في مسألة التطبيع مع "إسرائيل" والوضع الحسّاس لفلسطينيّي الـ48
08-11-2017

 

من فترةٍ إلى أخرى تطفو على السطح مسألةُ التطبيع مع دولة الكيان الصهيونيّ "إسرائيل،" وتستقطب صراعاتٍ سياسيّةً وفكريّةً مضطربة، يستند البعضُ فيها إلى "الصحّ المطْلق،" مقابل استناد البعض الآخر إلى "الصحّ النسبيّ،" واختباءِ بعضٍ آخر مطبّعٍ خلف السبب الأخير.

في كلّ هذه التصنيفات أعني، بشكل حصريّ، معشرَ القوميّين والوطنيّين واليساريّين والإسلاميّين الذين يصنِّفون أنفسَهم ضدّ وجود دولة الكيان أو تشريعِها، ولا أعني العملاءَ العرب ــــ من أنظمةٍ أو أحزابٍ أو مؤسّساتِ مجتمعٍ مدنيّ أو أفرادٍ يعترفون بشرعيّة وجود "إسرائيل" من منطلقٍ وطنيّ أو أمميّ أو قوميّ. فهؤلاء خارج دائرة النقاش أصلًا، وهم يعملون مع "إسرائيل" سرًّا وعلانيةً، ولا يأبهون لمواقف من قبيل رفض العدوّ أو رفض التطبيع معه، بل يمارسون خيانةَ الشعب الفلسطينيّ والأمّة العربيّة بطرقٍ مختلفة، وتحت مسوِّغاتٍ مختلفة، أصبح المكشوفُ منها يفوق المستور.

***

عند قيام دولة الصهاينة على أنقاض شعبنا الفلسطينيّ أرضًا وشعبًا سنة 1948، وبتصديقٍ وإقرارٍ من الأمم المتحدة، بقي نحو 15 % من الشعب الفلسطينيّ على أرضه، متشبِّثًا بها، رافضًا إخلاءها كما أراد الصهاينةُ، الذين أسّسوا كلَّ نظريّة هجرتهم إلى فلسطين وإقامةِ ما أسموْه "وطنًا قوميًّا لهم" على أسطورةٍ مفادُها أنّ فلسطين "أرضٌ بلا شعب" تنتظر "شعبًا بلا أرض"... أيْ اليهود!

اشتمل قرارُ الأمم المتحدة القاضي بإقامة دولة "إسرائيل" على شرطٍ يُلزم هذه الدولةَ الحفاظَ على الحقوق الدينيّة والمدنيّة والممتلكات وغيرها ممّا يخصّ الفلسطينيّين الذين بقوا على أرضهم ولم يتعرّضوا للتشريد واللجوء.

وعلى هذه القاعدة فُرض على هؤلاء الفلسطينيّين حملُ هويّة "المواطَنة الإسرائيليّة" بتدرّجيْن متعاقبيْن: هويّة حكمٍ عسكريّ حتى العام 1965، ومن ثمّ هويّة عاديّة. وهذا الأمر ينطبق، بشكلٍ أو بآخر، على مدينة القدس الشرقيّة والجولان، اللذين أعلنتْ "إسرائيل" رسميًّا ضمَّهما إليها رغم أنف العالم بأسره.

فهل فرضُ المواطَنة على فلسطينيّي الـ48  يجعلهم إسرائيليّين أو يهودًا، على ما وجدنا لدى بعض الأوساط في العالم العربيّ، وأحيانًا القوميّ والإسلاميّ؟! وهل حملُ المواطَنة الإسرائيليّة قسرًا يجعلهم يتخلّوْن عن فلسطينيّتهم وعروبتهم ودياناتهم؟! قطعًا لا.

في اتفاقيّات أوسلو تخلّى الفلسطينيّون الرسميّون عن شملهم لفلسطينيّي الـ48، وذلك من خلال "حلّ الدولة" المزعومة في الضفّة والقطاع، وهو "حلٌّ" قبلوه ولم يحقّقوه. وتخلّوْا أيضًا عن الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، الذي تحدّث عن تحرير فلسطين التاريخيّة من البحر إلى النهر، أيْ بما في ذلك تحريرُ الفلسطينيّين داخل الـ48 وضمن حدود "إسرائيل" التي قامت على 78% من أرض فلسطين. بعد ذلك فقط أعادنا أولئك الفلسطينيون الرسميون إلى مقولة "عرب إسرائيل" التي سادت حتى عام 1967، وكنّا قد انتصرنا عليها نهائيًّا بعد "يوم الأرض" سنة 1976 حين رفعنا علمَ فلسطين في الجليل والمثلّث والنقب ويافا وحيفا وعكا، وقلنا للصهاينة وللعالم أجمع إنّنا فلسطينيّون وأصحابُ هذه الأرض الأصليّون التي نعيش عليها على الرغم من اغتصابكم إيّاها.

لقد انتظر فلسطينيّو الـ48 من العام 1948 حتى العام 1967 مجيءَ "الفارس العربيّ" كي يحرّرَهم من براثن الاحتلال الصهيونيّ الفاشيّ. إلّا أنّ انتظار التحرير انقلب إلى كابوس، تمكّنتْ بموجبه دولةُ الاغتصاب من أن توسِّع من احتلالها ليَشملَ كلَّ أرض فلسطين، إضافةً إلى الجولان السوريّ وسيناء المصريّة. وحصل "التواصلُ والتفاعلُ" مع شعبنا العربيّ خارج فلسطين، ومع عروبتنا،... إنّما مقلوبًا، وبغيرِ ما تشتهي السفن.

(الصورة لمحمّد بدارنة)

***

من أجل لقمةِ العيش اضطُرّ أهلُ الـ48، منضمًّا إليهم أهلُ الضفّة وغزّة والجولان عام 1967، إلى بناء تل أبيب وكلِّ مدن العدوّ ومستوطناته. وحتى يومنا هذا، أهلُ الضفّة يبنون مستوطناتِ العدوّ على أراضيهم لأنّ سلطة دايتون لم توفِّر لهم عملًا بديلًا وعيشًا كريمًا في أراضي "دولة فلسطين" الموهومة.

ثم إنّ أهالي القدس يتقاضوْن راتبَ التأمين الوطنيّ الإسرائيليّ كما يفعل فلسطينيّو الـ48، ويَحْملون قسرًا هويّة "قاطن في إسرائيل" لا مواطن؛ كذلك التصويتُ لبلديّة القدس والكنيست إذا ما أرادوا!

ومؤخّرًا تفاخر سكرتيرُ حركة فتح، جبريل الرجّوب، الخليليّ، بأنّ ابنَه يحمل جوازَ سفر إسرائيليًّا. وتفاخرتْ بنشاطها "لجنةُ التواصل" الفلسطينيّة مع الإسرائيليّ، التي أنشأتْها السلطةُ الفلسطينيّة برئاسة عضو لجنة مركزيّة "فتح" محمد المدني.

مَن لا يعرف منّا أنّ 80 % من تجارة الضفّة الغربيّة وبضائعها هي من "إسرائيل،" وأنّ الـ20 % من الواردات المتبقّية يجب أن تمرّ عبرها؟ ومن لا يعرف أنّ مأكلَ أهالي الـ 48 ومشربَهم وطبابتَهم وتعليمَهم وعملَهم، يجب، وبالقانون، أن تكون إسرائيليّة؟

هل يمكن التعميم بالقول إنّ كلّ الشعب الفلسطينيّ مطبِّع لأنّه يعيش تحت الاحتلال عنوةً؟ أمْ أنّ الموقف والممارسة من دولة الاحتلال هما اللذان يقرِّران ذلك؟

***

أما في خصوص زيارات فلسطينيّي 48 إلى الأقطار العربيّة، فكيف تُعتبر زيارةُ فلسطينيّي 48 إلى دولة مثل الأردن ومصر اللتين وقّعتا اتفاقيّاتِ سلام مع "إسرائيل" عاديّةً، بينما تُعتبر زيارتُهم إلى لبنان وسوريا اللتين تصنّفهما "إسرائيلُ" دولتين معاديتين تطبيعًا؟!

وما الذي يقرِّر إنْ كان هدفُ زيارة فلسطينيّي 48 إلى الوطن العربيّ هو بناء جسرٍ للتطبيع مع العدوّ، أمْ هو تواصلٌ وتفاعلٌ مع الأمّة التي ينتمي إليها الفلسطينيُّ بشكلٍ عامّ وفلسطينيّو 48 بشكلٍ خاصّ؟

في الإجابة على هذا السؤال تَحْضرني حادثةٌ حصلتْ معي عندما زرتُ الجزائرَ بدعوةٍ من وزارة ثقافتها، مع وفدٍ من فلسطين 48، بمناسبة الذكرى الأربعين لانتصار ثورة الجزائر، وبواسطة الدائرة السياسيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة التي كان يرأسها الأخُ المناضل أبو اللطف، الذي استضافنا في تونس وسهّل عمليّةَ سفرنا عبر جواز سفرٍ عربيّ وكلِّ ما يَلزم لوجستيًّا.

فقبل أن أوافق على السفر هاتفتُ، من خلال صديقٍ يساريٍّ مقدسيّ، أمينَ عامّ حزب الرئيس أحمد بن بلّا، الذي لم يكن شريكًا في السلطة الجزائريّة، وشرحتُ له من أنا، وطلبتُ منه أن يبتّ في مسألة الزيارة، أهي تطبيعٌ أمْ لا، لأنّني لا أقبل أن تُعتبر تطبيعًا؛ فأنا من "حركة أبناء البلد،" لا من حزبٍ إسرائيليّ، ولا أريد أن أقعَ في فخّ التطبيع. أجابني الأمينُ العامّ: "تفضّلْ ونأمل أن نلتقيك!"

لكنْ عندما وصلتُ الجزائرَ كان مسافرًا، فواجهتُ ما كنتُ أخشاه؛ إذ نشرتْ بعضُ الصحف الجزائريّة أنّ "وفدًا إسرائيليًّا" سيحضر الاحتفال! أبلغني الفلسطينيّون بالأمر، فاعتصمتُ في غرفتي حتى تُصدر الحكومةُ الجزائريّة بيانًا يؤكّد أنّ الوفد فلسطينيّ. وهذا ما حصل.

بعدها خرجتُ من غرفتي، وشاءت الصدفُ أن ألتقي سبعةً من السفراء العرب في الفندق الذي نزلنا فيه، فتداولنا بقضيّة التطبيع وفلسطينيي 48، وكان من بينهم سفيرُ العراق في الجزائر أيّام المرحوم صدّام حسين، فقال لي: "لقد كنتُ سفيرًا في لبنان، وأعرفكم جيّدًا من خلال فلسطينيّي لبنان. إنّ حلَّ مشكلة العلاقة بكم تكمن في منظّمة التحرير الفلسطينيّة، التي يجب أن تَطرحَ الموضوعَ على جامعة الدول العربيّة بغية الإقرار بأنّكم جزءٌ لا يتجزّأ من الشعب الفلسطينيّ والأمّة العربيّة!" فأجبتُه: "أفهمُ من كلامك أنّنا إذا تركنا فلسطين اليوم للمستوطنين الصهاينة وهاجرنا إلى الدول العربيّة، فسنتحوّل عندها فقط إلى وطنيّين! جهّزوا لنا، إذًا، مخيّمات لجوء!"

أيُّ منطقٍ هو هذا؟! أيريدُ مَن ينبذنا بسبب "مواطَنتنا الإسرائيليّة" القسريّة أن نتخلّى عن أرض فلسطين لصالح الصهاينة كي يَعتبرنا "عربًا"؟

عدتُ إلى فلسطين غاضبًا، وأرسلتُ رسالةً مفتوحة إلى الراحل ياسر عرفات لتبنّي اقتراح السفير العراقيّ ــــ وهو اقتراحٌ وأدتْه لاحقًا اتفاقاتُ أوسلو، التي حوّلتنا، رسميًّا، إلى "إسرائيليّين." نعم، حصل ذلك على أيدي فلسطينيّين نناضل ونُسجَن ونُستشهد معهم!

المسألة، إذن، ليست مسألةَ انتماء جغرافيّ. فنحن الجذر الفلسطينيّ المتمسّك بأرض وطنه، ولا نقبل وطنًا سواه. نحن مستقبل القضيّة الفلسطينيّة، أسوةً باللّاجئين. وأتمنّى أن نتحوّل إلى مفتاح حلّها نضاليًّا، وبأقرب ممّا يتوقّع المتهالكون، الذين يشرعنون ــــ "فلسطينيًّا" ــــ دولةَ العدوّ الصهيونيّ، سياسيًّا وإيديولوجيًّا وممارسةً.

الموقف من وجهة نظري يجب أن يتمحور حول جوهرِ زيارة فلسطينيّي 48 إلى الوطن العربيّ، وهدفِ هذه الزيارة، وكيفيّةِ الترويجِ لها، لا حول التواصل أو التفاعل في ذاته. التواصل والتفاعل مع الوطن العربيّ يجب أن يتمّا جماهيريًّا وسياسيًّا ومؤسّساتيًّا على أساس فلسطينيّة الموقف، لا على أساس الانتماء الجغرافيّ. فإذا ذهب فلسطينيٌّ من 48 إلى بلد عربيّ بهدف ترويج مواقفَ تصبّ في خدمة اعتبار "إسرائيل" دولةً شرعيّةً وتريد العيشَ مع جيرانها بسلامٍ ووئام (بما يعني الإمعانَ في تشريع وجود هذه الدولة في المنطقة)؛ وإذا أخذ يردّد أنّ ما يَنْشدُه منها هو العيشُ على وقع برنامجه المبنيّ على أساس تحقيق "المساواة" التامّة اليوميّة والقوميّة و"المواطَنة" الكاملة مع المجتمع اليهوديّ الصهيونيّ الكولونياليّ؛ وإذا قال إنّه لا يعتبر "إسرائيلَ" محتلّةً إلّا لأراضي الضفّة الغربيّة وقطاع غزة؛ إذا قال ذلك كلَّه، فهو في هذه الحالة أبو التطبيع، ولو نفّذه بحسن نيّةٍ ومن دون قصد، وربّما بسلاسةٍ إبداعيّةٍ يُشْهر فيها "فلسطينيّتَه" التاريخيّة و"تمسّكَه بأرض الآباء والأجداد" وبـ"النضال الدؤووب من أجل الحفاظ على أراضي فلسطينيّي الداخل وهويّتهم العربيّة والثقافيّة..." كلُّ هذه الدعاوى صحيحة، لكنّها حين تتضمّن في ثناياها ــــ وعند ترويجها ــــ رفضَ تحرير فلسطين التاريخيّة، ورفضَ إنهاء دور دولة الكولونياليّة والأبارتهايد على أرض فلسطين؛  فذلك هو التطبيعُ بعينه. أوَليس تطبيعُ الذهنيّة الفلسطينيّة والعربيّة هو قبولَ "إسرائيل" والتعاملَ معها كدولة شرعيّة طبيعيّة على أنقاض شعبنا الفلسطينيّ، وكقاعدة استعماريّة متقدّمة في جسد أمّتنا العربيّة؟

لا يهمّ، إذًا، أنّك فلسطينيّ أو من 48 أو عربيّ أو مسلم أو ما شئتَ أن تكونَ هويّتُك! المهمّ أيُّ فلسطينيّ أنت، وأيُّ عربيّ أنت، وما هو موقفُكَ من دولة الكيان الصهيونيّ، من دون لفّ أو دوران أو تسويف أو تزييف أو انتهازيّة ـــ بحيث تتحدّث عند العرب بلغة، وعند الإسرائيليّ بلغةٍ مغايرة!

إنّ الذنْب في حالة التعاطي مع هذه الحالات السياسيّة داخل فلسطين 48  لا يَقتصر على تلك الحالات التي لا تُخفي هويّتَها السياسيّةَ بل تكشفها يوميًّا من خلال الإعلام الإسرائيليّ والفلسطينيّ والعربيّ الرسميّ (و"المقاوم" أحيانًا!)، بل يتعدّى ذلك إلى مَن يتعاطى معها من العرب أيضًا.

***

إنّ قضيّةَ التواصل مع فلسطينيّي 48 صعبةٌ وحسّاسة، ويجب التعاملُ معها بحذر، ومن دون تشكيك أو تخوين لمجرّد أنّهم يحملون قسرًا هويّةَ "المواطَنة الإسرائيليّة،" على الرغم من كلّ الويل الذي تجرّه عليهم هذه المواطَنة. لكنْ على هذا التواصل أن يتمّ ضمن معيارٍ سياسيٍّ واضح، يجيب على سؤال: ماذا نريد من هذا التواصل؟

والسؤال موجَّهٌ إلى طرفَي المعادلة، لا إلى طرفٍ واحدٍ فقط.

فلسطين

رجا أغبارية

الأمين العام لحركة "أبناء البلد" في الداخل الفلسطينيّ.