ماهر اليماني: الرجل ــ الفكرة/ مقدمة ملف
28-03-2019

 

في تاريخ الصراع العربيّ - الإسرائيليّ العديدُ من الفصائل الثوريّة، وهناك أيضًا العديدُ من العائلات الثوريّة.

عائلةُ اليماني إحدى أبرز هذه العائلات.

من هذه العائلة ظهر أحدُ أوائل شهداء الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، الشهيد محمد اليماني. ومنها تخرّج القائدُ التاريخيّ أبو ماهر اليماني، الذي تناوبت الأنظمةُ العربيّة على اعتقاله خمسًا وخمسين مرّةً بسبب نضاله من أجل فلسطين، واعتُبر في مرحلةٍ من المراحل من المستهدَفين الأوائل على قائمة الاغتيالات الصهيونيّة. ومنها أيضًا صديقُنا القائد الراحل ماهر اليماني، الذي قارعه العدوُّ منذ بدايات شبابه، ولم يتوقّفْ عن ذلك، حتى لفظ أنفاسَه الأخيرةَ بعد صراع مرير مع المرض، ولسانُ حاله ما قاله خالد بن الوليد على فراش الموت: "ما في جسدي موضعُ شبرٍ إلّا وفيه ضربةٌ بسيفٍ، أو رميةٌ بسهمٍ، أو طعنةٌ برمح. وها أنا ذا أموت على فراشي... فلا نامت أعينُ الجبناء!"

***

أنْ تَنشأ في عائلة اليماني، فهذا نصفُ طريقِكَ إلى قمّة النضال. لكنْ أن تستهلَّ يفاعتَكَ وفتوّتَك وأنت عضوٌ فاعلٌ ومقاتلٌ في حركة القوميين العرب، ثمّ أن تمضيَ سحابةَ عمركَ الباقي وأنت عضوٌ كاملُ التفاني في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وأنْ يكونَ صديقُكَ خالد أبو عيشة أوّل شهيدٍ في الثورة الفلسطينيّة الحديثة، ثمّ "تتثقفَ" على يد غسان كنفاني، وتكونَ أحدَ المقاتلين الأساسيين في "المجال الخارجيّ" في جهاز وديع حدّاد، والابنَ الروحيَّ والمُرافقَ اليقظَ الأمينَ للحكيم جورج حبش؛... فذلك يعني أنّكَ قد أتممتَ نصفَ طريقِك/دينِك الآخر، وتربّعتَ على ذروة مراتب النضال.

***

حين نكتب عن ماهر، فنحن نكتب عن فكرة: فكرةِ تحرير فلسطين، كلِّ فلسطين، من نهرِها الى بحرها، بشوارعِها وحاراتها، وسهولِها ووديانها، وبرتقالها وزيتونها. ولكنّنا حين نكتب عنه فإنّما نكتب أيضًا عن رجلٍ - فكرةٍ: عن رجلٍ جسَّد فكرةً، وناضل في سبيلها، وتمسّك بثوابتها، ولم يتنازلْ عنها في أحلكِ الظروف وأصعبِها. الحديثُ عن رجلٍ - فكرة يعني الحديثَ عن اقتران الفكر بالفعل طوال عشرات السنين من النضال، بحُلوها ومُرِّها، بانتصاراتها وهزائمها، بشهدائها وجرحاها،  بمناضليها ومناضلاتها.  الحديث عن رجل - فكرة يعني الحديثَ عمّن أسلمَ الروحَ وهو على ما نشأ عليه من إيمانٍ بجمال البدايات. ويعني الحديثَ عمّن لم يتذرّعْ، يومًا أو لحظةً، بالحجج الواهية كي يبرِّر التنازلات، والاستسلامَ، والخيانة. ويعني الحديثَ عمّن تحمّلَ شظفَ العيش، وعذابَ السجون، وإهاناتِ السجّانين، وعاش حالةً كاملةً من نكران الذات، في سبيلِ ما يؤمن به. ويعني أن يرى بعضَ "قادة" الأمس وقد أصبحوا عملاءَ اليوم، لكنّه يبقى واقفًا شامخًا، يتحيّن اللحظةَ المناسبة كي يضربَ عدوَّه من جديد ويعيدَ إلى الثورة ألقَها، وإلى الفلسطينيين ثقتَهم بأنفسهم مهما تلبّدتْ غيومُ غربتهم.

والحديث عن "الرجل - الفكرة" يعني الحديثَ عمن قضى نصفَ حياته متنقّلًا بين المخيّمات، يدور على أُسَر الشهداء والجرحى، ليساعدَهم ويخدمَهم ويشدَّ أزرَهم، ويبثّ فيهم الأملَ بأنّهم حتمًا "سيعودون إلى سحماتا وفلسطين" كما كان ماهر يقول.

الحديث عن "ماهر – الفكرة" يعني أن نتحدّث عن رجلٍ تعرّى من كلّ شيء، تقريبًا كلِّ شيء، إلّا من  فلسطين والكرامة.

***

وحين نكتب عن ماهر، فنحن أيضًا نكتب عن جيله، أو عن جيلٍ سبقه بسنواتٍ قليلة. هذا الجيل بدأ من الصفر، على كلّ الصعُد، الماديّةِ والمعنويّةِ والعمليّاتيّة، لكنّه تسلّح بالحماسة والوطنيّة، وبنى نفسَه بالقراءة والنضالِ والتجربةِ والعمل، حتى فرض احترامَه على الجميع، ومثّل علاماتٍ منيرةً على مستوى المقاومة والفكر والفنّ والشعر: من الحكيم، إلى وديع، فأبي ماهر، وغسّان، وناجي، وكمال عدوان، وكمال ناصر، وأحمد الخطيب. هو جيلٌ لم يَهَبِ اجتراحَ الخطط، ولا اقترافَ الخطأ أحيانًا، لأنّه كان يعْلم أنّ طريقَ فلسطين تستدعي الإبداعَ والتجديدَ، وربّما المجازفةَ والمغامرةَ القاتلة، ما دام الهدفُ واضحًا: أن تعيشَ الأجيالُ القادمةُ على أرض فلسطين عربيّةٍ ديمقراطيّةٍ حرّةٍ أبيّة.

***

في لحظات موت الأحباب والقادة الأفذاذ، تتقدّم العاطفةُ على العقل، ونذرف الدموعَ السخينةَ عليهم، ونشعرُ بفقدانِ توازنٍ كامل. لكنّنا لا نلبث أنْ نهدأ، ونتأمّلَ، ونقولَ ما علينا قوله، ونخطِّطَ للاستمرار  من بعدهم.

تخيّلوا معي ماهرًا بعد رحيل كلِّ مَن رافقهم سنواتٍ أو عقودًا، بأيّامها ولياليها، وشاطرهم المتراسَ والخندقَ والملجأَ والسجنَ والتعذيبَ، أو قادهم ورافقهم في دروب التخفّي عن عيون العدوّ وكلابِ الأنظمة. تخيّلوه بعيْد فقدانه لأخيه أحمد، ولقائده وديع، ولرفيقه غسّان، ولمِثاله الحكيم. تخيّلوا حجمَ الحزن الذي اجتاح قلبَه وغشيَ عينيْه. والآن، فكّروا كيف تصرّفَ بعد غيابهم. ماهر مسح دمعتَه وأكمل طريقَه/طريقَهم. ماهر لم يتخلَّ عن  بداياته، ولا عن أحدٍ منهم، بل ازداد رسوخًا وصمودًا وقناعةً أنّ فلسطينَ هي الأبقى، وأنّ تحريرَها لا يكون إلّا بالمزيد من الثبات والتخطيط والتضحية والنضال والحبّ والالتصاق بالشعب وخدمتِه.

حقًّا، إنّنا نحيا أصعبَ فترات حياتنا. لكنّ الهزيمة ليست قدرًا. وأحدُ عناصر النصر المأمول هو تسليطُ الضوء على كلّ نقطةٍ مُشرقةٍ نراها في طريقنا الطويل: على كلِّ مَن صمد، وقاتل، ودافع عن وطننا وشعبنا وأمّتنا. ومن هذا المنطلق، فإنّ من واجبنا أنْ نكتبَ عن ماهر اليماني، وخالد أبو عيشة، وغيفارا غزّة، ووديع حدّاد، وعن الصمود الأسطوريّ في بيروت صيف العام 1982، وعن صدّ عدوان تمّوز 2006.  فأن نكتبَ عن ذلك كلّه يعني أن نسهم في بناء جيلٍ لا يخجلُ من ماضيه، ولا يهاجرُ إلى "هويّةٍ" جديدةٍ هجينةٍ ربّما صنعها غُزاتُه وقاتلوه ومستعمِروه! وإذا كان لنا أن نبنيَ أمّةً تزهو بنفسها بين أمم الحاضر والمستقبل، فينبغي أن نعتزّ بقناديلِ ماضينا، وخصوصًا برجالٍ ونساءٍ جسّدوا أبهى أفكار الحريّة والكرامة.

دمشق

لقراءة الملف كاملًا: انقر هنا. وقد شارك فيه:  
بسّام حمودة خليل، بشير أحمد عاصي، بومدين الساحلي، جهاد، حسن كسر (أبو عُبادة)، خالد الراهب، خالد اليماني، زهراء الطشم، زينب شمس، سامي سماحة، سهيل الطشم، سيف الدين العائدي، صلاح صلاح، ضحى شمس، فاتن المرّ، عاصم أبو ضرغم، عصام اليماني، علي صابر محمّد، مجدولين درويش، ملاك خالد، نجاح واكيم.

خالد الراهب

مواليد دمشق . 1971. تخرّج من كليّة الهندسة الميكانيكيّة عام 1996 - اختصاص تصميم وإنتاج. مقيم في دمشق.