فنزويلّا ونظريّة الأمن القوميّ الإسرائيليّة
24-02-2019

 

على مدار العقود السبعة الماضية مرّت نظريّةُ الأمن الإسرائيليّة بعدّة متغيّرات، وذلك بحسب قوّة "إسرائيل" وقوّةِ أعدائها والأراضي التي تحتلّها أو تنسحب منها. إلّا أنّ ثمّة أبعادًا للنظريّة ظلّت ثابتةً منذ أن حدّدها مؤسِّسو الكيان. أهمُّها: العلاقةُ مع الولايات المتّحدة كقوّة عظمى؛ والقدرةُ على ردع العدوّ حتى لا يفكّر في الحرب؛ ونقلُ الحرب خارج حدود الكيان الصهيونيّ. زد على ذلك: مبدأ المجال الحيويّ الإسرائيليّ، الذي أُضيف في مرحلةٍ لاحقة، بعد تجاوز المخاوف الإسرائيليّة الأنظمةَ العربيّة، وبعد ظهور عدوّ استراتيجيّ من خارج دول الطوق، وهو إيران.

 

إسرائيل وأمريكا اللاتينيّة

تُعرَّف أمريكا اللاتينيّة بأنّها القارّةُ الأكثرُ تأييدًا للقضايا العربيّة، والأكثرُ إدانةً للجرائم الإسرائيليّة. إلّا أنّ الأمر لم يكن كذلك منتصفَ القرن الماضي، في أعقاب تأسيس الكيان الصهيونيّ. فالأنظمة اليمينيّة في أمريكا اللاتينيّة جعلتْ من القارّة حديقةً خلفيّةً للولايات المتّحدة، وكانت داعمةً لإسرائيل. وظلّ هذا الدعمُ إلى أن وصل اليسارُ إلى السلطة، وبدأت الدولُ اللاتينيّة تتّخذ مواقفَ منحازةً إلى الفلسطينيّين، بل عدائيّةً تجاه إسرائيل أحيانًا، كما فعلتْ كوبا عندما قطعتْ علاقاتِها بالكيان سنة 1973.

ومع صعود هوجو تشافيز، الزعيم الاشتراكيّ المؤمن بالتكامل اللاتينيّ، ووصولِه إلى السلطة في فنزويلّا سنة 1998، أصبحتْ كراكاس عاصمةَ الثورة الاشتراكيّة، ورأسَ حربة العداء للرأسماليّة الأمريكيّة، وطليعةَ عواصم التضامن مع القضايا العربيّة. والحقيقة أنّ تشافيز، الذي طالما أعلن عن شعوره بأنّ دمَه عربيّ،[1] نجح باقتدارٍ في قيادة الأنظمة اليساريّة في القارّة اللاتينيّة نحو تأييد المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة، ونحو دعم إيران التي ربطتْه بزعيمها أحمدي نجاد علاقةٌ خاصّة، ونحو إدانة "إسرائيل" بل قطع العلاقات معها أيضًا. كذلك عرفتْ هذه الدولُ تحوّلًا في سياساتها تجاه الولايات المتّحدة، إذ لم تعد حديقةً خلفيّةً لها، وإنّما ندًّا يسعى إلى كسر نفوذها. وهذا ما وحّد المصالحَ بين واشنطن وتل أبيب.

بعد 8 سنوات من قطع فنزويلّا علاقتَها بإسرائيل، وقبل عامين بالتمام والكمال من قراءتكم هذا المقال، وبالتحديد في مارس 2017، أعلنتْ وزارةُ الخارجيّة الإسرائيليّة أنّ خطّتها للعاميْن 2017 و2018 تتضمّن استئنافَ علاقاتها الدبلوماسيّة مع 4 دول في أمريكا اللاتينيّة "تتبنّى خطابًا معاديًا للإسرائيليّين ومؤيِّدًا للفلسطينيّين." هذه الدول هي: كوبا، التي قطعتْ علاقاتِها بـ"إسرائيل" في أعقاب حرب 1973؛ ونيكاراجوا، التي قطعتْ علاقاتِها بها عام 2010؛ وبوليفيا وفنزويلّا، اللتان قطعتا علاقاتهما بها سنة 2009.

الخطّة ذاتها تحدّث عنها مديرُ عام وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة في ذلك التوقيت، يوفال روتيم، قائلًا إنّ "الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع الولايات المتّحدة تقع على رأس خطّة الوزارة، التي تصنِّف إيران في ذات الوقت بأنّها الهدف الاستراتيجيّ الأوّل لإسرائيل."[2]

 

فنزويلّا ونظريّة الأمن الإسرائيليّة

بعد 6 شهور من إعلان الخطّة الإسرائيليّة، قام رئيسُ الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو بزيارةٍ تاريخيّةٍ إلى عددٍ من الدول اللاتينيّة، وأعلن: "إنّنا نقوم حاليًّا بتطوير العلاقات مع قارّة أمريكا اللاتينيّة، التي تشكّل كتلةً كبيرةً تضمّ دولًا ذاتَ أهميّةٍ بالغة."[3] وبعد عام ونصف تقريبًا اندلعت الأزمةُ الأخيرة في فنزويلّا، وهي الأزمة التي تعاملتْ معها تل أبيب بمفاهيم "أمنها القوميّ."

تتطلّع تل أبيب إلى الأزمة الفنزويليّة الحاليّة باعتبارها فرصةً لحصار "الدائرة القريبة،" وهو مصطلحٌ في نظريّة الأمن الإسرائيليّة يُطلق على الملفَّين الفلسطينيّ واللبنانيّ. وهي تطمح إلى وقف دعم كراكاس السياسيّ لهذه الدائرة، وتطمح إلى أن تكون هذه فرصةً لتوثيق العلاقة بالإدارة الأمريكيّة التي تمثّل السندَ الأكبرَ للكيان الصهيونيّ، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا. وتأمل في أن تكون كذلك فرصةً لإضعاف العدوّ الاستراتيجيّ لـ"إسرائيل،" المتمثّل في إيران.

وإيران، "رأسُ حربة محور الشرّ" في نظر الولايات المتّحدة والكيان الصهيونيّ، تقف الآن بقدمين راسختين في "حديقة أمريكا الخلفيّة،" بحسب مصطلح واشنطن، فتسعى هذه الأخيرة إلى إعادة طهران سيرتها الأولى. إنّ الحديث الأمريكيّ - الإسرائيليّ لم يعُد عن استثماراتٍ إيرانيّةٍ في فنزويلّا بمليارات الدولارات، ولا عن مشاريع مشتركة مع القطاعين الحكوميّ أو الخاصّ، بل يتجاوز ذلك إلى تعاونٍ استخباراتيّ وعسكريّ، بين فنزويلّا وإيران و"حزب الله" اللبنانيّ.

والحقيقة أنّ العلاقات الإيرانيّة - الفنزويليّة وصلتْ إلى مرحلةٍ من التحالف منذ ما يزيد عن العقد ونصف العقد، وهي علاقةٌ كانت كفيلةً بإزعاج الولايات المتّحدة و"إسرائيل" على حدّ سواء. ففي آب 2006، وجّه تشافيز، خلال زيارةٍ تاريخيّةٍ له إلى طهران، حديثَه إلى رئيس إيران آنذاك، محمود أحمدي نجاد، قائلًا: "نحن معك ومع إيران إلى الأبد. كلّما ظللنا متّحدين، استطعنا النصرَ على الإمبرياليّة. أمّا إذا لم نقف معًا، فسينجحون في هزيمتنا."[4]

لقد نجح الزعيمان في تجاوز الخلافات الإيديولوجيّة والعقائديّة والسياسيّة بين بلديهما، وصاغا تحالفًا على مستوى البلدين، استمر وتعزّز حتى بعد رحيل نجاد عن كرسيّ الرئاسة، ورحيل تشافيز إلى عالمٍ آخر.

 

تشافيز قاد الأنظمة اليساريّة في القارّة اللاتينيّة نحو تأييد المقاومتين الفلسطينية واللبنانية ودعمِ إيران

 

إسرائيل على خطّ الأزمة الفنزويليّة

في تصريحٍ إلى قناة فوكس نيوز الأمريكيّة، نهاية شباط/فبراير الماضي، قال وزيرُ الخارجيّة الأمريكيّ، مايك بومبيو: "لا يعرف الناسُ أنّ لدى حزب الله خلايا نشطةً، وأنّ لدى الإيرانيين تأثيرًا على شعب فنزويلّا، بل في جميع أنحاء أمريكا الجنوبيّة أيضًا." وفي السياق نفسه، ادّعى النائبُ الفنزويليّ المعارض، أمريك ودي جراتثيا، في تصريحات لصحيفة انفوباي الأرجنتينيّة، أنّ حزب الله "يسيطر على أكثر من منجم للتنقيب عن الذهب في ولاية بوليفار، مثل منجم لاس روسيتاس."[5]

الحقيقة أنّ حصول المعارضة على الدعم الأمريكيّ والإسرائيليّ يقتضي اتخاذَ إجراءاتٍ حاسمةٍ ضدّ وجود إيران وحزب الله في فنزويلّا.[6] والأمر قد لا يكون سهلًا في ظلّ العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة الوثيقة بين الأطراف الثلاثة (نظام مادورو، إيران، حزب الله)، لكنّه مصلحة مشتركة بين الأطراف الثلاثة الموجودة على الطرف الآخر (الولايات المتّحدة، "إسرائيل،" سلطة غوايدو): سلِّمْنا فنزويلّا مُتأمْركةً ومتأسْرلةً وخاليةً من الوجود الإيرانيّ وغيرَ داعمةٍ لحزب الله وللفلسطينيّين، نمنحْكَ اعترافًا ودعمًا!

لا يستطيع أحد أنّ يجزم إذا كانت الأعلامُ الإسرائيليّة التي رُفعتْ في مظاهرات داعمة لرئيس الجمعيّة الوطنيّة خوان غوايدو ضدّ الرئيس مادورو، في كراكاس، رسالةً إلى تل أبيب، أمْ تتويجًا لثمرة نشاط إسرائيليّ - فنزويليّ معارض سعى ولا زال إلى تغيير النظام في فنزويلّا. لكنّ الثابت أنّ الرسالة الصادرة عن تل أبيب كانت أكثرَ وضوحًا: إسرائيل تعترف بغوايدو رئيسًا موقّتًا لفنزويلّا.

بالوضوح ذاته، سارع خوان غوايدو إلى إعلان سعادته بالاعتراف الإسرائيليّ، وأكّد أنه سيسعى إلى إصلاح العلاقات مع تل أبيب، بعد أن قطعتْها كراكاس قبل عقد من الزمان تضامنًا مع الفلسطينيّين. وقال غوايدو، في تصريحات لصحيفة إسرائيل اليوم: "يسعدني أنّ أعلن أنّ عمليّة إرساء العلاقات مع إسرائيل بلغتْ ذروتَها، وأنّ إعلانًا رسميًّا عن إعادة العلاقات مع إسرائيل وفتح سفارة جديدة لفنزويلّا هناك سيحدث فى الوقت المناسب."[7]

 

   السفير الإسرائيليّ الأسبق في القاهرة، يتسحاق ليفانون: هناك مصلحة إسرائيليّة في صعود حكم جديد في فنزويلّا

 

مصلحة إسرائيليّة

في مقال في صحيفة إسرائيل اليوم، أكّد السفير الإسرائيليّ الأسبق، يتسحاق ليفانون، أنّ هناك "مصلحة إسرائيليّة في صعود حكم جديد في فنزويلّا." وأضاف: "العداء الشديد من جانب فنزويلّا لإسرائيل، وتسكّعُ زعيميها الأخيرين مع أعدائنا، لا يتركان مكانًا كبيرًا للتردّد."[8] وأكمل:

"هناك جانبٌ مهمّ على نحو خاصّ بالنسبة إلى إسرائيل، وهو وجود حزب الله في فنزويلّا. فالعلاقة الشخصيّة، التي سادت بين الرئيس السابق هوجو تشافيز ورئيس إيران السابق محمود أحمدي نجاد، شقّت الطريقَ لوجود حزب الله في بلادِ محرِّرِ أمريكا الجنوبية، سيمون بوليفار... سلطاتُ فنزويلّا أغمضتْ عيونها، وسمحتْ لأذرع المنظّمة الأخطبوطيّة بالعمل."

وتابع ليفانون أنّ تغيير السلطة في فنزويلّا سينقذ الدولةَ من "الأزمة التي علقتْ فيها بقيادة شافيز ومادورو،" وسيؤدّي إلى "التضييق على خطى حزب الله في فنزويلّا،" وسيجعل الأخيرةَ تنضمّ إلى البرازيل والأرجنتين و بارغواي وكولومبيا في صراعها ضدّ حزب الله في جنوب أمريكا."

من دون تهويل أو تهوين، لعبتْ تل أبيب دورًا في الأزمة الفنزويليّة انطلاقًا من نظريّة أمنها القوميّ. فالمكاسب التي ستحصل عليها "إسرائيل" كثيرة ومتعدّدة: إضعاف الدعم السياسيّ والماديّ الذي قد يصل إلى الفلسطينيّين أو حزب الله؛ وإضعاف الدائرة البعيدة في "المجال الحيويّ الإسرائيليّ" حيث طهران هي العدوّ الأول؛ كذلك إضعاف تأييد المنظّمات الدوليّة للفلسطينيّين في مواجهة الكيان الإسرائيليّ؛ وفتح أسواق جديدة في القارة اللاتينيّة للمنتجات الإسرائيليّة، ولا سيّما السلاح.

احمد بلال

صحفيّ مصريّ متخصّص في الشأنين الفلسطينيّ والإسرائيليّ. عمل في عدد من الصحف المصريّة والعربيّة، ويعمل حاليًّا في صحيفة المصريّ اليوم، ويرأس تحرير موقع إسرائيل الآن الإلكترونيّ.