عاشوراء وإيران: ما قبل الثورة وبعدها
10-09-2019

 

في أواخر الستينيات شبّه عالمُ الاجتماع، علي الوردي،[1]التشيّعَ في وضعه الراهن "بالبركان الخامد. فقد كان في يومٍ من الأيّام بركانًا ثائرًا، ثمَّ خمد على مرور الأيّام، وأصبح لا يختلف عن غيره من الجبال الراسية إلّا بفوَّهته والدخانِ المتصاعدِ منها. والبركان الخامد لا يخلو من خطر رغم هدوئه الظاهر، إلّا أنّه يمتاز عن الجبل الأصمّ بكونه يحتوي في باطنه نارًا متأجّجةً، ولا يدري أحدٌ متى تنفجر هذه النارُ مرّةً أخرى."

عندما ركّز الوردي على إمكانيّة الثورة في خطّ التشيّع لم يكن يتوقّع أنْ يثورَ هذا البركانُ بعد عقدٍ من الزمن، وفي يوم العاشر من محرّم بالذات، لكنْ مع فارق المكان؛ فالماردُ الشيعيّ لم يثر من كربلاءَ هذه المرّة، بل من إيران.

***

في إيران ما قبل الثورة، لم تكن عاشوراءُ مسألةً دينيّةً خالصة. فالطقوس، شأنها شأن أيّ مسألة ذاتِ حضورٍ مجتمعيّ كثيف، تَلعب جملةٌ من العوامل في تعزيز حضورها بين الناس أو تغييبِه. لذا، فإنّ من الخطأ المنهجيّ، عند تناول هذه المسألة، التركيزَ حصرًا على جماعة العلماء دون غيرهم. إذ ثمّة طرفان يلعبان دورًا رئيسًا في مثل هذه المسألة عند الشيعة: المرجعيّة، والشارع.

مثالًا على ذلك أنّه فور إعلان السيّد البروجردي، منتصفَ الستينيّات، تحريمَ "التطبير" شرعًا،[2] جاءه رجالُ البازار (السوق) طالبين منه التراجعَ عن الفتوى. يروي الشهيد مرتضى مطهّري الحادثة بالقول: "لقد أبلغ رجالُ البازار السيّد البروجردي أنّك مرجعُنا على مدار العام باستثناء يومٍ واحدٍ في السنة، هو يومُ العاشر من المحرّم." الإشكاليّة أنّ المرجعيّة غالبًا ما كانت تتراجع عند ضغط المجتمع في مثل هذه المسائل. ويضيف الشهيد مطهّري: "في أغلبِ شؤون المجتمع الشيعيّ، تلعب المرجعيّةُ دورَ الموجِّه والمقوِّم، إلّا في مثل هذه المسألة؛ [فهنا] كانت المرجعيّةُ مقلِّدة."[3]

يعود أوّلُ تغيّرٍ في تعاطي المرجعيّة مع المسألة العاشورائية وطقوسِها في إيران إلى مرحلة السيّد الكاشاني، وهو الصديق المقرّب من رئيس الوزراء الأسبق الأستاذ محمد مصدّق. لكنّ السيّد الكاشاني وتلامذتَه أيضًا أخفقوا في تغيير مزاج الشارع الإيرانيّ، إذ كانت الطقوسيّاتُ الشعائريّة تتغلّب على الدوام على كلَّ مَن يطالب بإصلاحها أو نقدِها. فالطقوس في إيران كانت على الدوام من هويّة النظام السياسيّ، أو ما أراد لها أنْ تكون.

في إيران، ابتدأت الإحياءاتُ العاشورائيّة فترةَ الدولة الصفويّة (1501 – 1726). لكنّ الأمرَ تعاظم طقوسيًّا في مرحلة الدولة القاجاريّة (1794 – 1925). فلقد سعت السلطةُ القاجاريّة إلى ترسيخ صورة الحسين المسكين، الذي يترجّى الماءَ من خصمه، كنوع من تعزيز منطق السلطة المتجبِّر في ذهن المُتلقّي؛ وكأنّ السلطة أرادت القول: إنّ حادثة كربلاء، بما فيها من شدّةٍ وغلظةٍ على الحسين، هي المنطقُ المتوقَّعُ لكلّ فردٍ يريد أن ينال من السلطة. وقد رافق استبدادَ تلك السلطة سكوتُ العلماء ردحًا من الزمن، وهو الأمرُ الذي استمرّ حتّى العهد البهلويّ (1925 – 1979).

 

طالب الخميني بإرسال الخُمس إلى فتح  قبيْل انتصار الثورة 

 

لا يمكن تحديدُ لحظة الانعطافة الحاسمة في وعي الشعب الإيرانيّ تجاه الطقوس العاشورائية. إلّا أنّ ما وقع في الفترة الممتدّة بين الانقلاب على حكومة مصدّق (1953)[4] وثورة خُرداد (1963)،[5] كان له الأثرُ البالغُ في فهم الشعب الإيرانيّ لمآرب السلطة ومنطقها. ثمّ كان السيّد الخمينيّ، الذي أحدث وعيًا مختلفًا في تضمينه الفقهَ بعدًا حيًّا نهضويًّا وتحرريًّا، تَمثّل بفتواه (خلال ثورة خُرداد) حول مال الخُمس: فلقد طالب رجالَ البازار بإرسال مال الخُمس إلى حركة فتح (قوّات العاصفة) الفلسطينيّة؛ وكان ذلك قبيْل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران بخمسةَ عشرَ عامًا. وهو ما طرح السؤالَ واسعًا عن الغرض من الشعائر والفقهيّات الشيعيّة الخاصّة.

 ***

في العاشر من محرّم لسنة 1979، أُقيمتْ في مدن إيران مسيراتُ إحياء ذكرى "سيِّد الشهداء" (الإمام الحسين)، وكانت تختلف تمامًا عن مسيرات السنوات الأخرى. في ذلك اليوم، أحيا الشعبُ الإيرانيُّ ذكرى قيام بطل عاشوراء، واستوحى من مبادئ ثورته تمرُّدًا في وجه الشاه المستبدّ. فخرج ثلثُ سكّان إيران إلى الشوارع هاتفين بإسقاط الشاه الطاغي، وبتأييد الخميني الثائر. وكانت مسيرةُ عاشوراء في تلك السنة أكبرَ مسيرةٍ مناهضةٍ للشاه في إيران.

حينها، رأى السفيرُ البريطانيّ في طهران آنتوني بارسونز[6] أنّ مسيرةَ عاشوراء سنة 1979 ليست كمثيلاتها. وقال السوسيوليجيّ الشهيرجان فوران،[7] الباحثُ في الشأن الإيرانيّ، إنّ تلك المسيرة كانت أعظمَ تجمُّعٍ إنسانيّ في التاريخ. ووصف فرِد هاليداي،[8] الخبيرُ في العلاقات الدوليّة والشرق الأوسط، تلك المسيرةَ بأنّها أكبرُ مسيرة غير حكوميّة في تاريخ البشريّة.

وبحسب حسين فردوست، مساعدِ الشاه في مذكّراته، فإنّ الشاه ركب المروحيّةَ بنفسه حتى يطّلعَ على هذا الوضع الجديد بصورته الكاملة، فأيقن السقوطَ، وهاله ما رآه من تجمهرٍ حاشدٍ يملأ العاصمةَ، فقرّر الهروبَ بلا تردّد.[9] فما عايَنَه لم يكن احتجاجًا عمّاليًّا، أو مظاهرةً طلّابيّة، بل تكرارٌ لمبادئ الحسينيّين الثوّار، وتوجّهٌ هادفٌ لا تُحْرفه الإغراءاتُ عن المسار. ولقد كانت تلك المسيرةُ بمثابة رفضٍ جماعيٍّ لطغيان الشاه، وللاستكبار الذي يقف خلفه، واستفتاءً عامًّا يعكس إرادةَ الشعب في السير على نهج عاشوراء.

جاهر الإمامُ الخمينيّ بعد تلك المسيرة بالثناء على الشعب الثائر، وخاطبهم بالقول: "أنتم بمسيراتكم الضخمة في جميع أنحاء ايران، في يومَي التاسع والعاشر لذكرى استشهاد سيِّد المظلومين وإمام المُضحِّين عليه السلام، جدّدتم العهدَ مع هذا الإمام العظيم. لقد أعلنتُ في رسالةٍ بعثتُ بها إلى رؤساء الحكومات، تزامنًا مع مسيرتكم الكبيرة هذه، أنّ الاستفتاء الذي جرى في هذين اليومين لم يُبقِ أيَّ مجالٍ للشكّ في أنّ الشعب لا يريد الشاهَ، وأنّه أعلن عدمَ شرعيّته بالأغلبيّة الساحقة."[10]

قبل ثورة العاشر من محرّم عام 1979، كانت ذكرى عاشوراء، في كثيرٍ من الحالات، بمثابة مهرجانٍ للشعائر، ومَجالسَ لطلب الثواب، وتحدٍّ لطاغيةٍ ولّتْ أيّامُه منذ ألف وأربعمائة عام، يتبرّأ منه الشيعةُ، مع كون بعضهم يوالون النظامَ القائمَ الظالمَ المُستتبَعَ للغرب الإمبرياليّ. ولم يكن يَربط بين روّاد المجاس العاشورائيّة وبين الإمام الحسين في ذلك الحين إلّا الأمنيات (على ما يَرِد في مجالس العزاء من عبارات من قبيل: "يا ليْتنا كنّا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا"). وفي هذا السياق قال مرشدُ الثورة الإسلاميّة الإمام الخامنئي وقتها: "كانت عاشوراء لسنوات عديدة بلا جدوى، وبدون أيّ ملحمة، لكنّنا [اليوم بتْنا] نعيشُ عاشوراء."[11]

إذًا، كان العاشرُ من المحرّم لسنة 1979 يومًا مصيريًّا في تاريخ إيران ومستقبلها. فتسلّح الشعبُ بمبادئ، ليصبحَ بعد ذلك كفيلًا بإسقاط قوّةٍ صُنِّفتْ خامسَ أقوى قوّة عالميّة آنذاك.

لم يكتفِ الشعبُ الإيرانيُّ بالبكاء على مأساة الحسين في ذلك الحين، بل تجاوز ذلك إلى تطبيقمبادئ الحسين، وإلى تلبية نداء الحقّ المظلوم. فلكلّ جيلٍ كربلاؤه، ولكلّ زمانٍ عاشوراؤه، ولكلّ ساحةٍ من ساحات الصراع نموذجٌ للحق ونموذجٌ للباطل.

لقد أقام يزيدُ فسطاطًا للطغيان، فأقام الحسين والذين استُشهدوا معه فسطاطًا للجهاد، وأقام الشعبُ الإيرانيُّ ــ كغيره من الشيعة ــ فسطاطًا للعزاء. لكنّ هذا الشعب، بفضل إرشاد الإمام الخمينيّ، ومَن معه من القادة، وظّف عاطفتَه وبكاءه لرفض الظلم والطغيان، وانتقل من فسطاط العزاء إلى فسطاط الجهاد، وتحوّل حزنُه إلى ثورة. فلم تكن عاشوراءُ، بالنسبة إليه، مأساةً فحسب، بل كانت ثورةً أيضًا. وكان فعلُه مصداقًا لقول الخميني: "كلُّ ما لدينا مِن عاشوراء."

طهران

 

[1] علي الوردي، وعّاظ السلاطين (بغداد: دار كوفان للنشر، 1995)، ص 255.

[2] التطبير: ضربُ الرؤوس وإدماؤها بآلاتٍ حادّةٍ أثناء الشعائر الحسينيّة، على التشبّه بالإمام عليّ بن أبي طالب الذي ضربه ابنُ ملجم على رأسه أثناء الصلاة، ما أدّى إلى استشهاده.(الآداب)

[3] مرتضى مطهري، مجموعه آثار استاد شهيد مطهري (طهران: دار صدرا للنشر، الجزء 17، ص 334، والجزء 24، ص 500).

[4] انقلاب مخابراتيّ، بريطانيّ – أميركيّ، على رئيس حكومةٍ منتخَبٍ ديمقراطيًّا. (الآداب)

[5] تظاهرات تأييد للإمام الخميني، بعد اعتقاله من قبل الشاه. (الآداب)

[6] Anthony Parsons, The Pride and the Fall: Iran, 1974-79 (London: Jonathan Cape, 1984), p 86

[7] John Foran, Fragile Resistance: Social Transformation In Iran From 1500 to The Revolution (Boulder: Westview Press, 1992), p 322

[8] Fred Halliday, Iran: Dictatorship and Development(London: Penguin Books, 1979), p 113

[9] حسين فردوست، (ظهور وسقوط سلطنت بهلوي، طهران: دار مؤسّسة اطلاعات، 1990)، ص 598.

[10]. روح الله الخميني، صحيفة الامام (طهران: مؤسّسة نشرآثار الإمام الخميني، 1997، الجزء 5)، ص 211.

[11]. علي الخامنئي، آفتاب در مصاف (طهران: دار انقلاب إسلامي)، ص 10.

محمّد صادق حسین زاده

باحث وأستاذ فی الحوزة والجامعة. خرّیج جامعة طهران من فرع الفلسفة وعلوم القرآن والحدیث.