تمثيل النساء المهمَّشات في الإعلام اللبنانيّ
02-05-2019

 

حين نتكلّم على التهميش في السياق اللبنانيّ، فإنّنا نواجه تقاطُعَ مستوياتٍ ثلاثة، هي العِرْقُ والطبقةُ والنوعُ الاجتماعيّ، في إنتاج تلك "المخلوقة العجيبة" التي يلتقي المجتمعُ والإعلامُ على تشييئها وتهميشِها وتسليعِها وفتْيَشتِها (من "فيتيش").

تبدأ بَل هُوكْس كتابَها (Where We Stand: Class Matters (1964 بجملةٍ مثيرة: "اليوم، الموضة هي أن نتحدّثَ عن العِرق والنوعِ الاجتماعيّ. أمّا الموضوع غيرُ المثير فهو الطبقة؛ إنّه الموضوع الذي يُشْعرنا جميعًا بعدم الراحة، بالتوتّر، بأنّنا غيرُ واثقاتٍ أين نقف."[1]

لا أوافق هوكس في أنّ الموضوع غير المثير في الولايات المتحدة الأميركيّة ما زال الطبقة. هذا أوّلًا.

ثانيًا، هذا الوضع لا يشبه لبنان. صحيح أنّ "موضةَ" الحديث عن العِرق والنوع الاجتماعيّ ربّما ضربت الأوساطَ النخبويّةَ والأكاديميا، لكنّها لم تصبحْ بعدُ موضوعًا لحديث الناس العاديّين. وصحيح أنّنا في لبنان، عمومًا، نميِّز بين البشر على أساس الدين والطائفة ــ وهذا في ذاته شكلٌ من أشكال العنصريّة. غير أنّنا نميّز أيضًا بينهم على أساس جنسيّاتهم.

لقد أصبحتْ هذه المواضيعُ تثار بشكلٍ فضائحيّ في الإعلام اللبنانيّ، المرئيّ والمكتوب: النساء، الفقيرات، ذوات البشرات الملوّنة، البدينات، عاملات المنزل، الريفيّات، المحجَّبات، غير اللبنانيّات، المُسِنّات، المثليّات، العابرات. هؤلاء جميعُهنّ بتن مادّةً خامًا للأخبار والبرامج "الاجتماعيّة،" والتوك شوز، وبرامج السخرية، وصفحات "الخبَر السريع،" والمواقع الإلكترونيّة السياسّية العديدة.

في البرامج "الاجتماعيّة،" تتحوّل العنصريّة (وهي لا تُختصر فقط بذوي العِرق المختلف وذواتِه، بل تشمل أيضًا ذوي الجنسيّات المختلفة وذواتها، من فلسطينيّةٍ وسوريّةٍ ومصريّةٍ...) إلى مادّةٍ للتنميط والنخبويّة والفوقيّة والوعظ. ذلك أنّ غالبيّةَ مَن يتناولون هذا الموضوعَ المعقّد و"الحسّاس" غيرُ مؤهَّلين أو مدرَّبين علميًّا لتناوله. ويبدو لنا أنّ تناولَه يهدف، أساسًا، إلى جمع أكبر عددٍ من المشاهدين والمشاهِدات، لا إلى إنتاج مقاربةٍ عادلة، أو إلى نقل الواقع من وجهة نظر المهمَّشات والمهمَّشين. في غالبيّة هذه البرامج "الاجتماعيّة،" وفي غيرها أيضًا، تُطرح مسألةُ استغلال النساء بحثًا عن فضيحة، أو مؤامرةٍ خفيّة. ويحصل الأمرُ نفسُه مع ذوات البشرة الملوّنة، إذ تتحوّل قصصُ قمعهنّ إلى بحثٍ عن "أخطاءٍ" ارتكبنَها. والهدف هو سحبُ الشرعيّة عن معاناة مجموعةٍ بأكملها.

 

في البرامج "الاجتماعيّة" تتحوّل العنصريّة إلى مادّةٍ للتنميط والنخبويّة والفوقيّة والوعظ 

 

أمّا في البرامج الكوميديّة، فهناك تسليعٌ للنساء، وتدعيمٌ للأفكار النمطيّة، وصرفُ نظرٍ عن الطبقة، واستخفافٌ بمعاناة النساء. ونلاحظ أنّ حدّةَ العنصريّة والطبقيّة والتمييز في هذه البرامج تزداد كلّما ازدادت المطالبةُ بالعدالة الاجتماعيّة وحقوقِ المهمَّشات والمهمَّشين؛ أي إنّ ما يحصل خلال هذه البرامج ليس سوى ردّةِ فعلِ المجموعة ذاتِ الامتيازات (وهي تضمّ، أساسًا، رجالًا لبنانيّين بورجوازيّين) بسبب خوفها من مشاركة امتيازاتها مع مَن هنّ/هم "أقلُّ شأنًا."

وأمّا حين تتناول الصحافةُ والإعلامُ المكتوب عملَ النساء في المجال السياسيّ تحديدًا، فسنقع على "جنْسنة" (sexualization) شبيهةٍ بما يقترفه التطرّفُ الدينيّ. مثالٌ على ذلك مقالٌ[2] عن الوزيرة ريّا الحسن على صفحة المدن، وهي إحدى الصحف التي تَعتبر نفسَها "تقدّميّةً" في هذه المواضيع. يكتب يوسف بزّي: "ما تتّصف به تعبيراتُها، جسديًّا ولغويًّا، هو توازنُها بين مظهرَي الأناقة والقوّة، اللطافة المقرونة بالنفوذ والحزم (بعيدًا عن المقارنات الخبيثة عن الأنوثة والجدّيّة والاقتدار مثلًا). هي كمَن يستعدّ لاجتماع مجلس إدارة الساعة الثامنة صباحًا، ويتحضّر لعشاءٍ رومانسيٍّ في اليوم نفسه، وعند الظهر عليه أنْ يوبِّخ ضابطًا عسكريًّا." لطيفٌ هذا الفيتيش لمشهد امرأةٍ "توبِّخ" ضابطًا؛ مشهد هي فيه أبعدُ ما تكون عن الـ femme fatale (أي المرأة الفاتنة الفتّاكة)  وأقربُ ما تكون إلى الدومينيتريكس (أي المرأة المهيمنة في العلاقة الجنسيّة).

ملحوظة: نحن هنا نتكلّم عن ريّا الحسن، الوزيرة، اللبنانيّة، الثريّة، صاحبةِ العلم والشهادات. فتخيّلوا، وتخيّلْن، لو كنّا نتحدّث عن المهمَّشات المحرومات من ذلك كلّه!

اليوم، يَعرض الإعلامُ اللبنانيّ المرأةَ، خصوصًا المهمَّشة وذاتَ الهويّة الجنسيّة المخالفة للسائد، تمامًا كما كانت تُعرض المرأةُ السوداءُ في أوروبا أوائلَ القرن الماضي: كأنّها حيوانٌ غريب، لا تملك حقوقًا كسائر البشر، يتفرّج الرجلُ القبضايُ (الماتشو) عليها كي يضحكَ أو يتعجّبَ، أو لكي يلمسَها ويرى عريَها وبؤسَها، فيتحسّسَ امتيازاتِه وحقوقَه المتفوّقة، وربّما ينتشي. لكنّ الإعلام هنا لا يتوجّه الى "الماتشو" وحده، بل إلى النساء البورجوازيّات أيضًا، أولئك اللواتي يملكن امتيازاتٍ لا تملكُها تلك "المعتّرةُ" التي يُحرق ضوءُ الكاميرا عينيْها، فيَشعرن بالامتنان لِما هنّ عليه، ويستمتعن بغنائم البورجوازيّة.

يَستضعف النظامُ (وأقصد مختلفَ السلطات السائدة على مستوى الحكم والإعلام والاقتصاد والتربية...) المهمَّشين والمهمَّشات استنادًا إلى عدّة نقاط أو "غنائم": الطبقة (class)، العِرق (race)، الجنسيّة (citizenship)، النوع الاجتماعيّ (gender)، الدين، الطائفة (sect)، المنطقة (ريفية، مدينية،...)، اللهجة، المستوى العلميّ والثقافيّ، الهويّات الجنسيّة (sexual identities)، الشكل، العمر، الحجم. واعتمادًا على هذه الامتيازات، وهي معروفةٌ وواضحةٌ وأشبهُ بعُرْفٍ صامت، لكنّها بالتأكيد مركَّبٌ اجتماعيّ (social construct) غيرُ ثابت وغيرُ أبديّ، يدخل التهميش.

بالنسبة إلينا، نساءً، نِسْويّاتٍ، أو أشخاصًا باحثين عن عملٍ إعلاميّ يكسر هذه الأنماط، يمكننا البدءُ بالخطوات الآتية، المستوحاةِ من الأسلوب البحثيّ المسمّى "الإتنوغرافيا النسويّة":

- أن نتعرّفَ إلى مميّزاتنا.

- أن نستخدمَها.

- أن نعطي أقلّنا حظوةً الفرصةَ.

- أن نترك لهنّ حريّةَ سرد "قصّتهنّ."

- أن نقرأ، عبْر هذه القصّة، الأنماطَ التي يجري تثبيتُها، والأنماطَ التي تجري إزالتُها.

في الحديث مع النساء وعنهنّ، ثمّة على الدوام منظومةٌ "أخلاقويّةٌ" جاهزة، محفوظةٌ بين كلماتٍ "حداثويّة،" تُظْهر رأسَها البشعَ حينما يريد الإعلاميُّ أو الإعلاميّةُ ذلك، وأحيانًا من غير وعي منهما. وهذه المنظومة تتكثّف وتتصاعد حدّةً حين يكون الحديثُ مع نساءٍ مطلّقات، أو "عوانسَ،" أو عزباواتٍ، أو مزاويجَ (كثيرات الأزواج)، أو أقلَّ علمًا، أو ذواتِ بشرةٍ ملوّنة، أو فلّاحاتٍ، أو مثليّاتٍ (ومثليين)، أو عابراتٍ، أو مهاجرات. الإعلام يسعى إلى استضعاف هؤلاء، ويضعهنّ على مذبح الدين والأخلاق، مهما كان الموضوعُ الذي يتكلّمن عليه.

أنا هنا أتحدّث عن نفسي، لا "نيابةً" عمّن يُظهرهنّ الإعلامُ بالشكل الذي سُقناه أعلاه. ومع ذلك فإنني أتكلّم على حاجتنا إلى سماع القصة منهنّ، لا عنهنّ؛ حاجتِنا إلى أن يكون الإعلامُ (الذي يقوّي الخطابَ المهيمنَ ويجمِّله) أقلَّ استغلالًا لهنّ؛ حاجتِنا إلى أن يمنحَهنّ مساحةً لتمثيل أنفسهنّ، كي نستطيع حينها سماعَ سرديّتهنّ. وبهذا، لا أتكلّم أنا، ولا يتكلّم غيري، على "صمتهنّ."

يقال إنّ الإعلامَ السوفياتيّ (الشيوعيّ) "موجَّه،" ويهدف إلى تغيير الحقائق خدمةً لمشروع سياسيّ. اليوم، في لبنان، نعيش في ظلّ إعلامٍ لا يتوجّه إلّا نحو إنتاج الربح لصالح حفنةٍ قليلةٍ من "النخَب" المسيطرة، وذلك عبر تغيير الواقع وتهميش صانعاته وصانعيه. وهذا ما يتطلّب أن نعمل، بشكل جدّيّ، على مواجهته، وعلى إنتاج بدائلَ له.

 

بيروت

 


[1] Bell Hooks, Where We Stand: Class Matters (Psychology Press, 1964): "Nowadays it is fashionable to talk about race or gender; the uncool subject is class. It’s the subject that makes us all tense, nervous, uncertain about where we stand"

جنى نخّال

باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.