تونس: هذا مِن فضل مَن؟
11-09-2019

 

"بردُ شباط يَخرق العظام،" تقول أمّي. وغربةُ المنطقة المقهورة تُفاقم ذلك العذابَ. فلا شيء هنا اليوم، بين البحر والناس، غير القهر. مات السمك، وحلّ القهرُ مكانَه. رزقةٌ تلوكُها أفواهُ الفقراء والبحّارة. هؤلاء أصبحوا اليوم منتحرين: يموتون من الجوع، أو من "الحُرقة" (تُقرأ "حرغة")  ـــــ أي الهجرة غير الشرعيّة في البحر نحو أوروبا.

في تونس، وبعيدًا عمّا نسمعُه عن القوانين الداعمةِ للنساء وغيرِ ذلك من القوانين التي تسمح للمواطنين بمقاضاة الدولة؛ وبعيدًا عن نقاشات الإسلاميين والليبراليين؛ وفي صلب غياب اليسار عن العمل الميدانيّ بين الناس؛ ثمّة تحرّكاتٌ سياسيّة ـــ اجتماعيّة زراعيّة بيئيّة في أغلب مناطق الجنوب وأكثرِها تهميشًا.

نتنقّل بين المنستير وقابس، وهما مدينتان في جنوب تونس تختلفان عن مدن لبنان، لكنّهما تشبهانها بالقهر والذلّ والاستغلال.

***

المنستير مدينة صغيرة ذاتُ ريفٍ زراعيّ، استَعبدتْ نساءَها معاملُ الثياب الأوروبيّة، وفَتكت المياهُ المبتذلةُ بالبحر وبمن يعتاشون منه. وقابِس (تُلفظ "غابس") هي الواحة الساحليّة الوحيدة في العالم، وقد سَمّمَ معملُ استخراج الفوسفات أهلَها وترابَها وماءَها.

في المنستير، لونُ البحر، ورائحتُه، وشكلُ الطحالب المتجمّعة على وجه مائه، تبعث على الغثيان. البحر قُتِل هنا، فأصبح قاتلًا، يَفْتك بالصيّادين الذي يجدون أنفسَهم بين مُرّيْن:

- مُرِّ الخروجِ إلى البحر أبعدَ ممّا اعتاد أجدادُهم (ما يتطلّب أدواتِ إبحارٍ مختلفةً) باتجاه أوروبا؛

- ومُرِّ العمل في معاملَ أوجدتْها في ريف المنستير حاجةُ أوروبا إلى اليد العاملة الرخيصة. ومع ذلك، فإنّ أوروبا لا تريد هذه اليدَ، وتنزعج منها، مع أنّها هي التي صنعتْها وصنعتْ بؤسَها وقهرها وإحباطَها.

في ريف المنستير، مأساةُ المعامل ليست بيئيّةً فقط. فأكثرُ من 60 ألف عاملة نسيج يَفقدن أنفاسَهنّ تحت ثقل آلات الخياطة، وحاجةِ المدير إلى إنتاج كمّيّاتٍ هائلةٍ للشركة الأوروبيّة.

تُقابِلنا "ليلى" (اسم مستعار) بعد العمل. كانت ليلى من أولئك العاملات قبل أن يطردَها المديرُ مع أكثر من ألفيْن من زميلاتها. أوقفَ المعملَ، وأخذَ مالَه، وهرب. في الريف هنا، بين البيوت، وفي الحواري الضيّقة، تبني أوروبا حاضرَها الباهر. هنا، وبشكلٍ غير قانونيّ، تتمدّد أوردةُ معامل النسيج في هدوء الحارات الفقيرة، وعلى حساب صحّة النساء اللواتي لا يجدن قوتَ يومهّن. يأتي المديرُ الأوروبيّ، وهو بلجيكيٌّ في حالة ليلى، فتأتي معه ظروفُ العمل الاستعباديّة: الشركات الأوروبيّة تريد هذا العددَ من الملابس، بهذا الكمّ من المصاريف، وعلى ذلك أنْ ينفَّذَ... بأيدي التونسيّات وعيونِهنّ وأعصابِهنّ.

 

عاملات النسيج يَفقدن أنفاسَهنّ تحت ثقل آلات الخياطة

 

تُحدّثنا ليلى عن استعبادٍ حقيقيّ يعشنه اليوم. تسع ساعات من العمل، يأخذن خلالها نصفَ ساعة من الراحة  فقط، للأكل في الشارع، تحت الشتاء، أو في الحرّ. كراسٍ قاسيةٌ، "تَكْسر العظمَ" وتؤلم العضلَ، يغيّرنها ببقايا قماشٍ يَخِطْنه مخدّاتٍ صغيرةً يضعنها حيث يشتدُّ ضغطُ الخشب على العظم. وفي نهاية اليوم، يشعرن بأمراضٍ عصبيّةٍ وعضليّةٍ كثيرة، تجعل من سنّ الأربعينَ آخرَ سنٍّ للنساء العاملات في هذه المعامل. هكذا، عند الأربعين، وبعدما بدأنَ عملهنَّ في السادسة عشرة، يُجْبَرن على ترك الشغل من دون تعويض، وبالتأكيد من دون حسابٍ مصرفيٍّ راكمنَه خلال سنين عملهنّ.

بعد الأربعين، تعاني عاملاتُ النسيج أيضًا الفقرَ والإحباط، لأنّ أحدًا لا يوظّفهنّ، فيشعرن أنّهنّ بلا قيمة. وأسوأُ ما في الأمر، على ما تقول ليلى، هو أنّهنّ يجدن أنفسَهنّ بلا تغطيةٍ صحّيّةٍ لمداواة الأمراض التي نزلتْ بهنّ خلال العمل.

عملتْ ليلى مذْ كان عمرُها 16 سنة. "طوال 17 عامًا، صَنعتُ جينزات لـ Zara وTommy Hilfiger وLevi’s وغيرها." إحدى أكبر مشاكل هذا العمل أنّ النساء يقبضن بالدقيقة لا الساعة: فالشركات الأوروبيّة تطلب أن تُنتج العاملة 1.6 جينز بالدقيقة، ما يعادل 100 جينز في الساعة، ويدفع المعملُ إلى العاملة 0.07 يورو في الدقيقة؛ أيْ إنّها تأخذ ما يعادل 132 يورو في الشهر فقط.

عند النظر إلى تفاصيل الأرقام، يتّضح الظلمُ المخيفُ في الربح، إذ تنقسم كلفةُ القطعة الواحدة على النحو الآتي: 35% للمحلّات التي تبيعها، 35% للشركة، 5% تصدير، 15% دعاية، و10% للمصنع، يقتطع منها المصنعُ ربحَه وكلفةَ الإنتاج، بما فيها ساعاتُ عمل النساء والآلات والكهرباء والإيجار وغيرها من مصاريف المعمل. وعليه، فإنّ كلفة عمل النساء لا يمكن أن تتعدّى 3.5 % من الكلفة الكلّيّة!

نشاهد مع ليلى وثائقيًّا عن عاملات النسيج بعنوان منسيّات آلات الخياطة (من إنتاج المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة FTDES)، شاركتْ فيه مع صديقاتها، ونسمع: "عندما قلنا للمسؤول إنّنا سنلجأ إلى القانون وسنرفع عليه قضيّةً، قال لنا ’إذهبنْ إلى القانون.‘ كان يعرف. كان واثقًا بأنّ القانون معه. كان يقولها بكلّ راحةٍ لأنّه يعلم أنّ القانون ليس لصالحنا." وتتابع: "نحن أعطينا هذه المعاملَ دمَنا وعمرَنا، فماذا أخذنا؟ لدينا حقّ هناك، ونريد أخذَه."

"بنْت المعمل عبدة": هذا ما تقوله فوزيّة في ندوةٍ عن قضيّة عاملات النسيج.[1] "ما رأيتُ حريّة، ولا رأيتُ ديمقراطيّة، في بلادي. في بلادي، أنا جوعانة. في بلادي، أشتبهُ في أنّني ما زلتُ أعيش تحت الاستعمار!"

***

في قابس، نذهب إلى واحتَي المدو وشنيني. على أحد الجدران، ونحن ننتقل من مدينة قابس إلى الواحات (وهي القرى المحيطة بها)، كتب أحدُهم: "نعيش في حومة [أيْ حارة] تكره الحكومة."

لا شيء غريبًا في هذا القول: فقابس، التي تنساها الحكومة، هي ذاتُها التي تدرّ المالَ على الاقتصاد التونسيّ بمعملها، ولا تحصد منه إلّا أعلى عددٍ لمرضى السرطان في تونس.[2]

ننتظر الباصَ في قريةٍ منسيّةٍ بين القرى العديدة، مع عشرات الطلّاب. لقد مرّت الدولةُ من هنا منذ زمن، ونسيتْهم تمامًا... كالباص الذي يبدو أنّه نسينا نحن تحت الشمس الطاحنة.

خارجَ القرية، بيوتٌ قديمة. بساتينُ نخيل، وخضار، ورمّان، وزيتون. يزرعها أهلُها بأيديهم، ويسمّونها "الغابات." البيوت الجديدة في القرية من جهة، فالشارع الرئيس المُسفْلت، ثمّ الغابات وبيوت القرية القديمة من جهة مقابلة. نحن أمام نموذجيْن:

- القرية الباطونيّة بلا بساتين.

- والقرية القديمة من طين وشجر وخراف، ربطتها العمّةُ الثمانينيّة بالقصبات، وتركتها وحدها آمنةً بين البساتين.

لمنْ درس، ولو قليلًا، من النماذج المطروحة بديلًا للزراعة الممكنة وذات الإنتاج المكثّف (intensive farming)، فإنّ هذه المنطقة تصْلح لأن تكون التطبيقَ العمليّ لهذه النماذج. فهنا شكل من أشكال الزراعة تسمّى الزراعة الإيكولوجيّة (Agroecology): تزرع النخلةَ، وتحتها شجرة الرمّان، وتحتها الحبوب أو الخضار، وهي طريقةٌ تحافظ على غنى التربة ومواردها، وتسمح للنباتات بالنموّ من دون الحاجة إلى موادّ كيميائيّة مؤذية.

في فيلم ڨابس لاباس[3] لحبيب عايب، تتكلّم "زُهرة" عن أرضها في الواحات: "لا أبيعُها، فأنا أحسُّ أنّ فيها رائحةَ أبي." مات أبو زُهرة، وليس لها ولا لأمّها من مُعيلٍ "غير ربّي وإخوتي والغابة." ومريم، الصبيّة التي تأخذنا بين واحات "عرشها" (عائلتها)، تقول الشيءَ نفسَه. مريم متعلّمة، وتسعى إلى دراسة الماجيستير في المدينة أو خارج تونس، لكنّ أرضها هي مكانُها، عرشها.

 

في ڨابس لاباس، تتكلّم زُهرة عن أرضها: أحسُّ أنّ فيها رائحةَ أبي

 

رمل أصفر/أبيض/رماديّ ينساب تحت أقدامنا ونحن نمشي في الواحة. شمس دافئة، وهواء مثقل ببرد الفضاء الذي يربط بين الواحة والأخرى. فلّاح يخرج من أرضه، حاملًا على ظهره كيسًا كبيرًا مليئًا، ومنجلًا صغيرًا. نمشي بين الأراضي. تلك أمكن حميمة، فضاءات مقطّعة بحبّ وعناية، وأيادٍ تُطعم أفواهَ أطفالها. بين الشجرة والأخرى أعشابٌ، وخضارٌ، وصبّيْرات. لوحات صغيرة، منمّقة. ألوان وأحجام وأنماط. أصوِّر وأنا أمشي؛ فعيني  تكاد لا ترى شكلًا حتى يفاجئَها شكلٌ آخر. الرأسماليّة علّمتنا أنّ الأشياء الجميلة تكون غاليةً، أو في طريق الانقراض. والواحة تقع في الخانة الثانية.

اليوم، وبعد أنْ تمّ بناءُ منطقة صناعيّة في قابس سنة 1972، أُنشأ فيها معملُ الفوسفات (المورد الطبيعيّ الأساس لتونس، ممثِّلًا 3% من الناتج المحلّيّ الإجماليّ و10% من الصادرات)،[4] ضَرب التلوّثُ الهوائيُّ والمائيُّ المنطقةَ، وجفّ العديدُ من الواحات، وقتل الشكلَ التقليديَّ للزراعة في الصحراء، بل تحوّل أيضًا إلى محفّز (catalyst) للتمدّد العمرانيّ في المنطقة ككلّ، وذلك على حساب الواحات. في فيلم عايب، الذي سبق ذكرُه، فلّاحٌ في قابس يفلح أرضَه حافي القدمين، بالأدوات التقليديّة، وراء حصانه المتعب. اليوم، تفقد الواحاتُ مع الجفاف فلّاحَها التقليديّ (امرأةً أو رجلًا)؛ وهو الوحيد الذي يعرف كيف يُحْييها. ومع اختفائه، سنفقد المعرفةَ التي نحتاجها لفلاحةٍ هذه المناطق بالذات.

يتحدّث الباحث ماكس آجِلْ، في بحثه المعنون "حماية بيئة الفقراء في قابس،"[5] عن قابس مثالًا لـ"تاريخ التنمية الرأسماليّة في تونس،" وكيف اعتمدتْ تلك التنميةُ على "تدميرٍ بيئيٍّ واسع،" وكيف كان التاريخُ السياسيّ - البيئيّ للرأسماليّة "تاريخًا لتبادلٍ غيرِ عادلٍ بيئيًّا بين خطوط المركز والهامشِ وشبهِ الهامش  "[6]  ويتابع: "يتركّز التلوّثُ في المكان الذي يفتقر فيه السكّانُ إلى القوّة السياسيّة لمنعه، أو يوجَدون في مشاريعَ تنمويّةٍ يكون ثمنُ التطوّر فيها تلوّثَ عالمهم!"[7] هذه "التنمية" تجسيدٌ لخطاب المشاركة في "نظامٍ مبنيٍّ على الإقصاء... وعلى تصدير التناقضات الاجتماعيّة نحو الهامش ونصفِ الهامش."[8]

ربّما هذا ما يمكن أن نراه بوضوح خارج المدينة، في مناطق كقابس والمنستير؛ هوامش ترتجف تحت مطرقة رأس المال، ولا أحد يعرف عنها شيئًا لأنّها خارج "المركز."

***

لكنْ ماذا عن الثورة؟ ألم تغيِّر وضعَ القابعات والقابعين تحت رحمة التنمية هذه؟

انطلاقًا من أعمال حبيب عايب وجويل باينِنْ، يقول ماكس آجِلْ إنّ الثورة في تونس لم تستطعْ حتّى يومنا هذا أنْ تحقّقَ تغييرًا اجتماعيًّا:

"تطبيقيًّا، تستدعي الـ’ثورة‘ تغييرًا جذريًّا على مستوى البنى الاجتماعيّة. وبصراحة، فهذا لم يحصلْ في تونس. ما حصل، هو تغييرٌ في البنى السياسيّة. انتفاضة نصف بروليتاريا، وبروليتاريا ريفيّة، كسرتْ رأسَ الديكتاتوريّة التي كانت الحاميَ السياسيَّ للتراكم في تونس ما قبل العام 2011. لا تعمل الديكتاتوريّةُ فقط عبر المؤسّسات السياسيّة التي تستجيب للاضطرابات بالعصا والرقابة والمِخلعة [أداة تعذيب]، بل بتقويض أفق الممكن وجعل الناس يستبطنون العجزَ."[9]

نعود من الجنوب، في "فان" يشبه فاناتِ جنوب لبنان. ندفع 25 دينارًا، أيْ أكثرَ من 12 ألف ليرة لبنانيّة. 25 ألف ليرة للرحلة من تونس العاصمة وإليها: هذا مبلغٌ كبير، حتّى بالنسبة إلينا كغير تونسيّات. وهو مبلغٌ هائلٌ بالنسبة إلى طبقة تونسيّة عاملة تريد العملَ في المدينة بعد انكفاء فرص العمل في المنطقة المسرطَنة.

نتكدّس في الماكينة الكبيرة، بعضُنا إلى جانب بعض، لستِّ ساعات. اللواج (louage)، كما يسمّونه في تونس، يجتاز الطريقَ السريع الذي يربط الجنوبَ بقابس، اللواج يختال وحده تحت قمر منتصف الشهر، وصوتُ عاملة النسيج يتردّد في آذاننا:

"المدير يقول ’هذا من فضل ربّي‘. أيُّ ’فضل ربّي‘ هذا؟ هذا من فضل النساء اللواتي يعملنَ 9 ساعات. هذا من فضلي أنا، وفضلِ كلِّ بنات المعمل زميلاتي!"

ربّما يكون هذا القولُ أكثرَ الأقوال التي سمعتُها قربًا إلى حقيقةِ ما نمرُّ به جميعًا.

بيروت

 

[1]  FTDES, Forum Tunisien des Droits Economiques et Sociaux

[2] Max Ajl, “The Environmentalism of the Poor in Gabès”

[3] وصلة الفيلم كاملًا: https://www.youtube.com/watch?v=j_wkggqYCBg

[4]  Ajl, Op. Cit

[5]  المصدر السابق.

[6] المصدر السابق.

[7] المصدر السابق.

[8] المصدر السابق. أما دولُ "الهامش،" فكالسودان واليمن. وأمّا "نصفُ الهامش،" فكالبرازيل والهند.

[9] المصدر السابق.

 

جنى نخّال

باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.