ما هو مسارُ ماكرون في لبنان ولماذا؟
10-09-2020

 

يبدو أنّ الرئيسَ الفرنسيّ على طريق نزع فتيل الانفجار في لبنان، من أجل طموحاتٍ فرنسيّةٍ استراتيجيّةٍ في شرق المتوسّط والمنطقةِ العربيّة. لكنّه يتقاطع مع حزب الله في نقطة الانطلاق نحو التهدئة الداخليّة. فما هي المعطياتُ والأسباب؟

***

بات بعضُ اللبنانيّين يلقّبون الرئيسَ الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بـ"المُرْشِد الأعلى": إمّا تفكُّهًا بسبب دورِه في تفكيك أزمة الاستعصاء السياسيّ؛ وإمّا اعتراضًا على تدخّله في الشؤون الداخليّة عبر مَخرجِ اختيارِ رئيسٍ للحكومة اللبنانيّة، ورسْمِ خريطة طريقٍ لتأليف الحكومة خلال 15 يومًا، وثمانيةِ أسابيع لإقرار "الإصلاحات."

ويجد ماكرون نفسَه في موقع القدرة على كسر الشللِ الحكوميّ والسياسيّ الذي عجزتْ عنه الطبقةُ السياسيّةُ والمعارضاتُ والحَراكُ الشعبيُّ في لبنان سواءً بسواء؛ وهو شللٌ يهدِّد، بعد فاجعة المرفأ، بـ"اندثار الدولة،" بحسب تعبير البعض، أو بالانزلاق نحو فوضى أمنيّةٍ ساخنةٍ وفتنةٍ داخليّةٍ وفق أفضل الاحتمالات.

ويستند ماكرون في قدرته على رسم خريطة الطريق إلى إمكانيّة تقديم خشبةِ الإنقاذ من الانهيار الداهم، وذلك عبر صندوق النقد الدوليّ ومؤتمر سيدْر، لضخّ سيولةٍ تسدُّ الرمقَ من جفاف التصحّر، مقابلَ ما يسمّى "إصلاحات." لكنّ نجاحَه في إنشاء هدنةٍ سياسيّةٍ قابلةٍ للحياة موقّتًا لا يعود إلى هذه الوعود الماليّة بمقدارِ ما يعود إلى قراءته ألفباءَ العمل السياسيّ لتفكيك الأزمات البنيويّة المستعصية؛ أيْ: تحديد الأولويّات القابلة للحلحلة، وتنقيتها من تعقيدات الخيوط المتشابكة.

 

تحديد أسباب الأزمة وما يمكن تفكيكُه

على خلاف الأغلبيّة الساحقة من القوى السياسيّة في منظومة الحكم والمعارضة، وفي منصّات الحَراك المتحدّثَة باسم "الثورة" في لبنان، أشار ماكرون إلى العلّةِ التي تؤسِّس أزماتِ الفساد والانهيار، وذلك حين دعا "إلى ميثاقٍ وطنيٍّ جديد."

ماكرون لم يدعُ إلى تغيير ميثاق الطائف، المؤسِّسِ لأزماتِ الاستعصاء ولسياساتِ الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ. لكنّ إشارتَه إلى منبع الأزمات الأساس غيّرتْ فوضى التخبّط بين "كلّ شيء" و"لا شيء غير غضب الشارع" من دون أن يسمح هذا التخبّطُ بالتقاط طرفِ الخيط.

فمنصّاتُ الجمعيّات والمنظّمات والناشطين، التي أثارت كلَّ الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة بصفتها "مَطالب الشارع،" هي حركاتٌ مطلبيّةٌ احتجاجيّة، مشروعةٌ ومحقّة، ولكنّها ليست حركةً سياسيّةً لتغيير النظام وإصلاحِ المنظومة. فمشروعيّتُها، التي يعبِّر عنها غضبُ الشارع، لا تكفي وحدها لتحقيق تلك المطالب. والأهمّ أنّ هذه المشروعيّة لا تكفي لإحداث تغييرٍ سياسيّ فعليّ من دون موازينِ قوًى إقليميّةٍ مؤاتية، ومن دون قوًى محلّيّةٍ سياسيّةٍ قادرةٍ على رسم خريطةِ طريق لانتزاع إصلاحاتٍ من السلطة، ولا تكفي لمنع "الركوبَ" (الداخليَ والخارجيَ) على ظهر الغضب الشعبيّ من أجل التفجير والتفتيت والغزو العسكريّ، كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن والعراق. فاحتجاجاتٌ كهذه تؤدّي، في أحسن الأحوال، إلى تطعيم السلطة الفاسدة بأشخاصٍ يُطوَّبون "غيرَ فاسدين" بناءً على حُكمٍ أخلاقيّ غير سياسيّ، بحسب التجربة التونسيّة مثلًا، حيث تغيّرت السلطةُ (التي احتفظتْ بنظام بن علي نفسه في السياسة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة وفي السياسة الخارجيّة إلى حدّ بعيد)، غير أنّها لم تواجِه الفسادَ وأسبابَ الانهيار.

وفي السياق نفسه، تجتمع "مطالبُ الشارع" في لبنان مع بعض أقطابِ النظام الاقتصاديّ-الاجتماعيّ، الذي أدّى إلى الافلاس والانهيار، على مطالبة السلطة بإصلاح نفسِها، أو الضغط عليها لتأليف "حكومة اختصاصيّين" على غرار المستشارين-التكنوقراط الذين نهلوا العلمَ والخبرةَ من المؤسّسات النيوليبراليّة الدوليّة. كما تجتمع على المطالبة بانتخاباتٍ نيابيّةٍ مبكّرةٍ، مشبعَةٍ بأوهام الإصلاح عبر "مجلس نوّابٍ جديد،" ومشبعَةٍ أيضًا بمساعي جماعات أميركا والسعوديّة إلى اصطفاف لبنان مع مشاريعهما في المنطقة.

لتجنّب الوقوع في هذا المطبّ الوعِر الذي يهدِّد بانفجارٍ أمنيّ، يتقاطع ماكرون مع حزب الله، الذي رسم أمينُه العامُّ خريطةَ طريقِ الإصلاح السياسيّ الآمن من الانزلاق إلى الفوضى الأمنيّة، عبر الدعوة إلى استفتاء شعبيّ، أو إلى مرحلةٍ انتقاليّةٍ للانتخابات النيابيّة، أو عبر التوافق الوطنيّ على إصلاح "ميثاق الطائف." والهدف من ذلك هو ترتيبُ هندام "دستور" يُطْفئ سخونةَ أزمات النظام في الشارع، الذي تستغلّه جماعاتُ أميركا والسعودية بغيةَ تفجير لبنان من أجل الانضمام إلى مشروع صفقة القرن بذريعة "تحييد لبنان" عن صراعات المنطقة والدعوة إلى الالتزام بقرارات "الشرعيّتيْن الدوليّة والعربيّة."

 

نظامُ الاستعصاء على الإصلاح من الداخل

خلال مئة سنة من إنشاء فرنسا نظامَ "لبنان الكبير،" تُهدِّد أيُّ محاولةٍ لتطويره أو إصلاحِه بانفجار حربٍ أهليّة، باردةٍ أو ساخنة. فالنظام اللبنانيّ ليس مبنيًّا على أساس إمكانيّة التكييف والتطوير إذا ما انتهت صلاحيّتُه، بل هو "مِنّةٌ" من السماء أُعِدّ للتقديس أبدَ الدهر بصفته "رسالةً للتعايش المشترك" بين الأنواع البشريّة ذاتِ الحضارات المتناقضَة! وهذه هي الوصفة القاتلة لـ"التعايش على حدّ السيف،" بحسب المؤرِّخ اللبنانيّ المرموق عصام خليفة.

 

خلال 100 سنة من إنشاء فرنسا نظامَ "لبنان الكبير،" تُهدِّد أيُّ محاولةٍ لإصلاحه بانفجار حربٍ أهليّة

 

فتراتُ التهدئة الداخليّة طوال مئة سنةٍ من عمر هذا الكيان "المقدّس" هي نتيجةٌ لتسوياتٍ إقليميّة-دوليّة تَنقل "التعايشَ الداخليَّ على حدّ السيف" من الحرب الساخنة إلى الحرب الباردة. ولعلّ التسويةَ الوحيدة التي أتاحت بعضَ الإصلاحات في النظام السياسيّ اللبنانيّ كانت نتيجةً لتأثير نموّ حركة التحرّر الوطنيّ في المنطقة، بزعامة جمال عبد الناصر. وقد أنتجتْ بعد أزمة العام 1958، في المرحلة الشهابيّة القصيرة، إصلاحاتٍ هيكليّةً في مؤسّسات الدولة، لا تزال - على الرغم من تخريبها - الإرثَ المضيءَ الوحيدَ للبناء عليه (ونعني أجهزةَ الرقابة والمحاسبة والتشريع والتوظيف وحفظ بعض الضمانات...).

الفرصة الأخرى الضائعة هي التسوية المعروفة بـ"سين سين" بين السعوديّة وسوريا لإنهاء الحرب الأهليّة الطويلة (1975ــ1989) بمباركةٍ دوليّة. لكنّ الطبقةَ السياسيّة الجديدة التي صعدتْ على ظهر النظام المقاطعجيّ القديم، وروّجتْ أنّها غيرُ فاسدة وتسعى إلى "إعادة الإعمار" و"بناءِ دولة القانون،" أطاحت بها. ففي حين قَدّمت تلك التسويةُ فرصةً ممكنةً للعمل على تطوير النظام السياسيّ وإصلاحِ أجهزةِ الدولة ومنظومةِ الإنتاج المشترَك مع سوريا، عمدت الطبقةُ السياسيّة - وبرضًى شعبيٍّ واسع - إلى اتخاذ تلك التسوية فرصةً ذهبيّةً للنهب والفساد وتخريبِ الإدارة العامّة، بالشراكة مع مجموعة الوصاية السوريّة (عبد الحليم خدّام، غازي كنعان،...).

الأدهى أنّ بعضَ القوى والمنظّمات غير الحكوميّة التي تتحدّث اليومَ باسم "الثورة" شدّتْ من أزر منظومة الفساد والانهيار سنة 2005 حين انخرطتْ في الحرب لإسقاط الدولة السوريّة، ودعمتْ مساعي التكفيريّين إلى تفتيت المنطقة في إطار المشروع الأميركيّ-التركيّ-السعوديّ.[1]وهي دعمتْ أيضًا انقلابَ مجموعة الوصاية السوريّة، مع حلفائها اللبنانيين من أقطاب نظام النهب والانهيار، تحت عنوان "ثورة الأرز،" من أجلِ ما سمّته "الاستقلالَ الثاني" لتجديد النظام المهترئ. ولا تَبْعد هذه القوى في الشارع اليوم كثيرًا عن أقطاب المنظومة الفاسدة في التحريض على حزب الله، وتحميل سلاحه مسؤوليّةَ الانهيار الاقتصاديّ وخرابِ مؤسَّسات الدولة (بذريعة بدْعة التصوّر الأخرق بأنّ "بناء الدولة يبدأ من احتكار قرار الحرب والسلم"!).

في هذا السياق أيضًا، يتقاطع ماكرون مع حزب الله على التهدئة في لبنان. وهذا ما أحبط مُعادي المقاومة في لبنان، ودفع مجموعةً صهيونيّةً في فرنسا إلى توقيع عريضةٍ تطالب فرنسا والاتحادَ الأوروبيّ بوضع حزبِ الله على لائحة الارهاب.[2]غير أنّ ماكرون يتقاطع مع حزب الله من موقعيْن نقيضيْن:

- فالحزب يغلّب أولويّةَ التهدئة الداخليّة في إطار مواجهة المشروع الأميركيّ-السعوديّ العاملِ لمصلحة "إسرائيل" في لبنان والمنطقة، وذلك في انتظار إرساءِ معادلاتٍ إقليميّةٍ مغايرةٍ تتيح تسويةً سياسيّةً داخليّةً وموازينَ قوًى محلّية جديدة يُمْكن أن تواجهَ تحدّياتِ الإصلاح السياسيّ والتغيير الآمن. وفي هذا السبيل، يتوافق الحزبُ مع 90% من مقترحات ماكرون، بحسب تعبير رئيس "كتلة الوفاء للمقاومة" النائب محمّد رعد.[3]وهذه المقترحات تتعلّق بما يمكن تحقيقُه لإجراء تشريعاتٍ في شأن "الإصلاحات" الاقتصاديّة التي تسمح بالاتفاق مع صندوق النقد الدوليّ تمهيدًا لتوفير سيولةٍ ماليّةٍ في مؤتمر سيدر؛ ولإجراء تشريعاتٍ أخرى لضبط العمل المصرفيّ وتنظيمِه، وإجراء تدقيقٍ ماليّ جنائيّ لكشف الأموال المنهوبة؛ وتشريعات الكهرباء والمرفأ... لكنّ الحزب يرفض التلويحَ بتنازلاتٍ سياسيّةٍ بذريعة ترسيم الحدود مع سوريا، ويعترض على وصفات صندوق النقد التي تمسُّ الوظيفةَ العموميّة ورفْعَ الدعم، ويعترض على زيادة الضرائب على الفئات الشعبيّة.

- ماكرون، من جهته، يتّفق مع الحزب على تأجيلِ بحث مسألةِ سلاحه، وعلى نزعِ فتيل الانفجار الأمنيّ والسياسيّ بإجراءِ ما يمكن إجراؤه لحلحلة الاستعصاء. فهو يحاول النفاذَ من خروم الشبكة الأميركيّة في الوقت الضائع، أملًا في إنشاء موقعِ قدَمٍ فرنسيّ في لبنان من أجل عودة فرنسا إلى المشرق العربيّ وتثبيتِ نفوذِها في شرقيّ المتوسّط. وربّما يطمح ماكرون إلى تسجيل انتصارٍ سياسيٍّ له في فرنسا، يمكن تتويجُه عبر طاولةٍ مستديرةٍ لبنانيّةٍ في باريس.

 

ماكرون يحاول النفاذَ من خروم الشبكة الأميركيّة، أملًا في إنشاء موقعِ قدَمٍ فرنسيّ في لبنان

 

ففرنسا التي كانت رأسَ حربة الغزو العسكريّ لتدمير ليبيا، بالشراكةِ مع السعوديّة وقطر والإمارات والحلف الأطلسيّ، تَخسر حربَ النفط والغاز في ليبيا، وتَخسر نفوذَها في المغرب العربيّ، ويتمدّد انحسارُ هذا النفوذ إلى منطقة الساحل والصحراءِ الأفريقيّة، على ما يدلُّ التحرّكُ العسكريُّ في مالي. وفي المقابل، يتعزّز النفوذُ التركيّ في إطار مساعي إردوغان لبعث السلطنة العثمانيّة إثر انتهاء مدّة معاهدة لوزان سنة 2023 التي أقرّت حدودَ الجمهورية التركيّة الحاليّة وحرمتْها التوسّعَ والتنقيبَ عن النفط في البحر الأسود وبحرِ إيجة مع قبرص واليونان. ولم يكن شرقيُّ المتوسّط مُدرَجًا على جدول الأعمال حينها، ولم يكن قد اكتُشف أنّه عائمٌ على بحرٍ من الغاز والنفط.

الجموح التركيّ للتوسّع والسيطرة على 80% من ثروات الطاقة في شرقيّ المتوسّط، بعد الاتفاقيّة الاستراتيجيّة مع "حكومة الوفاق" في طرابلس الغرب، لا يأخذ في الاعتبار مصالحَ فرنسا وأوروبا، بل يحاول منافسةَ روسيا والصين التي تتمدّد إلى أوروبا الجنوبيّة.

أمّا الأمبراطوريةُ الأميركيّةُ فتتراجع، وتتخبّط استراتيجيّتُها التي تتمركز على محاربة إيران وحركاتِ المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق. وفي هذا الإطار، تُركِّز إدارةُ ترامب جلَّ جهودِها في الشرق الأوسط على نفخ أسطورة "إسرائيل التلموديّة" لأسبابٍ دينيّةٍ خرافيّة، وعلى دعمها بتحالفٍ عربيّ-إسلاميّ هشّ (تعبِّر عنه دولةُ الإمارات)؛ تحالفٍ يدلّ في الوقت نفسه على هشاشة الاستراتيجيّة الأميركيّة نفسها في مرحلة صعودِ قوًى دوليّة، على رأسها الصين، لتغيير النظام العالميّ الذي تجاوزتْه التحوّلاتُ المعولمة المنذِرةُ بتغيير معادلاتِ قيادتِه الأميركيّة إثر الحرب العالميّة الثانية.

أميركا المتحالفة مع تركيا لمقارعة روسيا في سوريا وفي ليبيا، ولمحاربة نفوذِ إيران والمقاومة في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، تحاول منعَ الانزلاق إلى الحرب بين تركيا وفرنسا (أوروبا) في بحر إيجة وشرقيّ المتوسّط. لكنّ هذه المعطيات تفسح المجالَ أمام فرنسا للمراهنة على الدخول طرفًا منافسًا بين الأقوياء. فماكرون يطمح إلى إثبات وجودِ فرنسا في المنطقة ابتداءً من لبنان، أملًا في التمدّد إلى العراق ثمّ سوريا في ظروفٍ مؤاتية، بمقدار قدرة فرنسا (أوروبا) على الحلحلة السياسيّة. وهو ما يدفعها إلى النأي بالنفس عن المشروع الأميركيّ لتأجيج الحرب في لبنان وضدّ إيران وفي "مشروع الضمّ" و"صفقة القرن" أيضًا.

الدخولُ الفرنسيّ إلى لبنان بهذه الصيغة يَحدُّ كثيرًا من مراهنة جماعات أميركا والسعوديّة على التفجير السياسيّ والأمنيّ ضدّ المقاومة بذريعة "تحييد لبنان والالتزام بالشرعيّة الدوليّة." فلبنان الرسميّ، الملتزم بـ"الشرعيّة الدوليّة" في عدم التعامل مع الدولة السوريّة، قد تَفتح له "الشرعيّةُ الدوليّةُ" الفرنسيّة (الأوروبيّة) نافذةَ هواءٍ نظيفٍ مع سوريا عبر مسارٍ طويلٍ نحو مجارٍ اقتصاديّةٍ تتحكّم فرنسا بإدارته. وربما تفتح مسارًا آخرَ مع العراق من لبنان أيضًا. لكنّ هذه "الشرعيّة" الفرنسيّة (الأوروبيّة) تقطع الطريقَ على حملات بعض أركان منظومة الفساد والانهيار الساعية إلى التفجير والكونفدراليّة إذا بقيت الإدارةُ الأميركيّةُ تخشى الذهابَ إلى مغامرةٍ عسكريّةٍ ضدّ إيران والمقاومة لمصلحة "إسرائيل."

على أنّ الحلحلة الفرنسيّة في لبنان لا تجترح المعجزات، ولا تطمح إلى مواجهة كلّ الأزمات البنيويّة اللبنانيّة المستعصية. جلُّ ما يسعى إليه ماكرون في لبنان راهنًا هو التهدئة وإطفاءُ فتائل الألغام، أملًا في التقاط الأنفاس. وهو أمرٌ جللٌ في ظروفٍ سياسيّة واقتصاديّة مأساويّة، تهدّد باندثار الدولة وبحروبٍ بيْنيّةٍ طاحنة.

في هذا السبيل يصوّب ماكرون جهودَه على الإمساك بإدارة المال، العصبِ السياسيّ والاقتصاديّ في بلد الانهيار. فهو يشترط تنصيبَ زملائه اللبنانيين من المصرفيين ورجالِ المال والأعمال، كسمير عسّاف ورودولف سعادة، في مواقع إدارة مصرفِ لبنان، بالصلة والتنسيق مع مصرفِ فرنسا المركزيّ، لإجراء تدقيقٍ ماليّ جنائيّ، ولإعادة هيكلة القطاع. كذلك يشترط تنصيبَ زملاء آخرين في مواقع ماليّةٍ وإداريّةٍ حسّاسة من أجل تغيير فوضى النهب الذئبيّ والفساد غير الشفّاف بنهبٍ "منظّم" وفسادٍ "شفّاف" عبر استيلاء الشركات الأجنبيّة، ولا سيمّا الفرنسيّة، على خصخصة قطاعات الكهرباء والمرفأ وغيرها.[4] 

وفي أيّ حال، فإنّ هذه الإجراءات تلبّي رغبةَ بعض "منصّات الشارع." وربّما تجد الطبقةُ السياسيّةُ نفسَها مرغمةً على التنازل عن بعض مغانم النهب والفساد تحت وطأة استفحال الأزمات.

 

المقاومة الاجتماعيّة لمواجهة أزمات ما بعد التهدئة

فترةُ التهدئة الموعودة، قصرتْ أو طالت، تسمح بالتقاط الأنفاس، ولا تغيّر من أزمات النظام اللبنانيّ ومنظومةِ الحكم. على العكس من ذلك، تؤدّي "الإصلاحاتُ" الاقتصاديّة إلى المزيد من الديون وخرابِ قطاعاتِ الإنتاج الضعيفة، على الرغم من "تنظيم" فوضى الفساد والنهب الذئبيّ في خصخصة الكهرباء والأملاكِ العامّة، و"تنظيم" المصارف والقطاع الماليّ بإشراف ماكرون والبنكِ المركزيّ الفرنسيّ.

فمنظومة الحكم اللبنانيّة لا يمكن التعويلُ عليها لإجراء أيّ إصلاحاتٍ سياسيّة. ولا يمكن التعويلُ على تغيير موازين القوى في صراعها على السلطة، من دون معادلات إقليميّة-دوليّة جديدة. لكنّ التيّارات السياسيّة الوطنيّة والشبابيّة، والجمعيّاتِ الأهليّة، الناشطةَ في حراك غضب الشارع، تقع في المأزق نفسِه إنْ هي عوّلتْ على التغيير "من فوق،" وعلى المشاركة في السلطة "من أجل الاصلاح" عبر الانتخابات النيابيّة، استنادًا إلى ذلك الغضب.

تدخُّلُ ماكرون يُثْبت مرّةً أخرى أنّ النظام السياسيّ في لبنان وفي أيّ بلدٍ آخر، ولا سيّما ركيزته في السياسة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة، هو جزءٌ لا يتجزّأ من تحوّلات المنظومة العالميّة التي تسيطر فيها المنظومةُ الاقتصاديّةُ النيوليبراليّة (ما يُعرف في لبنان بـ"السياسة الحريريّة" مع وثيقة الطائف منذ العام 1989). ومعها تسيطر الثقافةُ السياسيّةُ النيوليبراليّة التي تغزو مستشاري منظومة الحكم و"الخبراء والمختصّين والتكنوقراط،" وتغزو أيضًا معظمَ النُخب السياسيّة والثقافيّة التي تعوِّل على "الإصلاح من فوق."

فالثقافة السياسيّة النيوليبراليّة الطاغية تغذّي أوهامَ المراهنة على منظومة الإنتاج النيوليبراليّ إذا جرى "تحسينُ" أداء الطبقة السياسيّة بـ"الشفافيّة،" والنهبِ "المنظَّم" عبر الشركات والاستثمار الأجنبيّ والمحلّيّ، و"الحوكمةِ الرشيدة" عبر الانتخابات، أملًا في تنظيم ذئبيّة النهب والفساد بفسادٍ اقتصاديّ وسياسيّ "قانونيّ" و"شرعيّ." وهذا ما دعت إليه، بشكلٍ أو بآخر، بعضُ منصّات الحَراك في لبنان، جريًا على ما تعبِّر عنه "مطالبُ الشارع" في العراق والجزائر والسودان، متأثّرةً بالثقافة السياسيّة المذكورة.

إنّ الحلقة المفرغَة التي تدور فيها التيّاراتُ الوطنيّةُ والمعارضاتُ الشبابيّة والأهليّة في مواجهة أسباب الخراب، سواء كان ذئبيًّا أو منظّمًا، يمكن كسرُها من خلال العمل على رؤًى أخرى لديناميّة "التغيير من تحت،" أيْ في قاعدة الهرَم الاجتماعيّ، من أجل تفكيك أسباب ذلك الخراب وتغييرِ نتائجه التي تهمِّش الفئاتِ الاجتماعيّةَ الشعبيّةَ والمتوسّطةَ الواسعة وتسحقها. وهذا يتمّ بالآتي:

أ - التحرّر من أسطورة النموّ التي ترتكز على حريّة الرأسمال الكبير الأجنبيّ والماليّ، من أجل سراب "الازدهار الاقتصاديّ" و"زيادة الدخل القوميّ" بذريعة توزيع عائداته على كلّ الفئات عبر السلطة والدولة. والحال أنّه لا بدّ من رؤيةٍ مغايرةٍ لهذه الخديعة من أجل تحييد الفئات الشعبيّة عن محدلة السراب، وذلك عبر المقاومة الاجتماعيّة، بهدفِ تنظيم أسباب معاش هذه الفئات وسبُلِ عمرانها في أنماطِ حياةٍ إنسانيّة، خارج اللهاث وراء جزرة "آليّات السوق الدوليّة" والوصفات النيوليبراليّة.

ب - المقاومة الزراعيّة لتغيير أسباب الفقر والتهميش في أنماط الإنتاج الكيماويّ المُعَدّ للتصدير، والاعتماد على الإنتاج الطبيعيّ العائليّ والتعاونيّ من أجل الغذاء المحلّيّ الصحّيّ.

ج - المقاومة الصناعيّة لتحييد الصناعات الصغيرة والحِرَفيّة، والصناعاتِ الغذائيّة الطبيعيّة، عن دكتاتوريّة الأسواق الرأسماليّة الكبيرة المتوحّشة، في تجارةٍ متكافئةٍ عادلة، حيث لا يستطيع الإنتاجُ الرأسماليُّ الكبير منافستَها للقضاء عليها؛ وكذلك لإعادة إحياء البذور البلديّة والسمادِ الطبيعيّ وأدواتِ مكافحة الحشرات التقليديّة.

د - مقاومة أسباب تدمير البيئة الطبيعيّة وتبديدِ المياه والتربة بالسموم والتلوّث. فالإنتاج الرأسماليّ الكبير لا يَحسب كلفةَ الخسائر البيئيّة التي تُودي بحياة مئات الآلاف من الأطفال والمسنّين والشباب بأمراض السرطان وغيرها، وهو يراكم على الناس وعلى المحيط الحيويّ ديونًا إيكولوجيّةً تتجاوز في لبنان أضعافَ الديون الماليّة وإفلاس الخزينة من العملة الصعبة.

ه - المقاومة الثقافيّة في مواجهة ثقافة الخراب النيوليبراليّ الفكريّ والسياسيّ التي تُغرق المجتمعاتِ بأنماطِ استهلاكٍ بذيءٍ من السِّلَع والأفكار المسمومة، وبالفساد الذي تنثره الطبقةُ السياسيّة وطبقةُ الريع والمال لتغطية نهبها بتعميم الفساد.

إنّ المراهنة على التغيير السياسيّ "من فوق،" عبر السلطة والانتخابات، وعبر "ضغط الشارع،" لم تولَدْ بالسليقة والفطرة مع ولادة الدول ونُظُمِ الحكم. وهي ليست مراهنةً أبديّةً، بل رؤيةٌ فكريّةٌ ونضاليّة في مرحلة تاريخيّة محدّدة ومحدودة في المكان والزمان. لكنّ الثابت هو أنّ التغيير مرهون على الدوام برؤى ونضال القوى الاجتماعية التي يلبّي التغييرُ مصالحَها وأسبابَ المعاش وسبُلَ العمران. ولكلّ مرحلةٍ تاريخيّةٍ رؤًى فكريّةٌ وعمليّةٌ ودولٌ ورجال.

بيروت

 


[1]راجع على سبيل المثال وثيقة "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2012 عمّا سمّته "مرحلة الانتقال الديموقراطيّ" في اليوم الذي يلي سقوطَ الأسد.

[2] وقّع العريضةَ رئيسُ الوزراء السابق مانويل فالس، ووزيرُ الصحّة السابق فيليب دوست بلازي، وآني جنينيفارد نائبةُ رئيس الجمعيّة الوطنيّة سابقًا، مع 25 آخرين يبحثون عن "التعويم السياسيّ."

[4]راجع مقال جان دومنيك مرشو في مجلة أوبنيون الفرنسيّة، عدد 15 آب/أغسطس 2020.

قاسم عزّ الدين

كاتب صحفيّ من لبنان. باحث مختصّ بسياسات البدائل. خرّيج جامعة السوربون ومدرسة الدراسات العليا في باريس.