بئر ناديا
24-12-2015

 

تشاجرتْ ناديا مع خطيبها حول أمور متعدّدة، أهمُّها غيابُه المستمرّ عنها للعمل في المدينة، ورمت محبسَ خطوبتها في بئر دارهم!

 

جاءت ناديا إليّ، بعد أن أوشكا على التصالح ، تطلب إليّ أن أُخرج الخاتمَ من البئر. قلت لها: "كيف أبحث عنه في ظلمة البئر؟" قالت: "لقد اعتدتَ النزول فيها مذ كنتَ صغيرًا، وتعلّمتَ فيها الغطسَ وحبسَ الأنفاس. ألا تذْكر عندما تحدّيتَ خطيبي، حين كنتَ تحبّني، ونزلتَ فيها، ولم يستطع أن يفعل ذلك؟ على أيّة حال ، الماء ليس عميقًا هذا العام!"

حشرتني ناديا، ابنةُ عمي، في الزاوية. أحبّها، ولا أريد أن تتخّرب خطوبتُها، على الرغم من رفضها حبَّنا في مراهقتنا، وخطبتْ شابًّا من عائلةٍ أخرى بحجّة عدم الزواج من الأقارب. قلتُ لها: "سأشتري لك محبسًا جديدًا مطابقًا للذي في بنصر خطيبك، منقوشًا عليه حرفا اسميْكما الأوّلان، واعفيني من النزول في البئر."

لم تقبلْ ناديا عرضي. أوردتْ حججًا مختلفة محورُها ضرورةُ تجنّب التبذير.

قلتُ لها: "نريد ضوءًا لا يتأثّر بالماء، وهو أغلى من ثمن الخاتم." قالت: "أشتريه من نقودي؛ فالغلطة غلطتي!" قلت لها: "وكيف سأبرّر لعمي نزولي في بئركم؟" ردّت: "سأرتّب الموضوع؛ فوالدي طلب من أخويّ أن يعزلا البئر ، ولم يرضيا النزول فيها."

اشترت ناديا ضوءًا يغطس في الماء، وكابلًا طويلًا، وحبلاً. أخذتْ ثمنَها من عمي، ولم تدفع من نقودها شيئًا!

وضعتُ نظّارةً خاصّةً للسباحة في جيب سروالي، وهبطتُ في البئر.

الماء بعمق متريْن تقريبًا، يزيد عن طول قامتي بعشرين سنتيمترًا، وثلاثين عن طول ناديا. ناديا طويلة وجميلة، جسدُها مشدود، وشعرُها أشقرُ سابل.

صرتُ أغطس جاثيًا، إذ لا أستطيع الانبطاح. وبدأت الضفادعُ تتقافز من حولي إلى جدار البئر.

"تعبتُ ولم أجد شيئًا": هكذا كنتُ أردّ على ناديا بعد كلّ غطسة. حين تناديني من فوق كنتُ أرى خيالًا يتدلّى منها في فوهة البئر. كانت أشبهَ بشبحٍ جميلٍ يتكلّم.

أصرّتْ على أن أكرّر المحاولة. قلتُ: "سأفعل لآخر مرة، وليس ذنبي أن أتحمّل تصرّفاتك الطائشة." وغطستُ.

    تحت الماء البارد، لُمْتُ نفسي لأنّني شتمتُها، وفكّرتُ في علاقتي الدافئة معها، واختلاءاتي بها عندما كنّا نلعب الاستخباية، والتصاقي بجسدها بحجّة ضيق الأمكنة. استرجعتُ، على إيقاع لهاثي، لهاثَنا المحرَّمَ في غرفة التنّور، حيث أرغمتُها على الاختباء، وجمعتُ براحتيَّ نهديْها الصامتين!

تذكّرتُ كيف فاتحتْني بأنّها ستخطب، وبأنّها لن تلعب معي بعد الآن. وتذكّرتُ زعلي منها.

حرّكتُ الضوء، فعثرتُ على الخاتم بين طحالب الماء.

وضعتُه في خنصري. خنصري بقياس بنصرها.

فكّرتُ في أن أنكر عثوري على المحبس. لكنّني لُمْتُ نفسي ، وأنّبني ضميري؛ فأنا أحبّ ناديا، ولا يمكن أن أقف حجر عثرةٍ في طريق سعادتها. وهي، في النهاية، حرّة في اختيارها.

لاحظتُ أنّ ناديا غادرتْ فوهة البئر، وسمعتُ صدى زعيق. بدأتْ وجوهٌ تتناوب النظرَ من فوهة البئر، وبدأ أحدُهم بشدّ الحبل الذي يربط الضوء.

صعدتُ واضعًا المحبس في جيب سروالي، فيما الضجّةُ عند فوهة البئر تزداد كلّما اقتربتُ. لا بدّ من أنّ أولاد عمي يتجمّعون حول عمّي، وهو يوبّخهم على جبنهم، ويثني على شجاعتي في تنظيف البئر!

وصلتُ. الدم ينزف من بعض الجروح السطحيّة في قدميّ وظهري. لقد صعدتُ في الظلمة، والضوءُ لا يزال ملقًى في البئر، لم يسحبه أحد.

أوّلُ وجهٍ شاهدتُه هو وجه خطيب ناديا. ثم رأيتُ إخوتها وعمّي، جميعهم يحيطون بالخطيبيْن، وناديا تبكي! رأت ناديا جروحي، فأسرعتْ إلى غرفتها بالدار، وجلبتْ قنّينة عطرٍ أهداها إيّاها خطيبُها، ومحرمةً ورقيّة، ولم تسألني عن الخاتم!

راحت تداوي جروحي، وأنا أغمض عينيّ من تأثير الكحول في دمي. وظلّت تبكي، وكلُّ مَن حولنا واجم، ودمعةٌ خجولةٌ في عينيْ عمّي.

انتهت ناديا من عملها، وأنا واقف لا أدري ما أقول. قالت: "أخرجْه، فلقد عرفوا كلّ شيء!"

أخرجتُ الخاتم من جيب سروالي، وناولتُها إيّاه. وبدلًا من أن تمدّ يدَها وتأخذه، هجمتْ عليّ بذراعيْها، وطوّقتني، وأجهشتْ بالبكاء.

اختلستُ النظر إلى خطيبها من وراء كتفيْها. كان متجهّمًا يلتفت إلى الجميع، ثم يطرق إلى الأرض مقطّبَ الملامح.

ما يزال محبسُ ناديا في راحة يدي الملتفّة حول ظهرها، وناديا لا تنتهي من حفلة بكائها على كتفي، إلى أن خلع خطيبُها خاتمَ خطوبته ورماه في البئر!

 سوريا

 

 

بشّار البطرس

 قاصّ وسيناريست من سوريا