع استئذاني من تفاؤلكِ يا إميلي، فإنّني ــــ في صراعنا من أجل الكتابة ــــ أتذكّر عزيز نيسين، الذي كتب رسالةً إلى الموت، وأَقرّ فيها بصراعه معه، واعتبر أنّ حربَه ضدّ الموت أشرفُ من حربِ الموت ضدّه، لأنّه يعرف أنّه سيخسر في النهاية. فهل يكون صراعنا مأساويًّا هكذا؟

ي.أ

* ما كانت دوافعكِ الأساسيّة للكتابة؟

ــــ بدأتُ الكتابةَ [الأدبيّة] بالمصادفة حين بدأتُ العملَ الصحفيّ، وكان هذا هو العملَ الذي ساعدني على دفع أقساط الجامعة. لكنْ كان في سنوات الدراسة الثانويّة والتربية المنزليّة دفعٌ وتشجيعٌ على الكتابة [الأدبيّة]؛ فأستاذُ الأدب كان يختار موضوعي الإنشائيّ نموذجًا في الصفّ. وهناك الكثيرُ ممّا يمكن اعتبارُه إشاراتٍ لما سيحدث لاحقًا.

أحببتُ العملَ الصحفيّ كثيرًا، ووجدتُ أيضًا تيّارًا متحرّكًا في بيروت، أنا القادمةَ من قريةِ الكفير، ومن مدرسةٍ ابتدائيّةٍ ليس فيها كتابٌ واحدٌ للمطالعة. أعْلمُ اليوم كم كان دخولي الصحافةَ في بيروت، في منتصف الخمسينيّات، أمرًا مهمًّا؛ فقد كان الثراءُ الثقافيّ، والفرصُ التي أتاحتها لي الصحافة، هي المدرسةَ الأهمّ. وقد عوّضني الاختلاطُ بجميع أصناف البشر، والارتماءُ في هذا الجوّ المليء بالتناقضات، ممّا كنتُ فيه من الركود الثقافيّ في القرية.

كان عملي في الصحافة مصادفةً لأنّه من دون أوقاتٍ محدّدة. وكنتُ أدْرس التربيةَ في الجامعة، إلى أن شدّتني الصحافة. هنا لا بدّ من ذكر الصراع الذي بدأتُ أتحسّسُه في سنواتي الأخيرة في الصحافة، وهو الصراع بين الأسلوب الأدبيّ والأسلوب الصحافيّ؛ فقد كان رئيسُ التحرير يقول لي دائمًا إنّه يريد صحافةً لا أدبًا، وكنتُ أشعرُ بما يتغيّر فيّ، وبميْلي نحو الكتابة الأدبيّة، إلى أن قرّرتُ سنة 1970 التخلّي عن الصحافة.

ويمكن أن أذْكر أنّ النجاح الذي لاقته روايتي الأولى، طيور أيلول، قد شجّعني على الكتابة الأدبيّة في ذلك الوقت؛ فقد كان موضوع هذه الرواية ــــ وهو الهجرة من القرى وفراقُ الكهول ــ موضوعًا شاغلًا، ولهذا لاقت الرواية ما لاقته من إقبال.

* لماذا اتّجهتِ إلى الرواية والقصّة، لا إلى الشعر، على الرغم من أنّ تلك الفترة قد حدّدت الشعرَ بأنّه الوجهُ الأكثرُ تعبيرًا عن الحداثة؟

ـــ لاحظَ بعضُ النقّاد أنّ هناك الكثيرَ من الشعر في طيور أيلول. وقد دُعيتُ مرّتين إلى "خميس شعر" في أوتيل بلازا مع يوسف الخال، وكان ينصحني بقراءة الوجدانيّات وغيرها، لكنّني انسحبتُ لأنّني شعرتُ بأنّني لا أملك موهبةَ الشعر، بل أميلُ إلى الاتجاه القصصيّ. ثمّ طوّرتُ نفسي خلال دراستي الجامعيّة. فقرأتُ لروائيّين وقصّاصين، وقرأتُ الشعر للمتعة الشخصيّة فقط.

ويمكن أن يعودَ شغفي بالرواية إلى أنّ القصّاصة الأولى في حياتي كانت جدّتي، وكنتُ أُذهلُ بما تقصُّه علينا، ورحتُ منذ ذلك الوقت أتوقُ لكي أصبحَ مثلها.

صحيحٌ أنّ تلك الفترة كانت فترةَ الشّعر، لكنّها كانت في الوقت ذاته بدايةَ الكتابة الروائيّة الحديثة، وتكريسًا لكتابة النساء. ففي تلك الفترة ظهرتْ كوليت خوري وليلى بعلبكي؛ وفي مصر كانت طلائعُ الكتابة النسويّة، مثل الباب المفتوح للطيفة الزيّات؛ وكانت الفلسطينيّة سميرة عزّام قد سبقتْنا كلَّنا في كتابة القصّة.

* ماذا عَنَت لكِ الحداثة؟

ــ أتيتُ من قريةٍ تقليديّة، ومن مجتمعٍ مغرقٍ في تقليديّته. وهذا كلُّه انتقل معي إلى بيروت، إلى درجةِ أنّني عشتُ في الجامعة الأميركيّة ــــ التي كانت بؤرةَ تحرّرٍ فكريٍّ واجتماعيّ ــــ وأنا أرفض الخروجَ مع أيّ زميلٍ إلى سينما أو حفلةٍ راقصة، لأنّ أبسطَ "تقريرٍ" عنّي يمكن أن يصل إلى والدي هو: "روح ضُبّْ بنتَك!" ولذلك كنت واعيةً تمامًا لئلّا أُخيّبَ أملَ أحدهم.

ثمّ إنّني كنتُ الفتاةَ الأولى من الضيعة، وتجربتي ستفتح الطريقَ في القرية لغيري من الفتيات. ولمّا كنتُ وحيدةً في بيروت و"من دون حماية،" فقد أوجدتُ ذلك التشدّدَ مع ذاتي ومع الآخرين في المدينة والجامعة.

لكنّ هذا تلازمَ مع نزعةٍ شبهِ بطوليّة إلى الاستقلال والتحرّر. فقد كنتُ أؤمن أنّ المرأة قويّة وقادرة على أن تشقّ طريقَها وحدها، وقادرةٌ على تحقيق ذاتها وحدها. وقد ترى تناقضًا بين أن أكون داعيةَ تحرّرٍ، وبين أن أكون أسيرةَ المجتمع القرويّ. لكنّني أرى أنّني صرتُ أشدَّ اندفاعًا إلى المطالبة بالحريّة والاستقلاليّة لأنّني عرفتُ القسوةَ والاضطهادَ التقليديّ للمرأة.

                                         الوكالة الوطنيّة للإعلام تكرّم إميلي نصرالله.

* ما قصدتُه هو الموقف من الحداثة لا على صعيد التعامل الاجتماعيّ وحسب، فالحداثة كانت تعني في تلك الفترة التحرّرَ من تقاليد الكتابة أيضًا. وفي المقابل كانت رواياتُكِ تعود إلى الأرض/القرية، على الرغم من إظهارها الحياةَ في المدينة. فما كان تفسيرُكِ الخاصّ للحداثة في تلك الفترة؟ وكيف تقبّلَكِ ذلك الجوُّ الاجتماعيُّ والثقافيّ؟

ـــ إنّ على مَن يكتب روايةً أن يكتبَ ما يعرفه. وأنا في بيروت منذ سنة 1958: بدأتُ فيها طالبةً، وها أنا أكملُ حياتي فيها. لكن أصْدقك القول إنني أشعر أنّني لستُ ابنةَ المدينة. أحبُّ بيروت كثيرًا، غير أنّ جذوري لا تزال في الرّيف؛ فهو المكان الذي ولدتُ فيه، وعرفتُه جيدًا؛ وهو المكانُ المهمَل، الذي لا يملك صوتًا، ولا تملكُ النساءُ فيه ـــ على وجه التخصيص ـــ فرصةً لإنماء طاقاتهنّ والإحساسِ بقيمتهنّ الإنسانيّة... وأنا واحدة من أولئك النساء.

حين بدأتُ الكتابة لم أكن أنظر إلى المرأة الغربيّة وحدها نموذجًا. قد تكون هذه الرؤية هي المرآة التي أرى في انعكاسها الإمكانيّاتِ التي يمكن أن تصل إليها المرأة؛ إنما كانت المرأة القريبة منّي هي همّي الأوّل: تلك التي عانيتُ معها، وتألّمتُ معها، وكنتُ سأكون في وضعها الآن لولا منعطفٌ صغيرٌ في حياتي يسّر لي أن أكتبَ عنها وأطرحَ قضيّتها.

وكان عندي أيضًا همٌّ آخر، هو همُّ الهجرة. وهو موضوعٌ آلمني كثيرًا، لأنّ أجيالًا أخرى، سبقتْ جيلي، كان هدفُها وتطلّعاتُها الأولى أن تكبرَ وتسافر: فالأرض كانت تزداد شحًّا، والفرصُ تقلُّ أو تنعدم. وفي عائلتي صُدمتُ بهجرة إخوتي الذين خلّفوا وراءهم والديْن على أعتاب الشيخوخة، وتركوني لأنّني أرفض الهجرة، رغم أنّني سجّلتُ في الـ"كوتا."

وهذا أمرٌ طريفٌ أخبركَ به: فقد كان كلُّ طفل يولد في أميركا يسجِّل قريبًا له في الكوتا، وينتظر دورَه في الحصول على تأشيرةِ هجرة. وبعد ثلاثين سنةً جاء دوري في السفر! بالطبع كانت الفكرة بعيدةً جدًّا عن بالي، ولربّما عقّدني هذا الأمرُ ودفعني إلى الكتابة ضدّ الهجرة، لأنّني بطبعي أرفض كلَّ ما يُفرض عليّ. وربّما جعلني ذلك أغوص أعمقَ في فكرة الهجرة؛ فعلى عكس كثيرٍ ممّن كانوا يروْنها مُنقذًا من الفقر والعوز، ومحطّةً من محطّات الطموح، كنتُ أراها المكانَ الذي يُفرغ قرانا ويُحزن قلوبَنا ويبوّر أرضَنا.

لذا لم أعبِّر عن الهجرة إلّا سلبيًّا. ولم أكتفِ بنقد الهجرة في طيور أيلول، أو في الإقلاع عكس الزمن، بل ما زالت الهجرةُ عندي حتى الآن موضوعًا أشعر أنّني في بداياته، لأنّه بالنسبة إلى مجتمعنا، وبخاصّةٍ المجتمع الريفيّ، في صلب مشاكلنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

* أريد أن أقف عند هذين الموضوعين: المرأة والهجرة. ذلك أنّ قضيّة المراة اختلفتْ كثيرًا اليوم، واختلفت القيمُ الخاصّةُ بها بسبب التطوّر السياسيّ والاقتصاديّ الذي حدث. فسابقًا كان من "المعيب" أن يرسلَ بعضُنا ابنتَه إلى المدرسة، وأمّا اليوم فعدمُ إرسالها هو ما يعيب؛ وكان عملُ الابنة أو الزوجة معيبًا، أمّا اليوم فالرجل بحاجةٍ إلى عملهما. أمّا قضيّةُ الهجرة فترتبط بالهمّ الاقتصاديّ مباشرةً، مثل بوار الأرض وانعدام الفرص. إذَا نحن أمام قضيّتين مرتبطتين بهمومٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّة. لكنّنا نلاحظ أنّكِ عزلتِ هاتين القضيّتين عن الحركة العامّة للمجتمع، واكتفيتِ ببعض الإشارات إلى ذلك الارتباط.

ـــ ربّما لأنّ مجتمعَنا الذي أعبِّر عنه هو، في ذاته، معزولٌ عن السياسة، بعيدٌ عن الأحداث التي تجري في العاصمة حيث تُقرَّر الأمورُ السياسيّة، رحتُ أكتبُ عن ذلك الواقع الذي يعزل الناسَ فعليًّا. فالمرشَّح [إلى الانتخابات] يزور أهلَ القرى مرّةً واحدةً كلَّ أربع سنوات، ويستغلُّهم، ويحادثُهم قليلًا، ثمّ ينساهم ــ ــ وهذا يشكّل اتصالَهم الأكبرَ بالسياسة. إذًا، هذا المجتمع يعيش في عزلة. ولئن كتبتُ عنه على ذلك النحو، فلكي أعبِّرَ عن حقيقته.

وأمّا في بيروت، فالأجواء مختلفة. كنتُ في بيروت أعيش التحرّكاتِ والتيّاراتِ السياسيّة، وهمومَ قضيّة فلسطين. وكنتُ أعمل في مجلةٍ سياسيّة، على الرغم من أنّني لم أكن أكتب في السياسة مباشرةً.

وهكذا، فإنّ مجتمع الريف الذي كتبتُ عنه لا أستطيع أن أعطيَه صفاتٍ غيرَ موجودة فيه، وإلّا زوّرتُ حقيقتَه. ولقد ركّزتُ على الناحية الاجتماعيّة، وهذا صحيح، لكنّ ذلك كان مهمًّا جدًا. ثمّ إنّك إنْ راجعتَ قصصي، وما كتبه النقّادُ عن التطوّر في شخصيّة المرأة في قصصي، وبخاصّةٍ في مرحلةِ ما بعد السبعينيّات، فسترى أنّ المرأة لم تعد تلك الريفيّةَ المحرومة، بل صارت هناك نماذجُ نسائيّةٌ تحقّق ذواتها.

لقد نضجتُ وعرفتُ التجربةَ الأخرى، تجربةَ تحقيق الذات، وعبّرتُ عنها من خلال شخصيّات قصصي ورواياتي. إذن، لا تستطيع أن تعتبر أنّ كلّ كتاباتي هي عن المرأة الريفيّة...

* أنا أتحدّث عن رواياتك الأولى في فترة الستينيّات...

ـــ ولكنْ ليست كلُّ كتاباتي مثلَ الكتابات الأولى! فرواياتي اللاحقة راحت تتطوّر مع تطوّر شخصيّتي في المدينة وعطائها لي، ومع التحوّلات التي جرت. لا نستطيع اليومَ أن نقول إنّ المرأة بعد حرب 1975 هي ذاتُها التي كانت قبل الحرب.

كما أنّني أؤكّد أنّ المرأة لم تتحرّر كما نريدها نحن أن تتحرّر. فأنا لا أؤمن أنّ التحرّر هو في ارتداء الثياب الفاضحة، أو في تقليدِ الغرب وأخذِ قشور الحضارةِ منه. بل أنا أؤمن أنّ في تربيتنا ومجتمعنا وتقاليدنا قيمًا تتفوّق على القيم التي يصدِّرها الغربُ إلينا، ويجب أن نحافظ على قيمنا تلك ونطوّرَها وننمّيها. فعلى سبيل المثال، أنا لا أحبّ أن أخسر العلاقاتِ الأسريّة، بل أحبّ أن يبقى التواصلُ بين الأجيال، وأن يشعر الحفيدُ أنّ جدّيْه يحضنانه، وأنّ الأب والأمّ هما حضنُ الأطفال الجامع ــ ــ وكلُّ هذا يساعد في الحفاظ على مجتمعٍ سليم.

كما أنّني أعتقد أنّ المرأة الآن لا تعمِّق معرفتَها بالدنيا، على الرغم من انفتاح الفرص والجامعات الكبيرة أمامها. وكلامي ينطبق على الرجل أيضًا، لأنّني لا أفصل الواحد منهما عن الآخر، وإنّما يتكاملان في التحرّر.

النزعة التحرريّة ليست قشورًا، ولا تشدّقًا في الكلام على التحرّر. لا يكفي الكلامُ باللغات الأجنبيّة مثلًا، بل علينا أن نسأل عن أسباب التحرّر. وستقودنا هذه الأسئلة إلى فهم سبب كتابة الشعر الحديث، وسبب ظهور المدارس الرمزيّة والعبثيّة في الغرب.

ومن هنا يزعجني شكلُ تحرّر المرأة حاليًّا. وتزعجني تلك النزعةُ المادّيّةُ في شبابنا، وغضُّ النظر عن القيم التي أحترمُها وأدعو إلى الحفاظ عليها وعدم الاكتفاء بالنجاح الماديّ. هذا التوجّه الماديّ تجده في الغرب؛ فشبابُه يرغبون في النجاح بأسرع وقتٍ وبأيّ ثمن. وهذا ما يصيب شبابَنا الطامح إلى الوصول السريع، ويحصر دورَ العلم بجمع الثروات إن أمكن، وكأنْ لا قيمة للأدباء والعلماء والبحّاثين، ولا قيمة للفلسفة والأدب والشعر ما لم توصلك إلى الإثراء!

* ولكن هل تعتبرين أنّ القيم أمرٌ ثابت، أم أنّ المجتمع هو الذي ينتجها؟

ـــ من المؤكّد أنّ القيم غير ثابتة، لكنّني مع الاحتفاظ بالقيم التي أؤمن بها. فأنا لا أحبّذ أن أدمّر كلَّ القديم في سبيل إنشاء شيءٍ جديد، لأنّ هذا القديم قد يحمل بذورًا خيّرةً وراقيةً ومفيدةً للإنسانيّة وللحضارة.

* على الرغم من أنّني لا أوافقك على جزءٍ كبير من دعوتك إلى عقلنة التحديث والتطوّر، فإنّني لا أستطيع إلا أن أطرح مقارنةً غريبة. فحين كتبتِ في الستينيّات عن قضيّة المرأة وتحرّرها، كنتِ تهزّين قيمًا، وكان هنالك من يعارضك ويعتبر "أنّ علينا أن نحافظ على قيمنا." أفلا تخافين، إذًا، أنّك، بموقفكِ السلبيّ من القيم الجديدة التي تظهر في المجتمع، تشبهين أولئك الذين عارضوكِ في السابق؟ أم أنّ هناك فكرةً أخرى تريحنا وتجعلنا نقول بطمأنينة إنّ بعض هذه القيم الجديدة سلبيّة؟

ـــ الشموليّة في إصدار الأحكام أمرٌ خطير، سواء تعلّق ذلك بالماضي أو بالحاضر أو بالمستقبل. ومن أجل ذلك أقول إنّ التعامل العقلانيّ هو ما يسمح لي بأن أنظر إلى الأمور بواقعيّة. فأنا لا أريد أن أقدِّس الماضي، بل آخذُ منه خلاصاتٍ أعتقد أنها جيّدة لحفظ المجتمع والإنسان وسلامته العقليّة والروحيّة.

كما أنّني منفتحة إلى أقصى الحدود على كلِّ ما يأتي من جديد، لكنّني أريد أن أغربله؛ فما يأتيني من الخارج مشكوكٌ فيه مبدئيًّا عندي، ولذا أفحصُه أوّلًا ثمّ أَقبل منه ما أقبل. وكما رفضتُ أن تُفرضَ عليّ قيمُ أهلي في الماضي، فإنّني أرفضُ الآتي من الخارج إنْ فُرض هو أيضًا. لماذا؟ لأنّ الله أعطانا العقلَ لنقيسَ به الأصلح، على ضوء تربيتنا ومعتقداتنا، وعلى ضوء تفكيرنا الذي أحبُّه صافيًا وموضوعيًّا وغيرَ متحيّزٍ وحرًّا.

* سأعود إلى كتاباتك الأولى في الستينيّات. عندما نقرأ رواياتك آنذاك لا نرى إلّا القرية. أيْ إنّ شخصيّاتك لم تَدخلْ في نسيج حركة المدينة وتناقضاتها السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة. ومع تأكيدي أنّكِ روائيّةٌ، لا عالمةُ اجتماع، فإنّه يبدو غريبًا أنّ روايةً تتحدّث عن فتاةٍ في مدينةٍ صاخبة، وفي جامعة المدينة، لا همَّ لديها لتنقله إلّا القريةَ التي تركتها!

ـــ أنتَ مُحقٌّ في ذلك في ما يخصّ روايتيَّ الأُولييْن: طيور أيلول وشجرة الدفلى. لكنّ المناخ في الرهينة تغيّر؛ فهذه روايةٌ عن طالبتيْن في الجامعة، وأجواؤها هي أجواءُ المدينة. ولكنْ بقيت الرهينة تحمل نوعًا من الانفصام في الشخصيّة: فهناك شخصيّةُ الوافدة إلى المدينة، وشخصيّةُ ابنة بيروت، وقد كانتا صديقتيْن نَمَت علاقتُهما في الرواية.

وهكذا فقد احتجتُ إلى بعض الوقت كي تَدخلَ المدينةُ إليّ، وكي أتبنّاها كما تبنّتني، وتَظهرَ في كتاباتي. بعدها كتبتُ تلك الذكريات. لكنّ الرهينة كانت روايتي الأولى التي تجد فيها بيروتَ، وأجواءَها، وجامعتَها، وضياعَ الناس فيها، وكلَّ التجربة الوجدانيّة التي تعيشها البنتُ الريفيّةُ التي تقصد المدينةَ لتتعلّمَ وتجدَ مكانًا لها.

قلت: "شخصية الوافدة..." وهذا تعبيرٌ صحيح. فلو نظرتَ إلى الأدب اللبنانيّ، لوجدتَ أنّ معظمَه من إنتاج الريفيّين. ثمّة مَن كتبوا من أهل المدن فعلًا، لكنّهم أقلّيّة. ومَن كتبوا عن المدينة هم في معظمهم من الريفيّين. فالكلاسيكيّون الأوائل، وجماعةُ "النهضة،" معظمُهم ريفيّون. حتى الأدبُ المهجريّ، وتجربةُ كتابة الرواية والقصّة مع توفيق يوسف عوّاد وغيره. صحيح أنّك تجد سهيل إدريس في المدينة يكتب الرواية، وفي الفكر تجد عمر فاخوري...

* ومحمد عيتاني...

ـــ محمد عيتاني ابنُ المدينة في تجاربه. لكنّكَ إذا قارنتَ عددَ هؤلاء بعدد الشعراء والروائيّين اللبنانيين عمومًا، فإنّك تجدُه قليلًا. وهذه ظاهرةٌ تستحقّ أن تُدرَس: ألأنّ بلدنا قريةٌ كبيرة؟ أمْ لأنّ بيروت التحوّلات لا تسمح بأن يكون للإنتاج مركزٌ واحدٌ ومحدّد؟

* أو ربّما لأنّ كتابة الرواية مغامرةٌ لا يحتاج إليها ابنُ المدينة؟

ـــ ربّما؛ فابنُ القرية وافدٌ إلى المدينة بطموحاته، أمّا ابنُ المدينة فمستقرٌّ ومرتاحٌ وله أهدافٌ أخرى.

* على ذكْر سهيل إدريس، ألاحظ أنّ شخصيّاته في الخندق الغميق مثلًا تشبه في مشاكلها وتوقها إلى التحرّر الكثيرَ من الشخصيّات المأزومة في روايات "الوافدين،" على الرغم من أنّه يتحدّث عن جوٍّ مدينيٍّ خالصٍ وصافٍ. وهذا يشيرُ إلى تشابه الأوضاع الاجتماعية بين الريف والمدينة...

ـــ لكنّكَ إذا عدتَ إلى تحليل مدينة مثل بيروت، أفلا ترى أنّ الأحياء فيها هي قرًى صغيرة؟ وأنّ فيها من التقاليد ما قد يفوق مثيلاتِها في القرى كمًّا وتعقيدًا؟ وذلك لأنّ الطبيعة في القرى تفرض البساطة، وأشعر أنّ الأحياء المقفلة في بيروت كالبسطة والأشرفيّة هي قرًى. الوافدون قبعوا في تخوم المدينة بدايةً ولم يخترقوها.

* سأنتقل بالكلام إلى موضوعٍ تقنيّ. ما دمتِ تعتمدين الواقعيّةَ في كتاباتك، وتكتبين ما تعرفينه مباشرةً، فسأسألكِ عن الواقعيّة التقنيّة في رواياتك. فهذه التقنيّة تنقل مشاهداتِ الشخصيّة ومونولوغاتها؛ والزمن في رواياتك يسير إلى الأمام، ولا نجد أثرًا للفانتازيا. أوَلَم تطرحي هذا الأسلوب على نطاق البحث والتغيير؟

ـــ لا أستطيع أن أوافقَكَ تمامًا. فأنا مثلًا أستعملُ تقنيّة الارتداد (فلاش باك) كثيرًا، والزمنُ في بعض قصصي متكسّرٌ بدرجةٍ كبيرة. لعلّ ما قلته صحيحٌ بالنسبة إلى أعمالي الأولى؛ ذلك لأنّني، منذ لحظة بداية الكتابة، وضعتُ نقطةَ بدايةٍ زمنيّة مرتبطة بحياتي وبتجربتي الشخصيّة. وقد كانت الروايات متتابعةً: طيور أيلول ثمّ شجرة الدفلى، حيث تجد ما يشبه التسلسلَ المنطقيّ، الذي تَتَابع في الرهينة. وذلك متناسق مع تجربتي وحياتي ومسيرتي، التي كنت أسجّلها عبر الرواية. ثمّ اختلفت الأمور كثيرًا منذ الرهينة التي تبدأ في نهاية الرواية؛ وفي الجمر الغافي حيث تبدأ الروايةُ بعد ثلاثين سنة (فـ"نزهة" تعود إلى القرية بعد ثلاثين سنةً على أحداثٍ مرّت في القرية).

إذًا، لم يبقَ الزمنُ عندي متتابعًا كما وصفتَ. فمع تطوّر الأحداث، وبدايةِ الحرب اللبنانيّة، تغيّرتْ أشياءُ كثيرة: لم يعد هناك منطق؛ ولم تعد التجربةُ متسلسلةً، بل غدت متقطّعةً بسبب الهجرة وغير ذلك... عدا عن أنّ الواقع كان يغيِّرني من الداخل؛ كنتُ أتغيّر في تجربتي الكتابيّة ذاتها!

* تقولين إنّ تحرّر المرأة من تحرّر الرجل، والعكس صحيح. كيف يمكن الحديث عن أدبٍ نسويّ، وعن "قضيّة المرأة"؟ وهل قضيّة المرأة معزولة عن باقي القضايا؟

ـــ قضيّة المرأة غير معزولة على الإطلاق. وأنا غيرُ متعصّبة لتعبير "أدب نسويّ،" وكتاباتي ليست كتاباتٍ نسائيّة. صحيح أنّني كتبتُ عن المرأة، ولكنّ ذلك لأنّني امرأة، أيْ لأنني أتحسّس قضاياها من الداخل، بينما الرجل يكتب عنها من الخارج ــ ــ وهذه هي أهميّةُ ما تكتبه المرأةُ في عصرنا، بغضّ النظر عن الأهميّة الأدبيّة لما تكتبه. ويقال دائمًا إنّ الروائيّين العظماء خَلقوا شخصيّاتٍ نسائيّةً تاريخيّةً وخالدة؛ وأنا أعترف بذلك. لكنّ ما حصل في كتابات المرأة والثورة النسائيّة هو أنّ المرأة كُتبتْ من الداخل، وصوتُ الداخل شديدُ الأهميّة، وأعتقد أنّ من الضروريّ الإنصاتَ إليه. فعندما تُحرم المرأةُ السفرَ إلّا بإذن ذكَرٍ من العائلة، مثلًا، فإنّ ذلك لن يؤثّر في هذا الذكَر إلّا إذا كان قريبًا جدًّا منها ومناضلًا في صفّ الإنسانيّة. أمّا بالنسبة إلى المرأة، فحرمانُها ذاك قضيّةُ كرامةٍ ووجود.

الكتابة عن مثل هذه المشكلة تحتاج إلى حرقةٍ وألمٍ لا يملكُهما الرجل. عندما كنت أكتب، كانت نساءُ قريتي يجلسن معي ويُمْلين عليّ بعضَ القصص: كنتُ أشعرُ أنهنّ هنّ اللواتي يكتبن قصصي وأنّني خرجتُ من ظهرانيهنّ. أنا حقّقتُ ما لم يحقّقنه، فبقين الصوتَ المندحر، الصوتَ الأخرس.

الكتابة النسويّة التي بدأتْ في الستينيّات انحرفتْ عن المسار الأوّل، وتطرّفتْ جدًّا، وخرّبت العلاقةَ مع الرجل. تصوّرْ أنّ في كندا وأميركا مثلًا دُورَ نشرٍ للأدب المثليّ، ومكتباتٍ كاملةً مخصّصةً لهذه الكتب. الإنسان حرٌّ في كيفيّة تعامله مع جسده، لكنّني ما زلتُ أرفض أن تختار المرأةُ ما يشبه هذا المسارَ في سبيل التحرّر. ولذلك تراني أتمسّك ببعض عاداتنا، وبعدم التطرّف في الكتابة النسويّة. وحين أكتب أفكّر برفضي الوصولَ إلى "الانحراف" الحاصل في الغرب: فأنا أمٌّ وجدّةٌ، وأحبُّ لأبنائي ولأحفادي أن يستمرّوا في الخطّ السليم. صحيح أنّ تحرّر المرأة حلّ الكثيرَ من المشاكل والعُقد، ولكنّ التطرّفَ فيه خلق مشكلةً كبيرة.

* إذا تذكّرنا "تميمة" في رواية طواحين بيروت لتوفيق يوسف عوّاد، رأينا أنّه استطاع أن يصف معاناتَها في المجتمعين القرويّ والمدينيّ، لكنّه في المقابل أظهر أنّ الكلّ كان مقموعًا في مجتمعه. وهذا يعني أنّ الرجل نفسَه لم يكن كائنًا حرًّا.

ـــ أنا أوافق على هذا. لكنّ الرجل مقموعٌ اجتماعيًّا وسياسيًّا، بينما المرأة مقموعة اجتماعيًّا وسياسيًّا وعائليًّا لأنّ الرجل هو الذي يملك السلطةَ في منزله.

* لكنّ الأمور اختلفت الآن. فقلّما تجدين شابًّا وشابّةً متزوّجيْن لا يعملان كلاهما...

ـــ هذا صحيح. جيلُ أولادنا شهد تحوّلاتٍ لم نكن نحلم بها: فابني، مثلًا، يعمل في البيت، ويساعد زوجتَه. وكذلك صهرُه...

* ما أودّ قولَه هو أنّ معاناة المرأة، كجزءٍ من معاناة مجتمعٍ كامل، قد عبّر عنها رجالٌ، لا نساءٌ فحسب. فعوّاد حاول أن يعبِّر عن ذلك، مضفيًا على الموضوع طابعًا سياسيًّا. وسهيل إدريس تحدّث عن التحرّر الاجتماعيّ، من دون الخوض في تفاصيل سياسيّة، لكنّه أظهر أنّ الأخ مثلُ الأخت تمامًا في تعرّضهما للقمع. كان هنالك، إذن، بعضُ الكتّاب الذين حاولوا أن يعالجوا هذا الموضوعَ في وصفهم بشرًا. ولكنّنا لم نشعرْ في الأدب النسويّ بموضوع قمع المجتمع، بقدر ما كان هذا الأدبُ مهتمًّا بموضوع قمع المراة بالذات.

ـــ إذا لم تكن سعيدًا ومتخلّصًا من مشاكلك، فستعجز عن مساعدة الآخر. المرأة كانت ـــ وما تزال ـــ غارقةً في مشاكلها، لذا لم تقْدر أن تقولَ للرجل إنّه أيضًا بحاجةٍ إلى التحرّر؛ فهو ما زال يقمعها، في وصفه "سيّدَها."

إليكَ هذه الحادثة: سيّدة تزوّجتْ رجلًا مغتربًا. عندما كنتُ هناك، قيل لي إنّ واحدةً من قريباتي توفّيتْ، فذهبتُ إلى الجنّاز. كانت السيّدة من بين الحاضرين، فقالت إنّ المتوفّاة ارتاحت، وإنّه حين توفّي زوجُها بقيتْ في المنزل ولم تخرجْ، فطلبتْ منها ابنتُها أن تأتي معها وترتاحَ قليلًا، فأجابت: "أذهبُ... شرط أن تأخذيني أولًا إلى قبر أبيك لأستأذنَ منه!"

هذه القصة صدمتني: فالرجل لم يعانِ على وجه الإجمال؛ أمّا المرأة فخضعتْ أجيالًا طويلة ــ ــ وهو ما يترك ترسّباتٍ في اللاوعي، وتحتاج إلى وقتٍ طويلٍ كي تتخلّص منها.

* مرّت علينا تجربةُ الحرب الطويلة والمتشعّبة، ولكنّ تعبيركِ عنها اقتصر على التعاطف مع الضحايا. فلِمَ اكتفيتِ بنقل صورة الضحيّة؟

ـــ لا أعتبر إنّني، أنا الكاتبة الروائية (لأنّ قصصي القصيرة أعتبرها الاستراحة بين روايتين)، قد كتبتُ رواية الحرب. فأنا لا أستطيع أن أكتبَ بسرعةٍ عن الحرب؛ لا أستطيع أن أكتبَ والجمرُ يُحرق يديّ. أحتاج إلى مرحلةٍ زمنيّة أو فسحةٍ تجعل الأشياءَ تصفو؛ فأنا لا أريد أن أكتب بعاطفتي فقط، بل على روايتي أن تحتوي موضوعيّةً معيّنةً تضمن الرؤيةَ الصافية. ما كتبتُه كان رواياتٍ على هامش الحرب: من تلك الذكريات، أولى رواياتي بعد الحرب، إلى الإقلاع عكس الزمن.

في القصص القصيرة وصفتُ أكثر، ودخلتُ في التفاصيل، كما هي الحال في قصّة "انفجار" من مجموعة خبزنا اليوميّ.

كنتُ أصف انفجارًا رأيتُه في سوبر ماركت، وهو انفجارٌ سبّب لي صداعًا جنونيًّا، وقلتُ إنّني لن أستطيع أن أشفى من ألمي إلّا إذا كتبتُ ما صدمني. فجلستُ وكتبتُ القصّة بعد أن تشتَّتُّ قِطَعًا. كنتُ، إذن، أتداخلُ مع هؤلاء الضحايا، ولم أكن شاهدًا خارجيًّا على الحرب فحسب. قد تَعتبر أنّ ذلك [مجرّدُ] شعور، وسأقول لك إنّ هذا صحيح، ولكننا لا نستطيع أن نفصل العاطفةَ عن الفكر؛ فهما يتكاملان وكلاهما يشكّلان العمل الإبداعيّ.

* ثمّة موضوعاتٌ تبدو محرّمةً في كتاباتك، ومنها الحربُ اللبنانيّة، التي لم يخض فيها إلّا قلّةٌ من الملتزمين السياسيّين (مثل ليانة بدر ويحيى يخلف من فلسطين، وإلياس خوري من اللبنانيّين). أمّا الأكثريّة فاتّخذوا موقفًا آخرَ كالكتابة عن الضحايا، وبعضُهم أغفلها إغفالًا تامًّا، وكأنّه لم تقع حربٌ أمام عينيه. وأنتِ مثلًا تذكرين في إحدى قصصك القصيرة أنّ صديقةً كلّمتكِ من المنطقة الشرقيّة، وهو ما يدلّنا على أنّ الراوي من بيروت الغربيّة، وتنتهي التفاصيلُ عند هذا الحدّ. ونلاحظ أيضًا أنّ شخصيّةَ المسلّح أو مرتكب الحرب مغيّبةٌ عندكِ تمامًا، وكأنّه لم يكن موجودًا، أو كأنّه غيرُ بشريٍّ ولا يستحقّ أن يُذكر.

ـــ توحي بأننّي منحازةٌ إلى الضحايا، وهذا صحيح. فكما أنّني حين كتبتُ عن المرأة قالت عنّي الناقدة فريال غزّول "إنّ إميلي نصر الله تكتب عن الغلّابة،" فإنّني بطبعي تعاطفتُ مع الضحايا لا مع المقاتلين.

ثمّ إنّني لم أذهبْ إلى الحرب، ولا تعرّفتُ إلى هؤلاء المقاتلين؛ وأنا لا أستطيع أن أكتب عن الناس الذين لم أعش معهم ولم أعرف أجواءهم. لقد كانوا دائمًا، في كتابتي، هم الآخرَ المجهول الذي يقصفنا ويخلق الضحايا.

حول بيتي، هنا، دارت معاركُ بين الأحزاب سنتيْ 1984 و1985، وقد حاول المقاتلون الصعودَ إلى سطحه للتقنيص، فمنعهم الناطورُ وتشاجر معهم. وهكذا سُجِنّا في المنزل كالصراصير، فيما كان الرصاص يمزّق واجهةَ المبنى.

إذن، أنا أكتب عن الناس الذين عرفتُهم. أكتب عن السيّدة الأجنبيّة التي تسكن في هذه البناية كيف كانت تزحف مع الـ"شينيون" على الأرض. هناك تفاصيلُ كاريكاتوريّة ولكنْ مؤلمة! كنتَ ترى الإنسانَ يتبارى مع الصرصار في محاولات الاختباء لأنّ آخرَ يقصفه. أنا لم أعرف هذا الآخر.

ذاتَ مرّة كنا مختبئين في الطابق الأرضيّ، لعدم وجود ملجأ في البناية، فرنّ جرسُ الهاتف. زحفنا خوفًا من القنّاص، وكان على الهاتف أمُّ قائدِ المقاتلين تسأل عنه، وكان اسمُه فراس. غرقتُ في الضحك وأنا أتساءل إنْ كانت له أمّ، وهي تسأل عنه وبالها مشغولٌ عليه مثل كلّ الأمّهات.

* في رأيكِ، ألم يكن الشبابُ المسلّحون، وتحديدًا شباب عامي 1975 و1976 (وأكثرُهم في السادسة عشرة أو السابعة عشرة)، ضحيّةً لوضعٍ فكريّ سبق انخراطَهم في الحرب؟

ـــ هؤلاء الشباب الذين غُسلتْ أدمغتُهم وأُعطوا المخدِّرات وحُوِّلوا أدواتٍ للقتل هم ضحايا بالتأكيد. وموقفي أنا أقربُ إلى الطوباويّة بالنسبة إلى العنف: فأنا ضدّ أيّ فكرة تفيد أنّ العنفَ قد يوصل إلى حلّ مشاكل إنسانيّة. موقفي الفلسفيّ والإنسانيّ هو أن نَستخدمَ عقلَنا لحلّ مشاكلنا. وللأسف، لم يصل الإنسانُ بعدُ، على الرغم من كلّ التقدّم التقنيّ الذي وصل إليه، إلى مرحلة الحكمة وإلى استخدام العقل، وهو الأداة التي ميّزنا بها اللهُ عن سائر المخلوقات. ما زال الإنسان كما كان أيّامَ الكهوف، يَستخدم الأدوات البدائيّة ليتصيّد. ما زال يتصيّد الآن لا لأنّه جائع، بل لأنّه مجرم، أو لأنّه أكثرُ إجرامًا. ولا أؤمن أنّ في الحرب أبطالًا أو انتصارات، لأنّ المنتصر ـــ كما يقول التاريخ ـــ خسرانٌ في داخله؛ ذلك لأنّ الشباب العائد من ساحة القتال سيعيش هاجسَ الأرواح التي أزهقها، وسيخسر نفسَه.

هذا هو موقفي، الذي ينعكس في تجاهلي لأدوات القتل، الذين هم ضحايا بالتأكيد.

* فكرة الحرب لم تكن مفاجئة لجيل الستينيّات. فهو جيلٌ قرأ طواحين بيروت، وشارك في استفتاء ملحق النهار سنة 1969 الذي دار حول شكل التغيير اللازم: أبالعنف يكون أمْ بغيره؟

ـــ لم تفاجئْنا الحرب؛ فالتطوّر الاجتماعيّ لم يكن طبيعيًّا، وهو ما جعلنا نتوقّع حدثًا مهمًّا. لكنّ أحدًا لم يتخيّلْ أنّ الحرب ستحدث بهذا الشكل العنيف والطويل. كنا نرى أنّ هنالك خللًا في المجتمع: فهنالك أناسٌ يشْكون وقد صارت شكواهم عاليةً؛ وهناك مَن لا يشعر مع الآخرين ويتمادى في حياة الترف والبذخ. إلّا أنّ الحرب كانت صدمةً، إذ لا يستعدّ أحدٌ لحربٍ بالتوقيت والشّكل...

* بلى، الأميركيّون الآن يخبرون الدولَ أنّهم سيَضربون، ويحدّدون متى وكيف؟

ـــ الآن الموضوع مختلف. الآن يخبرونك ويهزمونك أوّلًا إعلاميًّا. الوضع الآن في العالم مفجع.

                              الوسام الألماني الفخري "غوته" لإيميلي نصرالله.

* هنالك موضوع آخر تجنّبتْه رواياتُكِ، وقد كان مدارَ بحثٍ في الستينيّات، وهو موضوعُ الجنس. بل نلاحظ أنّ شخصيّاتكِ تكاد أن تعاديه.

ـــ أكثرُ شخصيّاتي من هذا المجتمع. وفي هذا المجتمع تتصرّف الشخصيّاتُ على هذا النحو! أنا تكلّمتُ بلغة الشخصيّات التي أصفُها، وبلغة المكان الذي أتحدّث عنه. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ الجنس ليس كتابةَ الإثارة؛ ففي كتابتي تجد رموزًا جنسيّةً، وإنْ بقي الجنس مخفيًّا للأسباب التي ذكرتُها.

أضف إلى ذلك أنّ الجنس ــــ بناءً على تربيتي ــــ لم يكن هاجسًا أو مصدرًا للقلق؛ فما كان يقلقُني هو المصيرُ الإنسانيّ. هواجسي فكريّة لا جسديّة... مع احترامي للجسد واعترافي بوجوده. لا شكّ في أنّ التحرّر الجنسيّ في عصرنا الآن يَفترض وجودَ كتابةٍ له، لكنّني أتكلّم عن مجتمعٍ لم يُصَبْ بهذه "اللوثة" بعد! فأنا لا أستطيع أن أُلبس كاترينا أو حنّة أو سعيدة "مينيجوبًّا،" وصعبٌ أن أصفَ الناسَ بما ليس من أخلاقهم أو عاداتهم. للنّاس عندنا أسلوبُهم ورموزُهم في الكلام. لقد أثرتُ قضيّةَ بكارة العروس بدءًا من طيور أيلول، ثمّ عدتُ إليها في الجمر الغافي، وأشرتُ إلى الأزمة الفظيعة التي قد تقع من جرّاء الشكّ في بكارة الفتاة؛ وهذا لا يشعر به إلا من عاناه في مجتمعه.

* سأعود إلى الرواية الآن، وأسألُ إميلي القارئة: كيف ترى الرواية اللبنانيّة اليوم؟

ـــ أنا أؤمن أنّنا نملك روايةً لبنانيّةً لها خصائصُها، وجذورُها في الريف، بدءًا من روّادها الأوائل: جبران ونعيمة وعوّاد وعبّود. هناك رواية لبنانيّة تختلف عن تلك التي كُتبتْ في مصر أو العراق، وهي أقربُ إلى الرواية في سوريا. وقد قفزت الروايةُ اللبنانيّة قفزاتٍ مهمّةً في الستينيّات، وامتلكتْ وعيًا فنّيًّا، وتأثّرتْ بالرواية الغربيّة والشرقيّة الروسيّة. وقد ظهر هذا التأثّرُ واضحًا: فأنتَ ترى أثرَ الروايات الفرنسيّة عند يوسف حبشي الأشقر، وليلى بعلبكي لُقّبتْ بـ"فرانسواز ساغان لبنان" وإنْ كنتُ لا أرى ذلك على الرغم من التأثّر الواضح بالمدرسة الفلسفيّة الوجوديّة التي دخلتْ في ثقافتنا. أمّا أنا فقد قرأتُ الرواية الإنكليزيّة والأميركيّة والروسيّة، وأشعر أنّي أكتبُ روايتي اللبنانيّة. وأنا أتأثّر بما قرأتُ في الجامعة وغيرها من أعمال إرنست همنغواي وفرجينيا وولف وجيمس جويس وغيرهم ممّن حدّثوا الرواية. لكنّني لم أحاول أن أقلّد هؤلاء الغربيّين فكرًا أو أسلوبًا، بل عدتُ إلى أصول تراثي وبيئتي، ثمّ كتبتُ بطريقة جديدة.

رواياتي ليست تقليديّة، وكلٌّ منها ذاتُ أسلوبٍ خاصّ بها. ومع ذلك فقد حافظتُ إلى حدٍّ ما على الكلاسيكيّة في كتابتي؛ فلم أكسّر اللغةَ، ولم أحطّم الأسلوب. وإنّني لأتساءل: نحن شعبٌ ما تزال نسبةُ الأمّيّة فيه عالية، وهو يكاد لا يقرأ باللغة المفهومة والواضحة، فلمن تُكتب هذه الرواياتُ والقصص؟ أنا أقف هنا موقفَ شكٍّ وتساؤلٍ وقليلٍ من الانتقاد، لأنّني أؤمن أننا لسنا من الشعوب المترفة فكريًّا، بل لم نصل بعدُ إلى محو الأميّة وإلى تعويد الناس على القراءة.

* إذا توافقنا أنّ التجربة الغربيّة الإبداعيّة ترتبط بحركةٍ أكبر منها، هي حركةُ تطوّرٍ اجتماعيّ كامل، وأنّنا نأخذ من تجارب الغرب هذه ونحاول أن نطبّقَها عندنا ونسمّيَها "تجريبًا،" فإنّ حداثتنا انحصرتْ بالوجه الفكريّ الأدبيّ من دون الخوض في التحديث الاجتماعيّ.

ـــ حداثتنا كانت مستوردة، ولم تكن ثمرةً لتجربتنا الإنسانيّة والاجتماعيّة. أنا أنظر إلى هذه الحداثة وأحترمها، لكنّني أرى فراغًا اليوم بين ما يُكتب وبين مفهوم الناس لما يُكتب: فقد كان الناس يحبّون القصيدةَ المنبريّة والغنائيّة، فاكتشفوا قصائدَ جديدةً لا تعنيهم في شيء ولا تعطيهم ردّةَ الفعل التي يولِّدها في النفوس الشاعرُ الذي ألِفوه. هذا عند الجيل الأكبر.

أمّا جيلنا فقد قبِل الحداثة، وأنا شخصيًّا أرى الشعرَ الحديث أقربَ إلى الطبيعة من الصنعة الموجودة في شعر القافية اضطرارًا.

* لكنّ التطوير لم يقتصر على التفعيل والقافية، بل وصل إلى تطوير الصورة.

ـــ لا أشكّ في ذلك. لقد حدث انقلابٌ في الشعر، ولكنّه ترافق مع الكثير من التقليد. فلقد فكّر بعضُ شعراء الحداثة العربيّة الجدد أنّ هذا الشاعر أو ذاك مثالٌ، فحاولوا تقليدَه. عدّدْ لي الشعراءَ الذين يبقون فوق الغربال منذ الستينيّات حتى اليوم! ما زال شعراءُ الستينيّات حتى الآن هم الأبرز، وربما من جاء قبلهم أيضًا. وهذا يعني أنّنا ما زلنا ننظر إلى شعراء مثل سعيد عقل ونازك الملائكة والبيّاتي نظرةَ تقدير، ونعتبرهم مبدعين وروّادًا في تجديد الشعر. أمّا من تتلمذ على هذه المدرسة، فلم يكن بالقوة الإبداعيّة ذاتها.

* نحن الآن سنة 1999 في لبنان نتحدّث عن التقليد، وما يناقضه هو الأصالة. فماذا تعني لكِ الأصالة اليوم؟

ـــ كلّ إنسان يحدِّد أصالتَه الشخصيّة، كما يسأل اليوم عن الـ"موضة" فيقال "كل شيء دارج."

اختلطت القيمُ كثيرًا؛ هناك حريّة تعبير، وهناك فوضى تعبير في الوقت ذاته. وهناك غيابٌ "للنقد المضيء" الذي يلازم العملَ الإبداعيّ ويُرشد القرّاء إليه. لا يوجد عندنا نقدٌ اليوم يوازي النتاج الإبداعيّ.

* أوَلا تعتقدين أنّ ذلك عائدٌ إلى كون التقليد في الإبداع أسهلَ من التقليد في النقد؟

ـــ هذا جائز. وأعتقد أيضًا أنّ ما نراه في الصحف اليوم لا يُعتبر نقدًا. أنا أتحدّث عن ذلك النقد الذي يشكّل مقياسًا لقراءتك، ولكتابةِ الكاتب، فيحاوركما معًا؛ وهذا ما نفتقده الآن. وقد يعود ذلك إلى أنّ الأسباب المادّيّة تمنع أن يتفرّغ الإنسانُ للنقد؛ فلا أحد يعيش من النقد. وأنا لا أدين أحدًا هنا، لكنّني أتكلّم عن وقائع.

ـــ ما دمنا نتحدّث عن النقد فإنّي أريد أن أسأل: ما موقفكِ من وجود كتاباتك في أغلب البرامج المدرسيّة، علمًا أنّ النصوص والقصص الموجودة بين أيدي الطلّاب ليست كلّها مخصّصةً للأولاد وللأحداث، بل هي للكبار أيضًا؟

ـــ قبل أن تأتي اليوم حدّثني على الهاتف صوتٌ يرتجف لفتاةٍ صغيرة. سألتُها مَن هي، فقالت لي: "إنّكِ لا تعرفينني، لكنّني واحدة من قارئاتك، ومعجبةٌ بكِ، وحصلتُ على رقم هاتفك من دار النشر." سألتُها إنْ كانت تلميذة، فأجابت بأنّها في الصفّ العاشر، وعدّدتْ لي أسماءَ قصصي التي قرأتْها. قلتُ لها إنّها كما يبدو تحبّ الكتابة، وكان ذلك صحيحًا. فأعطيتُها عنواني وطلبتُ منها أن تزورني لتُقْرئني ما تكتب.

أحبّ التواصل مع الطلّاب كثيرًا؛ فأنا درستُ التربية وعلّمتُ، وهم يذكّرونني ببداياتي وبمن أخذ بيدي. لا أهملهم أبدًا. يأتون أحيانًا مع أمّهاتهم ليطلبوا سيرةَ حياتي من أجل إنجاز فروضهم المدرسيّة. لقد شعرتُ بعد الحرب أنّ التزامي بالتلاميذ واجبٌ وطنيّ.

أمّا بالنسبة إلى سبب اختيار المدارس لقصصي، فمنهم من يقول لي إنّ التلاميذ يحبّون اللغة بعد قراءة قصصي. أيعود ذلك إلى سهولة اللغة؟ أمْ لأنّ القصة تعنيهم وتذكّرهم ببيئتهم؟ هذا ما لا أستطيع أن أحْكم به.

* سؤالي كان عن اختيار نصوص مكتوبة للكبار لكي يقرأها الصغار. أيعود ذلك إلى سهولة اللغـة أو الأسلوب الميسَّر كما أوحيتِ للتوّ، أمْ لأنّ الموضوع قد يكون خاليًا من "الشوائب التربويّة" التي تعتمدها المدارسُ لمنع كتابٍ من مكتبتها ــ ــ إذ لا جنس ولا سياسة في كتبك؟

ـــ أنا لا أعتبر ما قلتَه إطراءً! ففي كتاباتي تمرّدٌ، وهي ليست تلك الكتابة السلسة التي تظنّها! ثمّ ما ضير أن تكون سهلة؟! هل تعرف أنّ جامعةَ القدّيس يوسف، منذ ثلاث سنوات، وَضعتْ كتبي لبرامج الدكتوراه والماجستير؟ لقد كُتبَ عن طيور أيلول وتمرّدِها الكثير. وهذا الكتاب مثلًا تُرجم إلى الألمانيّة وطُبع ثلاث مرات، فما الذي يدفع قارئًا ألمانيًا وسويسريًّا ونمساويًّا إلى أن يقرأ هذا الكتاب؟ أنا سألتُهم عن سبب اختيارهم لكتاب عن قرية تقليديّة، وعن علاقته بالشعوب الناطقة باللغة الألمانيّة، وكانت الإجابة أنّهم أحبّوه. وكما قالت لي دوريس كلاريوس المترجمة: "عندنا ريفٌ هنا أيضًا، ومعاناةُ الناس فيه شبيهةٌ بمعاناة الناس في ريفكم." وهي أتت من برلين أو إحدى القرى، وقالت إنّها أحسّت أنّ تجربة "منى" هي تجربتها بالذات. إنّ ما يعني القرّاءَ هنا وهناك هو: التجربة الإنسانيّة!

أمّا عن المدارس هنا [في لبنان]، فأنا لا سيطرةَ لي على هذا الموضوع. لكنّني أعرف أنّ كتبي تُقرأ في المدارس. حتى إنّ الناشر (مؤسّسة نوفل) ليس قويًّا في نطاق المدارس، وإنّما المدارس هي التي فَرضت انتشارَ كتبي. وعلى العموم يسرّني أن يقرأني الجيلُ الجديد، وآمل أن يستفيد من ذلك.

* تُرجمتْ رواياتُكِ إلى عدّة لغات. ماذا يعني لك ذلك؟

ـــ الترجمة أمرٌ خارج عن إرادتي. أنا لم أسعَ إلى ترجمة أيّ عملٍ من أعمالي، ولم أتّصلْ بأيّ دارٍ للنشر. لقد زارني طالبُ من جامعة إيكس آن بروفانس بعد أن أنهى أطروحتَه، وأخبرني أنّ طيور أيلول قد تُرجمتْ إلى الفرنسيّة ليبني أطروحتَه عليها. وعندما تُرجم الكتابُ ذاتُه إلى الألمانيّة تعرّفتُ إلى صاحب دار النشر في ألمانيا بعد سنة. في كندا تُرجم الإقلاع عكس الزمن قبل طيور أيلول، أيْ سنة 1987؛ وقيل إنّ لذلك علاقةً بمجتمع الاغتراب اللبنانيّ هناك. والأمر ذاتُه حين تُرجم ذلك الكتابُ إلى الدنماركيّة؛ فقد أُخبرتُ أنّ في الدنمارك اغترابًا عربيًّا كبيرًا. وكتب أحدُ النقّاد يقول إنّكَ إذا قرأتَ الكتابَ فذلك سيساعدك في فهم الآخر الغريب الذي يسكن إلى جوارك.

هناك عدّة أسباب للترجمة، إذن. الإقلاع عكس الزمن كان معبِّرًا عن حالة حاضرة غير قديمة، هي الحرب في لبنان والمغتربون في كندا، وقد صدر العامَ الماضي عن جامعة تكساس. لكنّ الألمان هم الظاهرة الغريبة: فبعد طيور أيلول طلبوا حقوقَ ترجمة الإقلاع عكس الزمن ثمّ الرهينة، فيما طَلبتْ دارُ نشر أخرى حقوقَ ترجمة يوميّات هرّ ــــ وهو كتاب للأولاد. وعلى الرغم من أنّ هذه الترجمات حدثتْ من دون سعيٍ منّي، فإنّ ذلك يفرحني: فنحن جيلٌ تربّينا على الترجمة، وأغلبُ قراءاتنا كانت موادَّ مترجَمة، وقد نشأت لغةٌ عند بعض الكتّاب تُعرف باسم لغة الترجمة. والأمر لا يقتصر عليّ، بل ثمّة ترجماتٌ من كلّ البلدان العربيّة إلى اللغات الأوروبيّة، وبخاصّةٍ الألمانيّة. دار النشر لينوسْ ترجمتْ وحدها أربعًا وعشرين روايةً من أدبنا العربيّ الحديث إلى الألمانيّة، وذلك عن طريق مترجِمٍ واحد. أمّا المجموع العامّ فهو أكثر من ثلاثين روايةً مترجمة. وأعتقد أنّ لأوضاعنا السياسيّة المضطربة والتواصل الإعلاميّ تأثيرًا في خلق الاهتمام بأدبنا.

* ما دمنا نتحدّث عن وسائل الإعلام، فقد اعتدنا أن نحمّلها مسؤوليّةَ ابتعادنا عن القراءة. إلّا أنّني اطّلعتُ على ندوتيْن شاركتِ فيهما، الأولى سنة 1972 والثانية سنة 1983، والندوتان كانتا حول موضوع واحد هو: "لماذا لا نقرأ؟" وقد شكّل هذا صدمةً لي، لأنّ جيل الستينيّات في ذهني كان غذاؤه القراءة.

ـــ كان أكثرُ الكتب مبيعًا في تلك الفترة تُطبع منه ثلاثة آلاف نسخة، تبقى أكثرَ من أربع سنوات قبل أن تباع في كلّ العالم العربيّ.

* ذهنيًّا تلك كانت "المرحلة الذهبيّة." وبالنظر إلى حالنا اليوم أسأل: من أين يأتي الطموحُ إلى الكتابة في ظلّ ظروفٍ كهذه؟

ـــ أعتقد أنّ الكتابة مرضٌ فينا، حمّى لا علاقة لها بكون الناس يقرأوننا أم لا، وإلّا لما كَتب أحد. إذا أجريتَ إحصاءً لتعرف كم يبيع أيُّ كاتب معروف، فإذّاك ستتحدّث عن الصدمة، وستسأل: أوَليس غريبًا أنّ الكتّاب العرب ما زالوا يكتبون؟! وكم هي نسبةُ دخْل الكتّاب من المبيع مقابلَ الجهد في تأليفه؟

نحن لسنا كالأميركيّين: فلا دارَ نشر تأتيكَ وتفتح لك اعتمادًا في المصرف لتتفرّغ للكتابة. نحن لا نملك هذا الترف، بل نتعب لنكتب، وفي النهاية لا نَعرف إنْ كان الناشر سيطبع ما كتبناه أمْ سيضعه على الرفّ!

أعتقد أنّ الكتابة صارت هاجسًا فرديًّا وحاجةً للتعبير. وأنا لا أجيد شيئًا آخر. وسيبقى الكتابُ رغم وجود الإنترنت والتكنولوجيا العصريّة؛ فالكتاب لا يُستغنى عنه. إنّه القاعدة لكلّ الثمار التي تُنتج: من الأفلام إلى التلفزيون.

* لكنّ سيناريو الفيلم لم يعد كتابًا بمفهومه القديم.

ـــ منذ عامين كنتُ في معرض فرانكفورت للكتاب. من يرَ حجمَ المعرض لا يصدّقْ أنّ الكتاب سينهار.

* إذًا أنتِ متفائلة.

ـــ أنا متفائلة، لأنّ الكتاب لا يبدَّل بأيّ شيء آخر.

* أحبّ تفاؤلكِ على صعيد الكتابة والإبداع. ولكنّنا في لبنان، وقد خرج لتوّه من حربٍ، فهل ما تزالين متفائلة؟

ـــ إنّني مجبرة أن أبقى متفائلة. فأنا أمّ، وعندي أحفادٌ هم امتدادي إلى المستقبل.

بيروت

اميلي نصرالله

أديبة لبنانيّة كبيرة. نشرتْ عددًا من الروايات والمجموعات القصصيّة، فضلًا عن كتابات للناشئة. نشرتْ أوّل رواية لها عام 1962 بعنوان طيور أيلول .حازت جوائزَ أدبيّة كثيرة، وتُرجمتْ أعمالُها إلى لغات عديدة. رحلتْ في آذار/مارس 2018.

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.