صرخة أطفال لبنان الحقيقيّة: "حِلّوا عنا!"
21-11-2019

 

منذ بداية الحرب اللبنانيّة راجت عبارةُ "جيل الحرب" لتفسير دور الحرب في تخريب الصحّة النفسيّة لكلّ مَن عايشها طفلًا. ولكنْ، في زمن "السِّلْم" الأهليّ المزعوم، هل نتعامل مع أطفالنا بصورةٍ سليمة؟

للطفل الحقُّ في أن نحترمَ خصوصيّتَه، وأن يمارسَ الأنشطة التي تتناسب مع سنّه ومستوى نضوجِه العقليّ والفكريّ. ومن شأن إهمال هذه الحقوق أنْ يعرِّضَ أمانَه النفسيَّ للاهتزاز. ولكنّ نداءاتِ الاختصاصيين في هذا المجال لم تفلحْ في جعل هذه الحقوق "شعبيّةً" وجاذبةً على غرار حقوقٍ أخرى، كالحقّ في الحياة والتعلّم وتلقّي العناية الصحّيّة. ذلك لأنّ ثمّة قصورًا في إدراك مدى خطورة الأمر وأهميّتِه أحيانًا، وأنانيّةً وانتهازيّةً من مستفيدين كثر أحيانًا أخرى - - وفي طليعة هؤلاء المستفيدين، يقف المعنيّون الأوائل بتوفير مظلّة الحماية للطفل: الأهل!                                                                            

من الظواهر التي كرَّستها الانتفاضةُ الشعبيّةُ اللبنانيّةُ الأخيرة استخدامُ الأطفال "صندوقَ بريدٍ" لإيصال رسائلَ سياسيّةٍ ينوء الأطفالُ تحت ثقلها. هكذا، أصبح مألوفًا في الساحات مشهدُ طفلةٍ تعتلي كتفيْ والدها لتردِّدَ كلامًا حفظتْه بصعوبةٍ عن "الدولة الشرشوحة،" وعن السياسيين "اللي أوسخ منهم ما بيصير." فيعيد المتظاهرون كلماتِها بحماس، قبل أنْ يصفّقوا لها احتفاءً.                                                        

الظاهرة ليست وليدةَ اليوم، وإنْ كانت - كأيّ ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ أخرى - تبلغ حدودَها القصوى في أزمنة الأزمات. فهنا، يُستَغلُّ الظرفُ من أجل تكريسها فعلًا "ثوريًّا" قد يعرِّضُ مَن ينتقدُه لتهمة السقوط الأخلاقيّ، في ظلّ جوٍّ عامٍّ يرفض المساءلةَ وينحو إلى "تقديس قمامة الساحات،" وفقًا لتعبير مثقّفٍ عراقيّ.

الحكاية قديمة، وتعود في الأصل إلى رغبة الناس في مطاردة أحلامهم حتّى النفَس الأخير، وصولًا إلى استخدام أبنائهم لتحقيقِ ما عجزوا هم عن تحقيقه من ارتقاءٍ اجتماعيّ أو مكاسبَ مادّيّةٍ أو خلاف ذلك. كان على ذوي "الطفل المعجزة" في التسعينيّات أنْ ينتظروا أحدَ برامج اكتشاف المواهب التي تجود بها المحطّاتُ التلفزيونيّةُ مرّةً كلَّ عدّةِ سنوات، في حين لا يحتاج الطفلُ المعجزةُ اليوم إلى أكثر من هاتفٍ ذكيّ وحسابٍ على أحدِ مواقع التواصل الاجتماعيّ. والسؤال عن علاقة تلقين الطفل كلامًا يردِّدُه - ولا يفهمُه غالبًا - بـ"الإعجاز" و"النبوغ،" يجد جوابَه في انكباب كثير من اللبنانيين اليوم على تعليم أولادهم (الذين قد تتكفّل بتربيتهم عاملةٌ آسيويّةٌ) مهاراتِ الحساب الذهنيّ (قديمًا كانوا يعلّمونهم حفظَ أسماء الدول والعواصم). إنّه منطقُ "الوجبات السريعة،" في العلم والثقافة والتربية، كما في كلّ شيءٍ آخر. وفي هذا حديثٌ يطول.

  

"أميرة الثورة"

إبنةُ باب التبّانة، رودين رشيد (6 سنوات)، التي اعتلتْ منصّةَ ساحة النور في "عروس الثورة" طرابلس، وهتفتْ بآلافِ المحتشدين الهتافَ الشهيرَ "كلّن يعني كلّن،" آمرةً إيّاهم بعدم فتح الطرق أو إخلاءِ الساحات؛ رودين هذه تَصْلح نموذجًا مناسبًا للحديث عن هذه الظاهرة.[1] 

 

رودين رشيد التي هتفتْ بآلافِ المحتشدين "كلّن يعني كلّن"

                                                 

رودين التي تملك "صفحةً رسميّةً" على الفايسبوك، تنشر من خلالها مقتطفاتٍ من إطلالاتها التلفزيونيّة الكثيرة، عَرفت الشهرةَ قبل أشهر، إثر ظهورها على محطّة MTV، يحملها والدُها لتُدلي بمداخلةٍ (أعدَّتها لها أمُّها - كما صرَّحتْ لاحقًا - فحفظتْها عن ظهر قلب)[2] عن البلد الذي تَحْكمه "قرطة ولاد وقرطة حراميّة وقرطة كذّابين (...) إذا اتَّفقوا بيسرقونا، وإذا اختلفوا بيقتلونا." وتخْلص في النهاية إلى أنّه "صار لازم نفلّ من لبنان."[3]                                                                                      

الفيديو الذي حمل عنوان "صرخة طفلة لبنانيّة" حصَدَ نِسبَ مشاهدةٍ عالية، وأعيدَ نشرُه مرارًا على وسائل التواصل الاجتماعيّ، مع إشادةٍ بالوعي السياسيّ لدى الطفلة التي "اختصرتْ وجعَ لبنان بكلماتٍ صادقة." فات هؤلاء أنّ كلامَ رودين حقيقيّ (أيْ ينطبق فعلًا على الطبقة السياسيّة الحاكمة) لأنّ مَن أعدَّه هو والدةُ الطفلة التي تدركُ - كراشدةٍ - ما يدركُه كلُّ مواطنٍ لبنانيّ، لكنّ تلقينَه لطفلةٍ (تردِّدُه "بَصْمًا") لا يضفي عليه المزيدَ من الصدقيّة. بل الحقّ أنّ هذا التلقين يستوجبُ مساءلةَ أهل رودين، ومساءلةَ المراسِلة التي استصرحتْها، ومساءلةَ كلِّ مَن تناقل الفيديو - - هذا الفيديو الذي قاد الطفلةَ إلى استديوهات برنامج "بدّا ثورة" على محطّة MTV، حيث طلبتْ منها مقدِّمتُه (غادة عيد) الردَّ على مَن ينتقد إقحامَ طفلةٍ مثلها في السياسة، لتجيبَ والدتُها أنّ رودين قالت ما عجز عن قوله الكبارُ وإنّ الدولة "مش فارق معها كبير ولا زغير."[4]

انتهاكُ طفولة رودين لم يقف عند هذا الحدّ. فبعد أنْ أقحمها والداها، عبر فيديوهات على صفحتها الفايسبوكيّة، في ملفّاتٍ سياسيّةٍ إشكاليّة، ليس آخرَها الدفاعُ عن الخلافة العثمانيّة التي يحاول "العهدُ" [حكمُ الرئيس ميشال عون] تشويهَها لأنّه لا يستطيع أن يكون على صورتها،[5] عادت إلى الشاشات مجدَّدًا مع اندلاع الانتفاضة الشعبيّة، لتحلَّ ضيفةً على محطّة LBC، في حلقةٍ خاصَّةٍ قدَّمتها ديما صادق من طرابلس. وفي هذه الحلقة (التي فَتحت الهواءَ لطفلٍ آخر، هو أحمد المصري)، دعتْ رودين الشعبَ اللبنانيّ إلى الاستيقاظ والتوقّف عن التصفيق "للخطابات العونيّة والقوّات اللبنانيّة والخرزة الزرقا الوطنيّة وحزب الله اللي بالقوانين مش معنيّة،" وبالتحرّر من الشعارات الحزبيّة، ورفض كلّ أشكال التبعيّة![6]

ليس معلومًا إلى أين يمكن أنْ يصل استثمارُ رودين وأمثالِها في ظلّ ظروفٍ سياسيّةٍ تتبدّل كلَّ يوم وتزداد تعقيدًا. الأكيد أنّ الطفلة، التي سُرقَتْ طفولتُها، ستَدفع ثمنَ ذلك من صحّتها النفسيّة مستقبلًا.                  

 

"يا قائد الله معك"

استغلالُ الأطفال لم يكن حكرًا على المشاركين في الانتفاضة والإعلام الداعم لها؛ فأحزابُ السُّلطة لها حصّتُها من الانتهاكات أيضًا. موقعُ مرجعيون الإلكترونيّ، الدائرُ في فلك "حركة أمل،" احتفى مؤخّرًا بمقطع فيديو يُظْهر تلاميذَ في الروضة يحملون أعلامَ الحركة وصورَ الرئيس نبيه برّي، ويردِّدون مع معلِّمتهم أغنيتَه الشهيرة "يا قائد الله معك،" مرفَقًا بتعليقٍ عن "أوّل درسٍ بعد العطلة" (في إشارة إلى العطلة القسريّة التي فرضتْها الانتفاضة).[7]

لا يمكن فصلُ سلوك المعلّمة هنا عن التهديدات التي يتناقلها بعضُ أعضاء حركة أمل، في السرّ والعلن، عن لوائحَ اسميّةٍ جرى تحضيرُها، وتضمُّ كلَّ مَن قامت "أمل" بتوظيفه في مؤسّساتها (أو في مؤسّسات الدولة) ولم يقم بـ"واجبه" في الدفاع عن رئيسها في مواجهة "الحملة" التي تعرَّض لها؛ كما تضمّ كلَّ مَن انتقد حادثةَ الاعتداء على المتظاهرين والظهور المسلّح في مدينة صور في الأيّام الأولى، تمهيدًا لمعاقبة كلّ هؤلاء عبر حرمانهم من وظائفهم، ما إنْ تهدأ الأمور. ومهما كان من أمر، فإنّ الفيديو كان صادمًا، ودفع بالعديد من المتابعين إلى إبداء أسفِهم على الوضع الذي آلت إليه التربيةُ في بلادنا.                              

ولعلّ صرخة أطفال لبنان الحقيقيّة، لو أُتيح لهم التعبيرُ بحريّة، بعيدًا عن التلقين، ستكون "حلّوا عنّا!" وهي عبارةٌ وَرَدَتْ على ألسنتهم مرارًا في خطابٍ موجَّهٍ إلى السُّلطة العاجزة، ولكنها هنا ستكون موجّهةً إلى "أمّ الصبيّ" (وأبيه) قبل غيرهم!

بيروت

كريم حرب

كاتب لبنانيّ