ذاكرة "الاشتباك": عن الذاكرة الجماعيّة والحالة الثوريّة وأشياءَ أخرى
17-09-2016

 

الفيلم نافورةٌ مُتحجّرةٌ من الأفكار" (جان كوكتو)"
 

تفسيراتٌ كثيرةٌ قُدّمتْ لعبارة المخرج والشاعر الفرنسيّ جون كوكتو أعلاه، وهي عبارةٌ تُسلِّطُ الضوءَ على الجوانب السلبيّة والإيجابيّة في صناعة الأفلام. فعلى الرغم من أنّ الأفلام تَدفع بالمُشاهد إلى طرح التساؤلات نتيجةً للإشارات والرموز المختلفة التي تقوم بإرسالها، فإنّها ــــ في الوقت نفسه ــــ تقوم بتأطير ذهن المشاهد من أجل دفعه إلى تبنّي صورٍ نمطيّةٍ محدّدة، أو إلى التركيز على أحداثٍ سياسيّةٍ وتاريخيّةٍ معيّنة.

وواقعُ الأمر أنّ مقولة كوكتو لا تنفكّ تبرز أمامنا كلّما شاهدنا الأفلامَ، وبخاصّةٍ تلك التي تتناول حدثًا تاريخيًّا، فنُضطرُّ لاإراديًّا إلى طرح التساؤلات النقديّة عن محتواها التاريخيّ، فضلًا عن سيرة صانعها. ويقلُّ عُمقُ هذه التساؤلات ودرجةُ نقديّتها كلّما تباعدت المسافةُ بين المُشاهِدِ والحدث: فمشاهدةُ فيلمٍ عن حرب سراييفو، مثلًا، تجعل منّا مُتلقّين للمعلومة أكثرَ من كوننا ناقدين لها؛ أمّا مشاهدةُ فيلمٍ عن حدثٍ عايشناه في مصر، فتعمِّقُ نظرتَنا النقديّةَ إلى الفيلم لكونه يتحدّث عن ذواتنا المعاصرة، ولكونه يتحمّل مسؤوليّةً تاريخيّةً أيضًا، هي نقلُ هذه الحالة أو الموقف إلى الأجيال القادمة، ولذلك تزداد مسؤوليّةُ صنّاع الأفلام، خصوصًا إذا رَسموا صورةً عن أنفسهم في وصفهم ممثّلين "للتيّار الثوريّ السينماتوغرافيّ."

هذا بالتحديد ما أثاره فيلمُ محمد دياب الأخير، اشتباك، الذي يتناول وقائعَ اشتباكٍ داخل سيّارة لترحيل المساجين عقب أحداث 30 يونيو في القاهرة.

 

السينما ناقلًا لأحداث الثورة وذاكرتها

يتعدّى دَورُ السينما التسليةَ في كثيرٍ من الأحيان، خصوصًا إذا هدفتْ إلى بناء مجالٍ لتوثيق الأحداث التاريخيّة والسياسيّة. ولا شكّ في أنّ هذه الأحداث لا تُنقل بموضوعيّةٍ خالصة؛ ذلك لأنّ صانعي الأفلام ليسوا سوى فنّانين يضعون في أفلامهم ــــ إراديًّا أو لاإراديًّا ــــ جزءًا من توجُّهاتهم السياسيّة، ومن وجهةِ نظرهم إلى الأشياء عامّةً. ومن مزايا السينما أنّها قد تُسلّط الضوءَ على حدثٍ سياسيٍّ أو تاريخيٍّ أهملتْه السرديّةُ الرسميّةُ للدولة، الأمرُ الذي يساعد على بناء ذاكرةٍ جماعيّةٍ موازيةٍ أو مناقضةٍ لسرديّة الدولة، فضلًا عن نقل هذه الذاكرة عبر الأجيال. وقد نجح فيلم اشتباك في هذا، سواءٌ اتّفقنا أو اختلفنا على ثوريّة محتواه؛ فقد ساهم في تأريخ حدثٍ سياسيٍّ عمدت الدولةُ إلى تهميشه، بل إلى محوه من السرديّة الرسميّة لتاريخها: ونعني الانتهاكاتِ التي وقعتْ تجاه المحتجَزين في سيّارات الترحيلات. وعلى الرغم من أنّ الفيلم لم يتناول الواقعةَ بالتفصيل ــــ وهي مقتلُ 37 شخصًا على إثر اختناقهم بالغاز، بعد احتجازهم في سيّارة الترحيلات من قسم مصر الجديدة إلى سجن أبو زعبل ــــ فإنّ تناولَ هذا الحدث، ولو سريعًا على لسان أحد أبطال الفيلم، يُعتبر، في حدِّ ذاته، محاولةً للحفاظ على تفاصيل ذاكرتنا الثوريّة.

الجدير ذكرُه أنّ صانعي الفيلم عرّفوا أنفسَهم ممثّلين للحالة الثوريّة، وذلك من خلال الدعاية التي قام بها دياب نفسُه على صفحته الشخصيّة في مواقع التواصل الاجتماعيّ، بل دعا الجمهورَ إلى المطالبة بحقّه في مشاهدة الفيلم في حال قيام الدولة بوقفِ عرضه. إلّا أنّ صنّاعَ الفيلم خذلوا توقّعاتِ بعض المشاهدين، ولا سيّما بعد الدعاية التسويقيّة التي حَوّلتْ سيّارةَ الترحيلات والمحتجَزين فيها إلى أداةٍ تسويقيّةٍ تتاجر بآلامِ مَن تعرّضوا لهذه التجربة. فقد نَشرت الصفحةُ الرسميّة للفيلم، على شبكات التواصل الاجتماعيّ، الدعايةَ الآتية:

 "هنعيش تجربة عربيّة الترحيلات جوّه الفيلم وبرّه، وهنكون موجودين ونصوّركوا وراء شبّاك العربيات، وهتلاقوا الاستاند في سينمات..."

وأُرفقَ النصُّ بصورة محمد دياب مُبتسمًا خلف شبّاك إحدى سيّارات الترحيلات، ما أثار سخطَ كثيرين لما تحمله الدعاية من متاجرة بقضيّة محفورة في الوجدان المصريّ الحديث، وتسليع صريح لضحايا سيّارة الترحيلات. وظلّت هذه الدعايةُ وصمةَ عارٍ في حقّ الفيلم حتّى بعد قيام صانعيه بالاعتذار عن الدعاية وإزالتِها عن صفحة الفيلم الرسميّة.

على صعيدٍ آخر، أخفق الفيلمُ في تلبية توقّعات المشاهدين. فقد تحدّث صانعوه تكرارًا عمّا يتعرّضون له من حملاتٍ رقابيّةٍ لتشويهه، وعن انسحاب مُوزِّعِه قبل عرضِه بأيّام، ما رفع سقفَ توقّعاتِ المشاهدين في أنّهم قد يشْهدون حلبةَ صراعٍ ثوريّةً، أو أنّهم سيشاهدون على الأقلّ فيلمًا يتناول واقعةَ مقتل 37 فردًا اختناقًا في سيّارة الترحيّلات.* بيْد أنّ ذلك لم يحدث. ربّما أمل الكثيرون في أن يروا فيلمًا يرسم السياق العامّ بطريقة أدقّ، وأن يبقى لهم المجال لقراءته نقديًّا من موقعهم كمشاهدين وفاعلين، وأبطالٍ لأحداث مثل هذا الفيلم في الحياة الواقعيّة.

 

الاشتباك الذي خلقه الفيلم

حاول صُنّاعُ فيلم اشتباك إعادة إنتاج حالة الهيستريا التي يَخضع لها أفرادٌ ينتمون إلى طبقاتٍ اجتماعيّةٍ وتيّاراتٍ سياسيّةٍ مُختلفة، وكلُّ ما يجمعُهم هو احتجازُهم في سيّارة ترحيلاتٍ عدّةَ ساعات. ففي إطار هذا القيْد المكانيّ والمناخيّ والنفسيّ، كان لا بدّ من حدوث اشتباك في ما بينهم، فضلًا عن اشتباكهم مع العالم خارج سيّارة الترحيلات (شرطةً ومتظاهرين). لكنْ يبدو أنّ الاشتباكَ الوحيدَ الذي نجح فيه الفيلم هو الاشتباكُ في الفضاء العامّ؛ فقد احتلّ حلقاتِ النقاش، ولا سيّما على مواقع شبكات التواصل الاجتماعيّ، فورَ الإعلان عن ترشيحه لمهرجان كانْ وخروجِه إلى دُور العرض. فمن جهة، نشأ اشتباكٌ فكريٌّ بين المثقّفين وبعضِ المنتمين إلى التيّار "الثوريّ،" حول صحّة اعتبار الفيلم ناطقًا باسم الثورة؛ وهنا ظهر العديدُ من التعليقات على ما كان ينبغي على صُناع الفيلم إظهارُه (خصوصًا في ما يتعلّق بصورة رجال المنظومة الأمنيّة) لكي ينال "شرفَ التعبير" عن بعض تفاصيل الحالة السياسيّة في مصر. وعلى الرغم من تأكيد صُنّاع الفيلم أنّه يتناول، في الأساس، الجانبَ الإنسانيَّ من لحظات الهستيريا البشريّة، فقد أظهر نفسَه في نهاية المطاف في مظهر المُقاوِم لأجهزة الدولة؛ وإلّا لِمَ لمْ يختاروا سياقًا آخرَ لحشد الناس وتناقضاتِهم غيرَ سيّارة ترحيلاتٍ، وهي سيّارةٌ ترسّختْ في الذاكرة الواقعيّة مسرحًا لجريمةٍ كبرى طاولتْ معتقلين عُزّلًا؟!

ومن جهةٍ أخرى، فعلى الرغم من أنّ الفيلم حصل على دعايةٍ إلكترونيّةٍ ساهمتْ في تضخيم الهالة حوله، وحمّلتْه رسائلَ سياسيّةً لم يكن يريدُ الخوضَ فيها (كما ورد على لسان صانعيه)، فإنّه جعلنا نشتبكُ مع أنفسنا ومع ذاكرتنا، وفتح بابَ النقاش حول أسئلةٍ من قبيل: مَن يحقّ له أن يؤرّخَ ذاكرتنا وينقلَها إلى الأجيال القادمة؟ ومَن هو المسؤولُ عن تشكيل وعينا الجمعيّ بالأحداث السياسيّة؟ وإلى أيّ مدًى سنظلّ هائمين في حلقة "لا شيء يعجبني" قبل البدء بصنع منتجاتٍ فنّيّةٍ جديدةٍ تسعى إلى فرض مزيدٍ من السرديّات من أجل تأريخ تفاصيل ذاكرتنا وتوثيقها؟

قد تبدو هذه الأسئلة بديهيّة، إلّا أنّها تذوب في النقاش العامّ في مصر الآن، وذلك لأسبابٍ عديدةٍ، أهمُّها انهماكُ كثيرٍ من الناس في تأمين قُوت يومهم. لكنّ إعادة طرح قضية "تأريخ الثورة" فائدةٌ مجّانيّةٌ طرحها الفيلمُ من غير أن يقصد على الأرجح.

وربّما كان احتفاءُ بعض صانعي الأفلام العالميين بالفيلم ــــ بعد عرضه في افتتاح مهرجان كان بدورته الـ69 ــــ منطلِقًا من تقديمه لرؤيتِه غيرِ النمطيّة إلى الواقع المصريّ. هكذا نقرأ، مثلًا، الرسالةَ التي نشرها الممثّلُ الأميركيُّ توم هانكس على صفحته في الفيسبوك، حيث أكّد أنّ هذا الفيلم قدّم طرحًا آخرَ عن مصر والمصريين، يختلف عن الصورة النمطيّة التي تقتصر على الجانب السياحيّ ــــ المُتجسّدِ في الأهرامات ــــ والإرهاب.

ختامًا، فإنّ هذا الفيلم يدفعنا إلى بذل مجهودٍ أكبر للتمسّك بتفاصيل الواقع السياسيّ التي قد تهوي إلى لجّة النسيان إنْ لم نحافظْ عليها. وعليه، فإنّنا نحتاج في هذه المرحلة إلى التخفيف من اتّجاهاتنا التشاؤميّة، لا لإعادة إنتاج خطاب "معًا من أجل إصلاح المجتمع،" وإنّما، على الأقلّ، من أجل الإسهام في خلق فضاءاتٍ نتمكّن من خلالها من مواجهة السرديّات الرسميّة للدولة.

باريس

* لتفاصيل الفيلم وطاقم العمل: http://www.elcinema.com/work/2040620

** لتفاصيل ما جرى في سيارة الترحيلات:

https://www.theguardian.com/world/2014/feb/22/cairo-prison-abu-zabaal-deaths-37-prisoners

التقرير مترجمًا: http://zahma.cairolive.com/?p=5346

 

ميّادة مدبولي

من مصر. طالبة دكتوراه وباحثة في العلوم الاجتماعيّة.