طبيعة المظاهرات الجماعية ـــ جون برجر
05-12-2019

 

 

نُشِر هذه المقال (The Nature of Mass Demonstrations) بدايةً في نيو سوسايتي (المجتمع الجديد) في 23/5/1968، وأعيد نشرُه في مجلة إنترناشونال سوشالزم (الاشتراكيّة الأمميّة)، العدد 34، خريف 1968. وقد اعتمدتْ هذه الترجمةُ على النسخة الإلكترونيّة المنشورة هنا. وجون برجر (1926 – 2017) ناقد فنّيّ، وروائيّ، وشاعر، ورسّام إنكليزيّ. نالت روايتُه جائزةَ بُوكر سنة 1972. اشتُهر، على وجه الخصوص، بمقالةٍ (نُشرتْ على شكل كتاب) بعنوان "طُرُق الرؤية" (Ways of Seeing). عاش في فرنسا أكثر من خمسين عامًا.[1]

***

في السادس من أيّار 1898، قام عُمّالٌ وعاملاتٌ بمظاهرةٍ ضخمةٍ في جادّة كورسو فينيسيا، وسطَ ميلان. الأحداث التي أفضتْ إلى التظاهر أطولُ من أن نسردَها هنا. ما يهمُّنا هو أنّ الجيش، بقيادة الجنرال بكاريس، اعتدى على المظاهرة وفرّقها على النحو الآتي: عند الظهيرة، هاجم الخيّالةُ الحشودَ. حاول العمّالُ العُزَّلُ رفعَ السواتر. أُعلن حكمٌ عسكريّ. ولثلاثة أيّام تلتْ، تصارع الجيشُ مع العزّل.

كانت الحصيلةُ الرسميّةُ 100 قتيل و450 جريحًا من العمّال. شرطيٌّ واحد، لا غير، قُتل، خطأً، على يد أحد الجنود. لم يكن أيُّ جنديّ في عداد الضحايا. (بعد سنتين، اغتيل أومبرتو الأوّل  [ملكُ إيطاليا] ردًّا على تهنئة الملك العلنيّة للجنرال بكاريس، "سفّاحِ ميلان،" بعد المجزرة).

ما زلتُ أحاولُ أن أفهمَ بعضَ أبعاد مظاهرة كورسو فينيسيا بهدف كتابة حكايةٍ ما. وقد توصّلتُ أثناء ذلك إلى بعض الاستنتاجات عن التظاهر، قد تنطبق على حالاتٍ أخرى.

يجب التمييزُ بين المظاهرات الجماعيّة من جهة، والشغب (riot ) أو الانتفاضاتِ الثوريّةِ من جهةٍ ثانية، ولو أنّ الأولى قد تتطوّر في بعض الحالات (التي باتت نادرةً اليوم) إلى إحدى الحالتين الأُخرييْن. عادةً ما تكون أهدافُ الشغب مباشِرةً (انعكاسًا لليأس الذي تعبِّر عنه): مصادرة الموادّ الغذائيّة، إطلاق سراح المساجين، تدمير الأملاك. أما أهدافُ الانتفاضة الثوريّة فطويلةُ الأمد وشاملة، وتُتوَّج بأخذِ زمام السلطة.

وفي المقابل، فإنّ أهداف المظاهرة رمزيّة: تُظهِّر قوّةً قلّما تُستخدَم. [في المظاهرة] يتجمّع عدد كبير من الناس في مكانٍ عامٍّ، وواضحٍ، ومُعلنٍ عنه سابقًا. هم في الأغلب عُزَّل (وكانوا في 6 أيّار 1898 عزّلًا بشكل كامل)، ويضعون أنفسَهم هدفًا لقوى القمع الخادمة لسلطة الدولة، التي يعارض المتظاهرون سياساتِها.

نظريًّا، يُفترض أن تَكشفَ المظاهراتُ قوّةَ الرأي العامّ أو الشعور العامّ. نظريًّا، المظاهرات تناشد ضميرَ الدولة الديمقراطيّ. لكنّ ذلك يَفترض وجودَ ضميرٍ، وهذا - في الأغلب - غائب.

إذا كانت سلطةُ الدولة قابلةً لأن تتأثّر بالديمقراطيّة، فستكون الحاجةُ إلى التظاهر نافلةً. أما إذا لم تكن كذلك، فمن المستبعَد أن تتأثّرَ بعرضٍ خالٍ من القوّة، عرضٍ لا يشكّل تهديدًا حقيقيًّا لها. (التظاهر دعمًا لقوّةٍ بديلةٍ تكرّستْ سلفًا - كما كانت الحالُ عند دخول غاريبالدي [قائدِ الاستقلال الإيطاليّ] نابولي سنةَ 1860 – هو حالةٌ خاصّةٌ قد يكون لها تأثيرٌ مباشر).

المظاهرات سبقت الاعترافَ – ولو اسميًّا – بمبدأ الديموقراطيّة. المظاهرات الجماعيّة الضخمة للحركة التشارتيّة[2] كانت في بداياتها جزءًا من النضال للحصول على اعترافٍ كهذا. والحشود التي تجمّعتْ من أجل تسليم عريضتها إلى القيصر في سان بطرسبورغ سنة 1905 كانت تناشد القوّةَ المطلقةَ للملَكيّة التي لا ترحم، وكانت تقدِّم نفسَها هدفًا لها. في هذه الحالة، كما في مئات الحالات المماثلة على امتداد أوروبا، جرى إطلاقُ النار على الحشود.

يبدو، إذًا، أنّ الوظيفةَ الحقيقيّةَ للتظاهرات ليست إقناعَ السلطة الحاكمة في الدرجة الأولى. فهدفٌ كهذا ليس إلّا عقلنةً ملائمةً [أو تبريرًا يبعث على الراحة].

الحقيقة أنّ المظاهرات الجماعيّة هي "بروفاتٌ" للثورة، ليس بالمعنى الاستراتيجيّ، ولا حتى التكتيكيّ، بل من حيث كونها تدريباتٍ على الوعي الثوريّ. الفاصل الزمنيّ بين البروفات [التدريبات] والعرضِ الحقيقيّ قد يمتدّ فترةً طويلة: نوعيّة البروفات – حدّةُ الوعي الثوريّ – قد تتفاوت تفاوتًا شديدًا بين حالةٍ وأخرى. لكنْ من الأفضل أن توصَفَ أيُّ مظاهرةٍ تفتقر إلى خاصّيّة البروفا [الثوريّة] بأنّها مشهدٌ [دراميّ] عامّ، يجري بتشجيعٍ رسميّ.

مهما تضمّنت المظاهرةُ من عفويّة، فإنّها حدثٌ مخلوقٌ (created) يَفْصل نفسَه اعتباطيًّا عن الحياة العاديّة. قيمتُه هي نتيجةٌ لطبيعته المصطنَعة (artificiality)، إذ ههنا [تحديدًا] تكمن احتمالاتُه الاستشرافيّةُ التدريبيّة.

تتميّز المظاهرةُ الجماعيّة من التجمّعات الشعبيّة الأخرى بأنها تتجمهر في مكانٍ عامّ من أجل أن تَخلقَ وظيفتَها، بدلًا من أن تتجمهرَ استجابةً لهذه الوظيفة. وبذلك، تختلف عن أيّ حشدٍ من المشاهدين، أو عن أيّ تجمّعٍ عمّاليّ في مكان عملهم، وتختلف بما في ذلك عن الإضراب. المظاهرة تجَمُّعٌ يتحدّى الوضعَ القائمَ بمجرّد حصولها.

عادةً، تكذب قوى السلطة بصدد أعداد المتظاهرين. لكنّ هذه الكذبة ليس لها أيُّ تأثيرٍ يُذكر (إلّا حين تكون المظاهراتُ مناشدةً لضمير السلطة الديمقراطيّ). أهمّيّةُ أعداد المشاركين تكمن في التجربة المباشرة للمشاركين، أو للمتعاطفين الذين يشهدونها. بالنسبة إلى هؤلاء، الأرقامُ تَبْطلُ أن تكون أرقامًا، وتغدو دليلًا لحواسّهم وحصيلةً لمخيَّلتهم. كلّما كبرت المظاهرة، باتت مجازيّتُها التي تعكس قوّتَهم الجماعيّةَ أقوى وأشدّ حضورًا (على صُعُد الرؤية والمسموعيّة والملموسيّة).

أقول "مجازيّة" لأنّ القوّة المدرَكة [من خلال التظاهر] تتخطّى قوّةَ المشاركين الكامنةَ والفعليّةَ. كلّما كبر العددُ، زاد تمثيلُ المشاركين للغائبين – وذلك في تقدير المشاركين لأنفسهم ولبعضهم بعضًا. بهذه الطريقة، تقوم المظاهرةُ الجماعيّة بتجسيد المجرَّد، وبتوسيعه، في آنٍ واحد. يصبح المشاركون أكثرَ وعيًا بانتمائهم إلى طبقة، ويتوقّف هذا الانتماءُ عن أن يعني قدرًا مشترَكًا ليغدو فرصةً مشتركةً. يبدأ المشاركون يدركون أنّ وظيفةَ طبقتهم لا تحتاج إلى أن تكون محدودةً بعد ذلك؛ أيْ إنّ طبقتَهم، شأن المظاهرة، تستطيع هي أيضًا أنْ تخلقَ وظيفتَها.

كما يجري التدرّبُ على الوعي الثوريّ بطريقةٍ أخرى، وذلك عبر اختيار المكان ومدى تأثيره. فالمظاهرات، في جوهرها، ظاهرةٌ مدينيّة، ويُخطَّط عادةً لأن تحصل قريبةً قدر المستطاع من مركزٍ رمزيٍّ ما، مدنيٍّ أو وطنيّ. قلّما تكون "أهدافُها" استراتيجيّةً (محطّات قطار، أو محطّات إذاعة، أو ثكنات، أو مطارات). يمكن اعتبارُ المظاهرة الجماعيّة استيلاءً رمزيًّا على مدينةٍ أو عاصمة. مجدّدًا، الرمزيّة أو المجاز يصبّان هنا في خدمة المشاركين.

ومع ذلك فإنّ المظاهرة، وهي حدثٌ غيرُ منتظم يخلقه المتظاهرون، تحصل في وسط المدينة لأغراضٍ مختلفةٍ تمامًا. فالمتظاهرون يعترضون الحياةَ المنتظمةَ للشوارع التي يمرّون بها، أو للمساحات المفتوحة التي يملأونها. هم يقومون "بقَطْع" هذه المناطق. ولأنّهم لا يملكون ما يكفي من القوّة لاحتلالها بشكلٍ دائم، فإنّهم يحوّلونها إلى مسرحٍ موقّتٍ لعرضٍ دراميٍّ للقوّة التي ما زالوا يفتقدونها.

ثم إنّ رؤية المتظاهرين للمدينة التي تحيط بهم تتغيّر هي أيضًا. فهُم، عبْر التظاهر، يعبِّرون عن حرّيّةٍ واستقلاليّةٍ أكبر، عن إبداعٍ أكبر (وإنْ كانت ثمرتُه رمزيّةً فقط) ممّا كان يمكن أنْ يحقّقوه فرديًّا أو جماعيًّا أثناء حياتهم العاديّة. ففي مساعيهم العاديّة يعدِّل المتظاهرون الظروفَ لا أكثر؛ أمّا عبر التظاهر، فهم رمزيًّا يضعون وجودَهم ذاتَه في مواجهة الظروف.

هذه الإبداعيّة قد تَنتج من اليأس، وقد يكون الثمنُ الذي يُدفع من أجل تحقيقها غاليًا، لكنّها تُحْدث تحوّلًا موقّتًا في نظرتهم. فهم يعون، بشكلٍ تشاركيّ، أنّهم، ومَن يمثّلون، هم الذين بنوْا المدينة، وهم الذين يُعزِّزون بقاءها. يروْنها بعيونٍ مختلفة. يروْنها نتاجًا لهم، الأمرُ الذي يعزِّز قدراتِهم المحتملةَ، بدلًا من أن يقلِّلَها.

أخيرًا، هناك وسيلةٌ أخرى يجري من خلالها التدرّبُ على الوعي الثوريّ. فالمتظاهرون يقدِّمون أنفسَهم هدفًا لِما يُسمّى "قوى القانون والنظام." ومع ذلك، فكلّما باتوا هدفًا أكبر، شعروا بقوّةٍ أكبر. لا يمكن تفسيرُ ذلك بالمبدأ السطحيّ "القوّة تكمن في الأعداد،" ولا بالنظريّات المبتذلة عن "سيكولوجيا الحشود." إنّ التناقض بين هشاشتِهم الفعليّة، وشعورِهم بأنّهم لا يمكن قهرُهم، يشير إلى المعضلة التي يفرضونها على سلطة الدولة.

فإمّا أنْ تتنحّى السلطةُ وتسمحَ للحشد بأنْ يقومَ بما يريد، فيصبحَ الرمزيُّ فجأةً أمرًا واقعًا، ويَكشفَ الحدثُ عن ضعف السلطة، ولو مَنع غيابُ التنظيمِ والجهوزيّةِ الحشدَ من توطيد انتصاره؛ وإمّا أنْ تَضبطَ السلطةُ هذا الحشدَ وتفرِّقَه بالعنف، فيجري استعراضُ طبيعة هذه السلطة غيرِ الديموقراطيّة بشكلٍ علنيّ. المعضلة المستحيلة [التي تواجهها السلطة] هي بين إبراز ضعفها أو إبراز استبدادها. (المظاهرة التي تخرج بإذنٍ وسيطرةٍ رسميّيْن لا تفرض المعضلةَ نفسَها؛ ذلك أنّ رمزيّتها خاضعةٌ للرقابة، ولهذا أصفُها بأنّها مجرّدُ عرض علنيّ public spectacle).

بشكلٍ شبهِ دائم، تختار السلطةُ استخدامَ العنف. ودرجةُ هذا العنف تعتمد على عناصرَ عدّة، لكنّها قلّما تعتمد على الخطر الجسديّ الذي يمثّله المتظاهرون أنفسُهم؛ فهذا الخطر – في جوهره – رمزيّ. لكنّ السلطة، بمهاجمة المظاهرة، تَضْمن أن يتحوّلَ [هذا] الحدثُ الرمزيّ إلى حدثٍ تاريخيّ: حدثٍ يُستذكَر، ويُتعلَّم منه، ويُنتقَمُ لأجلِه.

من طبيعة المظاهرة أنْ تَحضَّ على ممارسة العنف ضدّها. قد يكون حضُّها هذا عنيفًا أيضًا، لكنّها محكومةٌ في نهاية المطاف بأنْ تعاني أكثرَ ممّا تسبِّبُ [المعاناةَ]. هذه حقيقةٌ تكتيكيّة وتاريخيّة. إنّ الدور التاريخيّ للمظاهرات هو إظهارُ ظلمِ سلطة الدولة القائمة وقسوتِها ولاعقلانيّتِها. المظاهرات احتجاجاتُ براءة (protests of innocence).

لكنّ البراءة صنفان، لا يمكن التعاطي معهما إلّا على أساسِ أنّهما صنفٌ واحدٌ على المستوى الرمزيّ. أمّا على مستوى التحليل السياسيّ والتخطيط للعمل الثوريّ، فيجب فصلُهما، بحيث يجري الدفاعُ عن براءة، والتخلّي عن براءةٍ أخرى: الأولى هي البراءة المستمدّة من العدالة، والثانية هي البراءة الناجمة عن غياب التجربة.

المظاهرات تُعبِّر عن الطموحات السياسيّة قبل أنْ تُخلَقَ الوسائلُ السياسيّةُ اللازمةُ لتحقيقها. المظاهرات تتنبّأ بتحقيق الطموحات التي تسعى إليها، وعليه فقد تسهم في تحقيقها، ولكنّها لا تستطيع تحقيقَها بنفسها.

السؤال الذي ينبغي على الثوريين أنْ يجيبوا عنه في أيّ منعطفٍ تاريخيّ: هل هناك حاجةٌ، أمْ لا، إلى المزيد من البروفات [التدريبات] الرمزيّة؟ المرحلة الثانية هي التدريب على التكتيك والاستراتيجيّة لإقامة العرض نفسه.

 

[1] الجدير ذكرُه أنّ بيرجر كان من أوائل المثقّفين المنضمّين إلى حركة BDS (حركة مقاطعة "إسرائيل" وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها). راجع:

https://www.theguardian.com/uk/2006/dec/15/israel.booksnews

[2] حركة عمّالية للإصلاح السياسيّ في بريطانيا بين 1838 و1857

هشام صفيّ الدين

أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة بريتش كولومبيا، كندا. صدر له كتاب دولة المصارف: تاريخ لبنان الماليّ بالإنكليزيّة عن دار ستانفورد (2019) وبالعربيّة عن مركز دراسات الوحدة العربيّة (2021، ترجمة فيكتور سحاب). وحرّر وقدّم لكتاب الماركسيّة العربيّة والتحرّر الوطني: مختارات من كتابات مهدي عامل، ترجمة انجيلا جيورداني (بريل، 2020)، ونفير سورية (مع يانس هانسن، دار جامعة كاليفورنيا، 2019).