يوم في حياة طبيب
29-04-2021

 

(قصّة من وحي تجربة ٍشخصيّة)

 

أمسك بهاتفه النقّال ليطّلعَ على نتائجِ فحوصه، بينما راح يسعل بشدّة، واضعًا منديلَه الورقيَّ على فمه. تغيّر لونُ وجهه لمّا رأى التقرير. لكنّ زوجتَه، المصابةَ مثلَه بالكورونا، باغتتْه حين دخلت الغرفةَ حاملةً فنجانَ زهوراتٍ جبليّةٍ كانت أمُّه، التي لا يراها إلّا نادرًا، قد جمعتْها بنفسها.

- تفضّلْ حبيبي. كيف حالكَ الآن؟

نظر في وجهها. تذكّر كم مضى من الوقت بلا ساعةٍ هادئةٍ يغازلُها فيها. عام؟ ربّما أكثر! لاحَظَ أنّها سعيدةٌ هذه الأيّام، على الرغم من إصابتها بالوباء، الذي انتقل إليها عن طريقه. كان قد أراد استئجارَ بيتٍ له وحده، لكنّها رفضتْ. بل رفضتْ أن يعزلَ نفسَه في البيت، قائلةً: "اللي بدّو يصير عليك بيصير عليّ."

"لا بأس، ما تزال فتيّةً، ستصرع المرضَ إنْ شاء الله." هكذا حدَّث نفسَه، متعمّدًا تجاهلَ مشكلة الربو التي تعانيها.

- أراكَ شاردًا، حبيبي. فيمَ تفكّر؟

ثمّ طبَعَتْ قبلةً فوق جبينه، محاولةً التخفيفَ عنه.

"عشرة ملايين ليرة مجموعُ ما أحصّلُه نقدًا كلَّ شهر. والباقي مستحقّاتٌ في صندوق المستشفيات والضّمان الاجتماعيّ والوزارة، ربّما ستصلني حين يصبح الدولارُ بعشرين ألفَ ليرة." حدّث نفسَه.

- ماذا كنتَ تقرأ على الهاتف، حبيبي؟

لم يجب. لكنّها لم تيأسْ.

- لا تنسَ، حبيبي، أنّ إيلي سيتخرّج من الثانوية العامّة هذا العام. هل قرّرتَ إلى أين سنرسلُه كي يكون طبيبًا لامعًا مثلك؟

حاول أن يجاريَها بابتسامة. "إلى إيطاليا كما كان يحلم،" أجاب. ثم تذكّر العشرة ملايين ليرة التي تكاد لا تكفي احتياجاتِ عائلته. "إذا استمرّ الوضعُ هكذا، فكلُّ دخلي لن يتعدّى ألفيْ دولار. هل أستطيع بهذا المبلغ تعليمَه الطبَّ؟" ثمّ خاطبها ممازحًا:

- ولماذا عليه أن يكون طبيبًا؟ ما رأيُكِ بالموسيقى؟

نظرتْ اليه باستغراب؛ فكلُّ عمره وهو يقول إنّ الطبَّ مهنةٌ سامية، ولطالما شجّع ولدَه على دراستها، ونصحه باختيار الاختصاص العلميّ في المرحلة الثانويّة تمهيدًا لذلك.

فكّر جورج: "أفنيتُ عمري في الطبّ. 12 ساعةً في اليوم، عدا حالات الطوارئ. قلتُ لنفسي إنّني أخدم الإنسانيّة، وأجني بعض المالَ لأولادي كي يحقّقوا به ما يريدون ويستمتعوا بالحياة عوضًا منّي. جمعتُ عدّةَ آلافٍ من الدولارات، لكنْ لا قدرةَ لي على استردادها من البنك. واشتريتُ شقّةً بمئتيْ ألف دولار، فصارت تساوي أقلّ من نصفِ ثمنها."

- جورج، أنظرْ إلى هذا الدفتر.

نظر إلى ما بين يديها، فرأى صورَ ولديْهما في لقطاتٍ مختلفة.

- هنا كانت راما في الثانية، حين وجدتُها تدهن نفسَها بالسَّمْن. وهنا عثرتُ على إيلي مختبئًا في خزانة الأحذية بعد أن رمى بكلِّ ما فيها إلى الأرض.

تنهّد. سرح بعيدًا. فكّر: "لا أتذكّر أيًّا من هذه اللحظات لأنَّني لم أكن معهم. لطالما عدتُ إلى المنزل بعد العاشرة ليلًا فوجدتُهما نائميْن. ما أكبرَ ديْني لزوجتي لأنّها ربّت ولديَّ بدلًا منّي!"

تركتْ ريتا ألبومَ الصور، وراحت تمسح فوق رأسه. "أتعلم أنّني مَدينةٌ لكوفيد-19 لأنّه سلّمني إيّاكَ بعضَ الوقت؟"

وتابعتْ: "هل اطمأننْتَ إلى نتائج فحوصك يا حبيبي؟"

لم يعرفْ كيف يخبرها أنّ الفيروس قد رسم خرائطَ في رئتيْه، وأنّه لن يقضيَ أيّامَ مرضه في أحضان زوجته. فبعد قليل ستُقلّه سيّارةُ الإسعاف إلى المستشفى، حيث سيصارعُ المرضَ هناك... هذا إذا توفّر له سريرٌ في العناية الفائقة.

نظر إلى صوَر ولدَيْه مرّةً أخرى، وتساءل: "ماذا سيحصل لعائلتي إن انتصر الكوفيدُ عليّ كما انتصر على أطبّاء غيري؟"

أحنى رأسَه إلى الخلف مغمضًا عينيه، مبتسمًا لقدره، وهو يتذكّر بيانَ نقابة الأطبّاء الأخير: "رُفع تعويضُ الأطبّاء المتوفّين إلى مليون ليرة شهريًّا!"

صور

 

زينب صالح

كاتبة لبنانيّة. حائزة شهادةَ ماجستير في الإدارة التربويّة والترجمة. صدر لها: لقاء المنعطف الأخير (رواية)، فسيفساء تمّوز (مجموعة قصصيّة بالاشتراك مع عدَّة كاتبات)، سعيد والنملة (قصّة للأطفال). نُشِرَ لها عددٌ من المقالات في الصحف والمواقع الإلكترونيّة.

كلمات مفتاحية