غادرَ ولم يرحلْ
28-03-2019

 

التقيتُه أوّلَ مرّة في منزل إحدى الصديقات، برفقة الغالية زينب. أنارت بعضُ الشموع سهرتَنا اللطيفة؛ فنحن في لبنان لا نعرف انتظامًا للكهرباء.

لفتني حديثُه عن علّة لبنان وابتلائه بالطائفيّة، وعن أزمة المواطَنة. وكان يقدِّم لنا النصحَ حتّى نغيِّرَ واقعًا قاتمًا في بلدتنا، الهرمل. وفي ذروة الإنصات إليه، نظرتُ إلى وجهه من خلف نورٍ خافتٍ، أتمعّنُ في تجاعيدَ تحمل في طيّاتها حكايا وأسرارًا عن تاريخٍ نضاليٍّ طويل، قد لا تُحصى بآلاف السطور. وكانت قمّةُ سعادتي عندما علمتُ أنّه سيكون زوجَ زينب في المستقبل القريب: فهي تستحقّ هذا الرجلَ، كما يستحقّها هو أيضًا، لأنّها تحمل في نفسها قيمَ الأخلاق، وتنتمي إلى مدرسةٍ نضاليّةٍ كبيرة، شأنَه. ومن هنا بدأتْ معرفتي بماهر اليماني.

***

ما إنْ تجالسُ ماهر اليماني حتّى تعرفَ معنى الوقار. فهو يَفرض شخصيّتَه المحبَّبةَ على جميع الحاضرين: متحدّثًا لبقًا، ومستمعًا جيّدًا، وقارئًا متميّزًا، ومتواضعًا بكبريائه.

لقاءاتي بزينب قد تكون يوميّةً: صبحيّة على فنجان قهوة، أو على الغداء. وأنْ يأتي ماهر إلى الهرمل فذلك يعني أنّ هناك "أكلِة طيْبِة مِن تحت ديّاتو" (لوبيا طرابلسيّة، مغربيّة، سمك صيد،...).

كنتُ أراوغُ في الذهاب إلى منزلهما حتّى أدعَه يرتاح من عناء السفر، ويأنَسَ إلى جانب زوجته التي أحبَّ. لكنْ يأتيني الاتصالُ من زينب: "إذا ما جيت منزعل منّك واصطفلْ منك لماهر!" وما إنْ أقرعُ البابَ حتّى يلاقيني: "بدّك عزيمة؟ انزل عالجنينة جيب حَرّ." وبعد كلّ وجبةِ طعام كنّا نفتح عدّة نقاشات: مشكلة الأحزاب اليساريّة، فلسطين، الشام، أزمة الأخلاق في مجتمعاتنا،... ويَحْضرُني قولُه دائمًا: "بشير، اسمعْ، إنتو لازم تكونوا شخصيّات اعتباريّة بالمجتمع." وكان يفخر بأبي ويقول: "انت من حقك تفخر بأبوك... أبوك مناضل."

***

كان ماهر كثيرَ التفكير والانشغال بقضيّةٍ تساوي وجودَه. إلّا أنّه لا ينسى أحدًا: فهو ملجأُ الجميع، والكلُّ يستعين به لحلّ مشاكله أو لمساعدته في تأمين عملٍ ما. وهو لا يتوانى في تقديم الخدمات متى استطاع، أو في إعادةِ الحقّ إلى أصحابه. واعذروني إنْ أسميتُه "قدّيسَ الحقّ."

***

ماهر القائد، والمقاتل، والحازم، والطريف، في آن معًا. سأذكر بعضًا من "الخبريّات" التي كان يقصُّها علينا.

- حين كان في الثانية عشرة من عمره اعتقلته الشعبةُ الثانية (المخابرات اللبنانيّة). كان مكلّفًا من قِبل الثورة بنقل بعض القنابل والعبوات الصغيرة. عند اعتقاله سأله المحقِّق: "شو هيدا؟" فقال ماهر: "هادا شوكالاته." صُدم المحقّقُ وصرخ به: "عم اسألك شو هيدا؟" فأعاد الجوابَ: "هادا شوكالاته." وهكذا خرج ماهر من قبضة المخابرات بكلّ دهاء.

- كان حين يقول له أخوه أبو ماهر "اسبَقْني عالصالون،" يقول في نفسه: "يعني أنا عاملْ إشي غلطْ،" فيَرْجف، وتصطكُّ رُكبتاه، لأنّ في الأمر "زفّة وبهدلة." لقد كان أبو ماهر يعني له الكثيرَ؛ فهو الأب والأخ والقائد. وما إنْ يذكَر اسمُه حتّى تدمعَ عيناه. ونادرًا ما كنت أرى ماهرًا يبكي إلّا حين يذكر أحد المناضلين وأهله. وكيف لا وهو المناضل الذي عايش القادةَ والشهداء: من جورج حبش، ووديع حداد، وغسّان كنفاني، إلى كمال خير بك، وبشير عبيد، وغيرهم.

- كان يحدّثني عن عامل نظافةٍ في مخيّم البداوي فيقول: "أنا بَروح بسْ لأسلّم عليه واحكي أنا ويّاه لأنّ هادا مناضل يا بشير."

***

هو عاشقٌ لفلسطين، وقاتلَ من أجلها، وقدّم سنيَّ عمره آملًا في تحريرها. مارس السياسةَ التي تخدم القضيّة، وعارض الكثيرَ من القرارات التي اعتبرها تَحِيد عن درب النضال؛ فهو يعْلم جيّدًا أنّ اللغة الوحيدة التي يفهمها العدوُّ هي لغةُ النار والحديد، وبصماتُه العسكريّة والأمنيّة ما زالت تهزّ أركانَ العدوّ إلى يومنا هذا (خطف طائرات، كمائن، تدمير آليّات عسكريّة،...).

 

كان ماهر يرافق جورج حبش كظلّه

 

وذاتَ يوم، منّ عليّ بقصّةٍ عن عمليّةٍ أمنيّةٍ قام بها، مع أنّه قليلُ الكلام عن نفسه. قال لي:

"رافقتُ الحكيم جورج حبش إلى مطار بيروت. ركب الطائرة، وما إنْ أقلعتْ حتى عدتُ أدراجي إلى مقهًى في بيروت. بعد قليل أعلنتْ ’اسرائيل‘ عن اعتراض الطائرة وإنزالِها في مطار تل أبيب واعتقالِ جورج حبش. فوجئتُ بأخي، أبي ماهر، يقف أمامي متوتّرًا، ويقول: ’انتَ قاعد هون والحكيم اعتقلوه؟‘ قلتُ له: ’الحكيم مش معتقل وأنا وصّلتو عالبيت!‘"

أصبتُ هنا بحالة ذهول وسألتُه: "كيف هيك يا ماهر؟ ما هو طلع عالطيّارة وطارت!" فقال لي: "ما بقْدر أحكيلك شو صار..."

على إثر هذه العمليّة الفاشلة أُقيلَ مسؤولُ الجبهة الداخليّة في كيان العدوّ. حاولتُ جاهدًا معرفةَ التفاصيل، لكنْ عبثًا. وظلّت حسرةً في قلبي. إلّا أنّي عرفتُ بكامل القصّة بعد غياب ماهر. وسأطْلعكُم عليها.

كان وديع حدّاد في أحد المراكز التابعة للجبهة الشعبيّة. فسمع أحدَ رفاقه يقول: "اليوم، الحكيم مسافر." ونظرًا إلى الحسّ الأمنيّ الشديد الذي يتمتّع به وديع، فقد قال في نفسه: "إذا هادا بيعْرف، فممكن كتير انّ الخبريّة تكون تسرّبتْ للعدوّ!" فورًا اتصل وديع بماهر، وقال له "نزِّل الحكيم من الطيّارة." وبالفعل استطاع ماهر إنزالَ الحكيم من الطائرة والعودةَ به إلى المنزل، من دون أن يكتشف ذلك جهازُ أمن المطار، ولا الموساد الذي كان آنذاك موجودًا بقوّة في بيروت.

***

الصدمة الكبرى حين علمتُ بمرض ماهر. وأذكر تلك الليلةَ كيف نظرنا، أنا وصديقي علاء، واحدُنا إلى الآخر، بحرقةٍ، وقلنا: "خلص!" أعترفُ بأنّني أجدتُ التمثيلَ جيّدًا أمام زينب وماهر أثناء مرضه. واكبتُ كلَّ التفاصيل، وبقيتُ إلى جانبهما. وكنّا نزورُهما دائمًا، أنا وعلاء، في المنزل وفي المشفى حتّى النهاية.

صورةُ ماهر هي هي في ذهني، حتّى في أحلكِ أيّامه. لم أرَه إلّا جبّارًا قويًّا. لم أسمعْه يئنّ يومًا، حتّى أمام حبيبته زينب، التي لم تفارقْه ولو برهةً. تقبّله، وتمسح على وجنتيْه، وتقول له: "أنت الأمل."

غادر ماهر ولم يرحلْ، إذ ترك وراءه إرثًا لجيلٍ لن يَحيدَ عن الطريق، وفكرًا منيرًا يضيء دربَنا: دربَ الحقّ، دربَ الثورة، دربَ فلسطين. ويَحْضرني، في حضرة الغائب، قولُ زعيمي وملهِمي أنطون سعادة: "قد تسقط أجسادُنا، أمّا نفوسُنا فقد فرضتْ حقيقتَها على هذا الوجود."

الهرمل

 

بشير احمد عاصي

مواليد الهرمل، لبنان، سنة 1981. مسؤول إذاعيّ في منفّذيّة الهرمل في الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. عضو هيئة إداريّة، ورئيس لجنة الأنشطة، في "منتدى التراث والثقافة" في الهرمل. ناشط اجتماعيّ.