ما بعد الإسلام السياسيّ: الإسلام والغربنة الشاملة
02-05-2019

 

الإسلامويّة في سياق حضاريّ

مُحَيـِّرًا يبدو المشهدُ الإسلاميُّ الراهن لأيّ راغبٍ في خوض بحار تفاصيله المتشعّبة. فالباحث في الشؤون الإسلاميّة اليوم يجد نفسَه أمام متاهةٍ حقيقيّةٍ من حيث كثرة الاختلافات، وتعارُض التوجّهات، والتنازع في تحليل الأسباب التاريخيّة، وصولًا إلى تكوين فهمٍ يُجمل الوضعَ الحاليّ للإسلاميين - تيّاراتٍ وجماعاتٍ ودولًا.

وإذا كان المسلمون قد أكثروا الاختلافَ بينهم، فإنّ غيرَ المسلمين، في محاولات فهمهم للإسلاميين، لم ينقصوا عنهم اختلافًا. لكنّ ما يميِّز كتاباتِ "الغربيين" تحديدًا هو عدمُ إهمالهم الحالةَ الإسلاميّةَ في الغرب، والتأثيرَ الغربيَّ ــ بجميع أشكاله السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة ــ في صناعة المشهد الإسلاميّ الحاليّ. من هنا، فإنّ بعض المفكّرين والباحثين الغربيين تمكّنوا من تكوين نظرةٍ عميقةٍ ودقيقةٍ في مقاربة قضايا أساسيّة مرتبطة بالثقافة الإسلامية، وتأثير الغرب فيها، وعلى رأسها ما سمّاه الغربيّون: "الإسلام السياسيّ."

يقدّم صامويل هنتينغتون، في كتابه الشهير صِدام الحضارات، قراءةً مختزلةً لمظاهر الحضارة الإسلاميّة. فمع إقراره بالاختلافات الواضحة على مختلف الصعد بين المنتمين إلى الإسلام في العالم، فإنّه يُصرّ، عند قراءته للمشهد العالميّ، على إجمال المسلمين في كتلةٍ واحدة، ويبني تبعاتٍ سياسيّةً كبرى على هذا الأساس.

وهو يذهب إلى أنّ مجموعة عوامل مادّيّة مسؤولة عن مختلف الظواهر الإسلاميّة الحاليّة. فهو، مثلًا، يعزو الانضواءَ تحت الشعارات الإسلاميّة الكبرى، لا سيّما الجهاديّة، إلى التزايد الضخم في أعداد المسلمين مقابل ضعف الإمكانات الاقتصاديّة الناجمة عن عدم مجاراة التطوّر الاقتصاديّ الغربيّ؛ ما أنتج (في رأيه) أعدادًا ضخمةً من مُعاني البطالة الذين وجدوا في الجهاد والشعارات النضاليّة مصدرَ أقواتهم ومَفرَغَ طاقاتهم.

ولكنّ هنتينغتون يرى أنّ الغرب لم يوفِّر، هو أيضًا، فرصةً لاستهداف المسلمين ومصالحهم، وذلك ضمن مشروع عولمةِ حضارتِه الغربيّة والحفاظِ على تفوّقه الحضاريّ ومَأسَسَة العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا ضمنَ المؤسّسة الغربيّة العابرة للقارّات. وتُوّج ذلك كلّه في الفترة الأخيرة بافتقاد ما كان يشكّل، في القرن المنصرم على الأقلّ، نقطةَ التقاء مصالح الغرب بالإسلاميين، ألا وهو "التهديدُ الشيوعيّ." وأضيف، إلى ذلك، الانكشافُ الثقافيُّ المتبادل، الناتجُ من تطوّر وسائل التواصل بشكل ضخمٍ ساهم في تظهير الاختلافات الكبرى بين الإسلام والغرب، ما أذكى نارَ الصراع "المحتوم" على كلتا الجبهتين.[1]

وكان قد سبق هنتينغتون إلى فهم طبيعة الصراع العالميّ ذاك المنظِّرُ السياسيُّ الأميركيّ بنجامين باربر، في كتابه الجهاد في مقابل عالم الماك. يشير بنجامين إلى حضاراتٍ مازالت تتضمّن مفاهيمَ القبيلة والتديّن من خلال كلمة "الجهاد،" وإلى حضاراتٍ أخرى تحمل مفاهيمَ العولمة والليبراليّة والرأسماليّة من خلال كلمة "ماك ورلد" (عالم الماك) ـــ وهو مصطلحٌ مستوحًى من سلسلة المطاعم الشهيرة ماكدونالدز، التي مثّلتْ أواخرَ القرن الماضي رمزًا أساسيًّا من رموز العولمة الغربيّة.[2] لكنّ هذا الرّأي، الذي نال حظًّا وافرًا من الشُّهرة تحليلًا ومناقشةً، خصوصًا بين المثقّفين العرب، قابلتْه آراءٌ رفضتْه مستَنَدًا لاستشراف المستقبل العالميّ، لكنّها لم تحظَ بالشهرة نفسها على المستوى الدعائيّ.

نوام تشومسكي، اللغويّ والمفكّر السياسيّ الأميركيّ الشهير، يرفض رأيَ هنتنغتون ونظرائه إلى حدٍّ كبير، ويَعتبر أنّ مفهوم "صِدام الحضارات" يحتاج إلى تطوير لأنّه يفتقر إلى العمق والتفصيل، خصوصًا في مسألة العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة التي تربط أهمَّ دول الغرب بالدول الإسلاميّة. يقول تشومسكي في محاضرةٍ له في جامعة هارفرد 1998، أيْ بعد بضع سنوات على ظهور ذلك المفهوم وردًّا على سؤال عن الغرب والحرب على الإسلام:

"إنّ أكبرَ دولة إسلاميّة أصوليّة، وأعني العربيّة السعوديّة... هي من أكبر حلفائنا. هل نحن أصلًا بصدد محاربة العربيّة السعوديّة؟ طبعًا لا، فهم يتربّعون على مصادر نفطنا. في الحقيقة هم ليسوا حلفاءَ بل تابعون لنا، ونحن نحرص على إبقاء ديكتاتوريّتهم العائليّة في الحكم لأنّهم يحرصون بالمقابل على ألّا تذهب أموالُ النفط إلى شعوب المنطقة العربيّة، بل إلى نيويورك ولندن. فإذًا، هم جيّدون بالنسبة إلينا، ولا يوجد معهم صراعُ حضارات، على الرغم من كونِهم أهمَّ دولةٍ إسلاميّة أصولية!"

أمّا القوى الإسلاميّة المتشدّدة والمتطرّفة من غير الدّول، فقد نالَتْ، هي الأخرى، حظَّها الوافرَ من دعمِ الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي تمثّل رأس حربة الغرب. يقول تشومسكي: "لقد نالت القاعدة ومثيلاتُها في الثمانينيّات أكثرَ من 6 مليارات دولار على الأقلّ، كدعمٍ من حكومات الولايات المتحدة، من جيب كلّ مواطنٍ أميركيّ يَعتبر نفسه حضاريًّا في صراع مع الإسلام." ويُكمل متسائلًا: "أين هو صِدامُ الحضارات إذًا؟ أندونيسيا دولة إسلاميّة، ومعدّلُ الأجور فيها يقارب نصفَ معدّلات الأجور في الصين ومتدنٍّ جدًّا، فلماذا لسنا في صراعٍ معها إذًا؟ لا بدّ من مقاربة جديدة للمسألة."[3]

يرى تشومسكي، والعديدُ من المفكّرين اليساريين المناهضين للقوى الرأسماليّة الغربيّة وسياساتها الإمبرياليّة، أنّ المسلمين اليوم يمثّلون كبشَ فداءٍ في معركة الغرب من أجل استكمال فرض سيطرته على العالم، وأنّ مئاتِ آلاف المسلمين الذين ماتوا ولا يزالون يموتون كلّ يومٍ في مختلف أصقاع العالم (من غابات أفريقيا، وحدود آسيا الشرقيّة، حتّى مشارف أوروبا)، خلال بضعة عقود مضت، هم ضحايا لـ"توحّشٍ جديد،" تمثِّل فيه الولاياتُ المتّحدة والغربُ خَلَفًا للنازيّة الجرمانيّة المريضة. والمسلمون اليوم، في رأي العديد من أولئك المفكّرين، هم مطيّةُ القوى الغربيّة حيثما شاءت موطئَ قدمٍ في هذا العالم: ترمي بهم مُفتعلةً صراعًا طائفيًّا أو عرقيًّا أو مناطقيًّا، في حربٍ يكون استمرارُها من عدمِه بيَدِ نادي أميركا وشركائها، بهدف التوسّع السياسيّ - الاقتصاديّ أوّلًا وآخرًا؛ فتدعم هذا تارةً، وترفع دعمَها عن ذاك في أخرى، وتختم بالحضور مباشرةً في ساحة الصراع تحت غطاء "فضّ الاشتباك وإحلال السلام."

 

نالَتْ القوى الإسلاميّة المتشدّدة والمتطرّفة حظَّها الوافرَ من دعمِ الولايات المتّحدة الأميركيّة

 

إنّ ما يهمّ الولاياتِ المتّحدة هو أن تبقى المنطقةُ العربيّة والإسلاميّة قطعةً صغيرةً ضمن اللوحة التركيبيّة للرأسماليّة العالميّة، التي تسعى إلى وضع اليد على ما أمكنها من الموارد، ضمانًا لاحتكار الصناعات وأدوات الإنتاج. والمعلوم أنّ منطقتنا مصدرٌ ضخمٌ للمواردِ النادرةِ المستعملة من قِبل الشركات الكبرى في الصناعات الستراتيجيّة وما "فوق الستراتيجيّة،" مثل مادتَي اليورانيوم والبلوتونيوم المستخدمتيْن في المفاعلات والأسلحة النوويّة وشبهِ النوويّة، ومعادن الـ"تِن" والـ"كولتان" والذهب والنحاس والـ"كوبالت،" وغيرها من المعادنِ التي أصبحت تُعرف بـ"موارد الصراع،"[4] وتُستخدم بمعظمها في الصناعات الميكانيكيّة والإلكترونيّة الدقيقة والمتطوّرة، المتمركزة بثقلها في منطقة وادي السيليكون في كاليفورنيا، حيث تجمُّع الشركات الصناعيّة الحديثة في ما بات يُعرف بـ"المركز الاقتصاديّ الجديد" للولايات المتحدة.

إنّ العالم، في نظر الرأسماليّة الغربيّة المتوحّشة، لم يعُد "ساحةَ صراع" بالمعنى التقليديّ، بقدر ما أصبح "سوقًا كبيرةً" للإنتاج السلعيّ الذي يرْشح به الغربُ على شعوب العالم الآخر ـــ وهذا الإنتاج أضخمُ من أن يُحصى بالأرقام، إذ إنّ ميزانيّات مجموعة من الشركات الكبرى اليوم (مثل سيسكو سيستمز وآبل ومايكروسوفت وبوينغ ولوكهيد مارتن) تفوق ميزانيّاتِ دول قارّة أفريقيا كلّها.[5] هذا "التوحّش" في الإنتاج يحتاج إلى سوقٍ تجعلُ له قيمةً شرائيّةً؛ ولذلك وجب على هذه الشركات العملُ على إقناع المجتمعات المستهلِكة بقيمةِ في ما تستهلكه من بضاعة الغرب "المتفوّق." هكذا، نجح الغربُ في إفراغ الحضارات الأخرى من مكوّناتها ومميّزاتها التي تَحُول دون تحويلها إلى مجتمعات استهلاكيّة، بينما استثمرتْ بقوّة في الميزات الأخرى التي تضمن الحدَّ الأقصى من الاستهلاك والانبهار بـ"سحْرِ أهلِ الشمال."

يقترب فرانسيس فوكوياما، المفكّرُ الأميركيّ اليابانيّ الأصل، من المقاربة الهيغليّة للتاريخ، حين رأى حتميّةً لا بدّ أن تتوِّج سيرَ البشريّة الطوليَّ نحو مصيرها النهائيّ. ولكنّ مبدأ تطوّر "مفهوم الحريّة،" الذي استند عليه هيغل، مسخَه فوكوياما إلى ليبراليّةٍ تمثِّل أساسَ البناء الاقتصاديّ القائم على الاستهلاك معيارًا يقيس حريّةَ الفرد في آخر التاريخ. فإنسانُ العالم الأخير، بحسب فوكوياما، يعيش أرقى مراحل إنسانيّته في ممارسة الحريّة الاقتصاديّة عبر التفرّغ للعمل الاقتصاديّ في المجتمع ــ استهلاكًا وإنتاجًا ــ مستنفِدًا كلَّ ما وجده من موارد طبيعيّة.

طبعًا غاب عن ذهن فوكوياما أنّ أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية كانت مضربَ مثلٍ لليأس الشعبيّ العامّ من تبنّي خيارات عِرقيّة لم تجلبْ لها سوى الدمار والتخلّف وملايين القتلى والجرحى خلال أقلّ من ثلاثة عقود. وغاب عن ذهنه أيضًا أنّ العالم في التسعينيّات، حين أصدر كتابه الشهير، نهاية التاريخ البشريّ والإنسان الأخير،[6] كان يعيش لحظة سقوطِ القطب الشيوعيّ، وتفرّدِ القطب الرأسماليّ الأميركيّ في التأثير في الشعوب. وغاب أيضًا عنه أنّ كلّ ملاحظاته التي أثمرتْ فكرة أنّ الليبراليّة "المجيدة" هي أقصى ما يمكن أن تنتجه  البشريّة، إنّما  هي وليدةُ لحظة انتشاءِ غربٍ رأى في نفسه وحيدَ زمانه فاختالَ تيهًا. ولم يُبالِ فوكوياما بأنّ حضارةَ أوروبا الجديدة ورفاهيّةَ شعوبها قامتا على نهب ثروات القارّات الأخرى وشعوبها، لا سيّما القارّة الأفريقيّة التي ذاقت العذابَ على يد المستعمِرين البريطان والبلجيك والبرتغاليين والإيطاليين والفرنسيين والإسبان وغيرهم حتّى منتصف القرن الماضي.

هنا تصبح الدولة، التي يُختصر دَورُها في رعاية الحريّة الاقتصاديّة المُطْلقة للمواطنين المستهلِكين، الإلهَ البديلَ للدِّين، الذي باتَ تاريخيًّا "منتهيَ الصلاحيّة" بحسب منظِّري الحداثة هؤلاء. وهنا تصبح الدولُ الإسلاميّة مضربَ المثل الأكبر في عمليّة الغربنة الشاملة التي تجري فيها على قدم وساق بأقصى طاقتها حتى يومنا هذا.

 

الأسلمة والتجهيل الحضاريّ

تمرّ الدول الإسلاميّة ــ العربيّة وغيرها ــ بأزمة هويّة كبيرة لم تبدأ مع انهيار السلطنة العثمانيّة وتحويل تركيا من خلافة إسلاميّة إلى دولة علمانيّة، وإنْ تفاقمتْ أعراضُها بعد النصف الثاني من القرن المنصرم.

خلال الستينيّات والسبعينيّات، عمدتْ أندونيسيا الى "فَرم" عشراتِ آلاف الشيوعيين بسيوف مواطنيها المسلمين، بمباركة الولايات المتحدة وهدايتها؛ وهو ما فتح البابَ واسعًا أمام تغلغل الرأسماليّة الغربيّة داخل الجسد الإسلاميّ غير العربيّ. هكذا، أصبح النظامُ الإسلاميّ في أندونيسيا مرعيًّا من المخابرات المركزيّة الأميركيّة وبديلًا من حكم السوفيات. في المقابل، كان على النظام الجديد بذلَ النفس مقابل الحماية الأميركيّة. فنشأ زواجٌ بين الإسلام والرأسماليّة المتوحّشة، ساهم بقوّةٍ في تحييد مئات ملايين المسلمين الآسيويين عن كلِّ ما يمتّ إلى الإسلام الأمميّ بصلةٍ، ما عدا الصلاةَ والصيامَ وفروعَ الدين المتوافقة مع القيم المدنيّة. هكذا صار كثيرٌ من المواطنين المسلمين في أندونيسيا يتغنّوْن بـ"الديمقراطيّة" التي جلبها لهم رجلُ الأمن الأمريكيّ؛ وبات "الجهاد" في الانضمام إلى الجيش؛ وأصبحت الثورةُ الإسلاميّة على الشيوعيّة نصرًا إلهيًّا ويومًا من أيّام الله في أندونيسيا!

 

اعدمت أندونيسيا عشراتِ آلاف الشيوعيين بسيوف مواطنيها المسلمين، بمباركة الولايات المتحدة

 

وحين رأت دولُ الجوار ــ ماليزيا على سبيل المثال ــ آيةَ أندونيسيا، هرعتْ ناشدةً حظَّها من قسمة الأرزاق الأميركيّة - "الإلهيّة." فدخلتْ منطقةُ جنوب آسيا الإسلاميّة في دين الغرب أفواجًا!

أمّا في منطقتنا العربيّة، فلم يتأخّر الأميركيُّ في البحث عن رعايا له. وسرعان ما وجدهم في قبيلةٍ جمعتْ حولها تحالفًا من قبائلَ أخرى أسسّتْ مملكةً، في محاولةٍ هي الثالثة لهذه القبائل خلال أقلّ من قرنيْن لحكم الجزيرة العربيّة بدعم غربيّ. وبعد أن كان قادةُ هذه القبائل، خلال الفترة السابقة، قد وُوجهوا من قِبل قوًى عربيّةٍ (أبرزُها مصر في حكم محمّد علي باشا) قضت على "دولتهم،" تمكّنوا من على متن البارجة الأميركيّة كوينسي سنة 1945 من إضفاء "شرعيّة" كبرى على حكمهم، بعد استحصال شيخهم عبد العزيز آل سعود ــ الذي صار ملكًا ــ على مباركة الرئيس الأميركيّ روزفلت، ومن ثمّ نظيره البريطانيّ تشرشل.

سيطر السعوديّون على الجزيرة الحاوية مقدّساتِ المسلمين، فيما سيطر الصهاينة على فلسطين تباعًا، وهجّروا ساكنيها، بمعاونة المنظّمات الصهيونيّة العالميّة وحكوماتِ أوروبا. شغل الخطرُ العسكريّ الإسرائيليّ العربَ، أو بعضَهم على الأقلّ، منذ ذلك الحين. ولكنّ الخطر الإسرائيليّ كان رأسَ جبل الجليد فقط. فلقد تولّى الأميركيّون والبريطانيّون والغربيّون عمومًا تنفيذَ الجانب العميق - الناعم من المشروع من خلال السيطرة على المقدّسات الإسلاميّة.

تُعتبر تجربةُ ضابط الاستخبارات البريطانيّ جون فيلبي، في اختراق البيئة الإسلاميّة الداخليّة في النصف الأوّل من القرن الماضي، من مؤشّرات الخطر الكبير الذي كان يجتاح الإسلامَ حضاريًّا منذ ذلك الحين. فقد تمكّن "الحاج عبد الله فيلبي" (الذي غيّر اسمَه بعد إعلان إسلامه) من كسب ثقة العائلة السعوديّة الحاكمة، وترقّى في عدّة مناصب، إلى أن صار مستشارًا شخصيًّا لهم، فساهم بشكل كبير في تأسيس شركة أرامكو، وفي استخراج براميل النفط السعوديّ الأولى، ورسَمَ (كمستشار) سياساتِ المملكة الاقتصاديّةَ الأولى بحكم معرفته بطبيعة الاقتصاد العالميّ وقوانينه. وكان هو نفسُه وكيلَ شركة فورد للسيّارات في الجزيرة العربيّة، ومُدخِلَ أولى السيّارات الأميركيّة إليها. وقد تَوّج فيلبي سيرتَه بتولّيه، في الخمسينيّات، إمامةَ الحرميْن الشريفين، فاستمع المسلمون إلى مواعظ رجل الأعمال والمخابرات "الشيخ جون" الدينيّة والأخلاقيّة، وصَلّوا في الكعبة بإمامَتِهِ المباركة سنتين![7]

لا بدَّ من معرفة هذا السياق التاريخيّ لكلِّ مَن يُسائل نفسَه بعجَبٍ عن ارتماء بعضِ قادة المسلمين اليوم في الأحضان الغربيّة. ولعلّ ما يحصل في تونس والسعوديّة والإمارات العربيّة إرهاصاتُ انقلابٍ نوعيٍّ ينتظر المسلمين، لا يكون وليدَ توجّه سياسيّ أو منطلِقًا من عمل تنظيمات أو أُطر واضحة، بقدرِ ما يرجع إلى حالة عامّة بلغها المسلمون اليوم في فهم علاقتهم بالغرب ومفاهيم حضارته المنتشرة حتّى في أتفه تفاصيل نمط الحياة الاستهلاكيّ والفردانيّ الحاكم.

 

تمكّن "الحاج عبد الله فيلبي" من كسب ثقة العائلة السعوديّة، وترقّى في عدّة مناصب

 

الإنشاد الإسلاميّ مثالًا، في سياق ثقافيّ واقتصاديّ متحوّل

يُعتبر الفنُّ أكبرَ معبّرٍ عن المخزون الثقافيّ والحضاريّ لأيّ جماعة، وإحدى أبرز الأدوات الكاشفة عن مضمون أدبيّاتها وطبيعة توجّهاتها. إنّ نظرةً بسيطةً إلى حال النشيد الإسلاميّ اليوم، مقارنةً بسبعينيّات القرن الماضي وثمانينيّاته، تَختصر مشهدَ الحضارة الإسلاميّة كلّها. فمَن يسمع أناشيدَ تلك الحقبة، فترة ازدهار النضال الإسلاميّ الأمميّ وخطابِ الخيارات الكبرى،[8] ويُقارنها بما تُنتجهُ أكثرُ الجهات التزامًا وأصوليّةً، يُدرك حجمَ الورطة التي بلغتْها مهرجاناتُ الغناءِ الإسلاميِّ في أوروبا، وفرقُ "الأناشيد الحلال،" ومنشدو الحالة الإسلاميّة ("سامي يوسف ستايل"). كانت الأناشيدُ الإسلاميّةُ في مختلف أقطار البلاد الإسلاميّة تُعتبر تعبويّةً من حيث الكلمات واللحن والتوزيع، فتَحْمل المسلمَ القابعَ في بيته على التماهي مع الثائرين في كلّ أصقاع الأرض، والتأثُّرِ بإخلاصهم لقضيّتهم الإسلاميّة، والرغبة في مشاركتهم أعمالَهم الجهاديّةَ العظيمة ضدّ الغزاة أو المحتلّين "الكفّار." كان يكفي، على سبيل المثال، أن يسمع مسلمٌ في بيروت نشيدَ المقاومة الإسلاميّة "لقّمْ رشّاشَك حاربْهم... أغرقْهم في لُجَجِ النّار" حتّى تعتريه رغبةُ القيام بعمليّةٍ ضدّ العدوّ الصهيونيّ في جنوب لبنان بدوافعَ دينيّةٍ، مضافةٍ إلى دوافعه الوطنيّة. كان الفنُّ الإسلاميّ، إذًا، وعلى رأسه الإنشاد، منظومًا في إطار المشروع الإسلاميّ الكبير، ومنخرطًا بقوّة في السياسة الإسلاميّة العامّة، وهي "جهادُ أعداء الأمّة الإسلاميّة المحتلّين،" أكانوا روسًا في أفغانستان، أمْ هنودًا في كشمير، أمْ صهاينةً في فلسطين ولبنان، مع اختلاف المقاربات السياسيّة الجزئيّة. لقد كان المشهدُ العامُّ واحدًا: فحين اغتال الصهاينةُ السيّد عبّاس الموسويّ، قائدَ المقاومة الإسلاميّة في لبنان، سنة 1992، رُفعتْ صورُه وسط شوارع إسطنبول، وأُسْدلتْ له صورةٌ كبيرةٌ على حائط جامعتها، وأقفل الطلبةُ الإسلاميّون الجامعة حدادًا؛ كذلك حين اغتال الإسلاميّون في مصر الرئيس أنور السادات، رُفعتْ صورُ خالد إسلامبولي في وسط طهران وسُمِّي شارعٌ باسمه؛ هذا على الرغم من الفارق اللغويّ والجغرافيّ والمذهبيّ بين لبنان ومصر وتركيا وإيران.

اليوم، يمجِّد النشيدُ الإسلاميّ قيمَ الليبراليّة، لكنْ بنكهةٍ إسلاميّة. "الغناء الإسلاميّ" يتمحور اليوم حول مشاعر المحبّة والشهوة "الحلال" بين الزوجيْن؛ فبدلًا من أن يتغزّل عاشقٌ بعشيقته في الأغنية "الحرام،" يتغزّل الزوجُ بزوجته "بالحلال،" واصفًا إيّاها بمضمونٍ محافظ. وقد يعبّر الغناءُ الإسلاميُّ اليوم أيضًا عن الخيانة الزوجيّة، ويتناول قضايا وظواهرَ سلبيّة بغيّة إظهار سيّئاتها. كلّ هذا ليس موضوعًا للنقاش، بل المهمّ في الأمر أنّه جاء بديلًا من الفنّ الإسلاميّ المنخرط سياسيًّا واجتماعيًّا على مستوى الإسلام كدين ونهضة حضاريّة شاملة للأمة، لا كأفراد مسلمين فحسب.

لقد أعاد الغربُ إنتاجَ مفاهيم الليبراليّة والمدنيّة والفردانيّة لتتلاءم مع طبيعة المجتمع الإسلاميّ، وطرَحَها في سوق المسلمين، فسارع أكثرُهم إلى تلقّفها بعطشِ قرونٍ من قحط مشاعر الدونيّة أمام الغرب. واليوم، تُظهَّر هذه القيمُ الجديدة على أنّها النسخةُ الأحدثُ من فهم الإسلام بشكلٍ يتناسب ومقتضى حال زماننا هذا، فيصبح من يدعو إلى سواها أو إلى التشكيك في أصالتها متخلّفًا رجعيًّا عدوًّا لتقدّم الإسلام ولو كان عالمًا مناضلًا، ويصبح الداعي إليها معشوقَ الجماهير ولو كان ممثّلاً ساخرًا. إنّها النسخة الغربيّة من الإسلام التي سمّاها باتريك هايني: "إسلامَ السوق." في هذه النسخة يصبح الدينُ متمحورًا حول رفاهيّة الأفراد، وتأمينِ حقوقهم الاستهلاكيّة، مع حريّة المحافظة على الشكل الإسلاميّ، إذ كلّ مفهوم إسلاميّ تُصنع له سلعةٌ مناسبةٌ تمسخُه فلا تُبقي منه إلّا شكلَه. من حجابات نايكي، وإيشاربات إيلي صعب وشانيل، وصولًا إلى تسليع المرأة المحجّبة في تقديمها للجمهور "مودِيلًا" يغزو الإعلاناتِ والطرق، تبدو الشواهدُ عديدةً على التحوّل المطّرد في قيم المجتمعات الإسلاميّة وثقافتها.

بعد هذا العرض لعيّنةٍ من أحوال الإسلام اليوم، لا يعودُ العجَبُ في محلّه، إذا ما قارنّاه بما تفعله السياساتُ الكبرى لخدّام الإمبرياليّة في بلادنا. إنّ ما يقوم به نظامُ محمّد بن سلمان من تحويل "ديار الإسلام والخلافة" ــ حسب الثقافة الإسلاميّة النجديّة ــ إلى "واحة الديمقراطيّة والمدنيّة"[9] في الشرق الأوسط ما هو إلّا محاولةُ استباقٍ لحال المسلمين المهترئة من الناحية الحضاريّة، وملاقاةٍ للكارثة في منتصف الطريق لكي تكون له دعوى الأسبقيّة إلى إنجازِ ما حَلمتْ به عيونُ روزفلت وتشرتشل في ساعات الأمل.

المسألة تبدو معقّدةً بعض الشيء. والإسلام ــ بوجهه الأصوليّ أو المدنيّ ــ يبدو طيّعَ الاستخدام والتوظيف، ما لم يُبِنِ المسلمون هويّتَهم الثوريّةَ التحرريّة. حتّى ذلك الحين، يبدو أنّ كلَّ ما يشي بالقدرة والاستقلاليّة الثقافيّة والاختلاف عن النموذج الغربيّ محلَّ استهدافٍ وتوهين.

بيروت


[1] تلخيص وترجمة كاتب المقال لأهمّ النقاط التي أوردها هنتنغتون في باب "الإسلام والغرب" في الفصل التاسع "صدام الحضارات: السياسات الكبرى" من كتابه المعنوَن صِدام الحضارات: إعادة إنتاج النظام العالميّ (النسخة الإنكليزية):

Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (Simon and Schuster, 1996)

[2] في الأصل نشر باربر مقالًا بعنوان "الجهاد في مقابل عالم الماك" سنة 1992، ثمّ حوّله إلى كتابٍ نشره في 1996. التلخيص الوارد هنا هو فهمٌ من الكتاب بنسخته الإنكليزيّة ومترجم من قِبل كاتب المقال. النسخة الإنكليزية من الكتاب:

Benjamin Barber, Jihad Vs Mcworld: How Globalism and Tribalism Are Reshaping the World (Ballantine Books, 1996)

[3]من تسجيل صوتيّ منشور على موقع يوتيوب لمحاضرة تشومسكي في جامعة هارفرد تحت عنوان "البروباغندا والسيطرة على عقول الناس،" 1998.

[4] موارد الصراع (conflict resources): هي مواردُ جُلّها في بلاد الجنوب الفقيرة، وذاتُ أهميّة كبرى على صعيد الصناعات النوعيّة. برزتْ أهميّتُها قبل الحرب العالميّة الأولى، وقامت دول الاستعمار الأوروبيّ بما يشبه تشغيلَ الشعوب بالسخرة للتنقيب بالطرق البدائيّة غير المكلفة عن هذه المعادن. أدّت إلى حروب أهلية أنتجتْ أعدادًا ضخمة من المشرّدين والقتلى والمعوّقين، ومن أبرز أمثلتها بورما والكونغو.

[5] يقدَّر مجموعُ رأسمال شركة آبل وحدها أكثرَ من تريليار دولار أمريكي.
المصدر: https://www.investopedia.com/articles/active-trading/111115/why-all-worlds-top-10-companies-are-american.asp

[6] Francis Fukuyama, The End of History and The Last Man (Free Press. 1992)

[8] نقصد بـ"النضال الإسلاميّ الأمميّ" ذلك النضالَ الذي كان مرتبطًا بمسائل "عابرة للحدود،" بحكم كونيّة الرؤية الإسلاميّة عند معتقديه. أمّا "الخيارات الكبرى،" فهي الخيارات التي تطاول الإنسان في بعده الحضاريّ وموقفه السياسيّ والأخلاقيّ من سياسات النظام الدوليّ وغيرها من الأمور.

[9] Patrick Haenni, L’islam de Marché, 2006
تُرجم إلى العربيّة تحت عنوان: إسلام السوق

هادي حطيط

كاتب لبنانيّ. درس اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة اللبنانية الأميركيّة. مهتمّ بقضايا الأقليّات واللغات القديمة وشارك في إنجاز عدّة دراسات حول القضايا الاجتماعيّة والأدبيّة والتاريخيّة في المنطقة العربيّة. ينجز حاليًّا كتابًا حول أدب العزاء في جبل عامل في القرن الثامن عشر كتحقيق لإحدى أقدم مخطوطات العزاء اللبنانيّ المُكتشفة حديثًا.