لا يمكن الانتقاصُ أبدًا من أهميّة العبارة الأولى في الرواية، أيَّةِ رواية. ذلك أنّ الافتتاحيّة إمّا أن تقودَنا إلى إكمال قراءة الرواية، مدفوعين بشوقٍ جارفٍ إلى معرفةِ ما سيأتي، وإمّا أن نتابعَها ببرودٍ، أو نصرفَ النظرَ عنها.
ويلجأ بعض الكتّاب في افتتاحيّاتهم إلى الغموض الموحي، الكفيلِ بإيقاظ فضول القارئ منذ العبارة الأولى. ويعمد آخرون إلى صيغة التساؤل، التي تؤدّي الغرضَ نفسَه تقريبًا. وقد يكون الحوار عند غيرهم المدخلَ الوحيدَ إلى عوالمهم. ويؤْثر آخرون الاستهلال بوصف الشخوص أو المكان أو الحقبة الزمنيّة التي تدور فيها أحداثُ الرواية.
وعلى الرغم من إدراك كتّابنا لأهميّة الافتتاحيّات، فإنّنا كقرّاء لم نعتدِ النظرَ إليها نظرةً مستقلّةً، أيْ في معزلٍ عن بقيّة عناصر الرواية. ولم نعتدِ الكتابةَ عنها. ولم نعتدْ إدخالَها إلى قائمة العناصر التي على أساسها نقوِّم العملَ الأدبيّ أو الكاتبَ نفسه.
مناسبة هذا الكلام خبرٌ في موقع تكوين عن إجراء أحد المواقع الإلكترونيّة المتخصّصة في الأدب في الغرب استفتاءً طُلب فيه من القرّاء التصويتُ لاختيار أفضل مئة افتتاحيّة روائيّة قرأوها. وقد نشر تكوين النتائجَ بعد ترجمتها، معتبرًا الأمرَ مساهمةً في ملفّ "الكتابة الإبداعيّة" بالشكل الذي يتيح للكاتب المبتدئ أن يدرسَ التقنيّات والأساليب المختلفة لأشهر الروائيّين وأنجحهم ــــ من وجهة نظر القرّاء ــــ وأنْ يستفيد منها.
ولكنّ هذه القائمة خلتْ من أيّة رواية عربيّة، مع أنّ جولةً سريعةً على ما تختزنه الذاكرةُ من روايات عربيّة تقودنا إلى افتتاحياتٍ أجمل وأعمق وأكثر قدرةً على الجذب من بعضِ ما انتُخب ونُشر من افتتاحياتٍ عالميّة. ما السبب؟
الأمر مرتبط بضعف ترجمة الروايات العربيَّة إلى اللغات الأخرى. وهذا ما يعبِّر عنه المترجمُ البريطانيّ أنتوني جوزيف كالدربانك إذ يقول إنّ القرّاء الإنجليز أصيبوا بخيبة أمل من الروايات المترجَمة من العربيَّة.
والحقّ أنّ الترجمة والنشر يحتاجان إلى موارد مادّيَّة قبل كلّ شيء. والعرب يملكون المواردَ فعلًا، ولكنّ الثقافة ليست الطريقةَ "المثلى" للاستثمار بالنسبة إلى معظمهم. وحين يُعقَد العزمُ على الاستثمار في الثقافة تكون الأولويَّة للجوائز، لا للترجمة. وإذا انتبهت الجهاتُ المعنيّة بالثقافة في بلدٍ ما إلى أهميَّة الترجمة فإنّها كثيرًا ما ترى إلى ذلك من منظار ضيّق لا يتجاوز الترجمةَ الدعائيَّة للأعمال التي تروِّج للنظام أو العائدة إلى بعض الكتاب المحظيّين لديه.
مسؤوليّة التقصير في الترجمة، إذن، تقع على طرفين. ولواضطلع "العرب" و"الغرب" بدورهما لما وجد القارئُ الغربيّ صعوبةً كبرى في تسمية روايات عربيَّة واستهلالات عربية لتكون بين ما أفضل ما قرأه من روايات واستهلالات.
هنا سنقدّم عشرة نماذجَ مميّزة من الاستهلالات الروائيّة العربيّة، مع الالتفات إلى أنّ هذه الاختيارات هي حصيلةُ قراءات فرد واحد، وخاضعة من ثمّ لذوقه. على أمل أن يبادر الآخرون إلى انتخابِ ما لفتهم من استهلالات ونشره، وبانتظار أن تتصدّى جهةٌ ما لإجراء استفتاءٍ مماثل على مستوى الوطن العربيّ.
***
الروائيّ حنّا مينه.
1 ـ "أنا زكريّا المرسنلي، لستُ راضيًا عمّا حدث، وأقسم على ذلك. ما كنتُ أريد أن يَقتل ابني، فؤاد المرسنلي، الصيّاد حسن الجربيدي، ولكنّه قتله. "
(حنّا مينه، الياطر، دار الآداب).
2 ـ "أنا لم أقتل ليلى الحايك..
أقولها لكِ أنتِ، يا ديما الحبيبة الرّائعة..
وأقولها لكم جميعًا أيضًا..
أقولها لكم جميعًا للمرّة الأخيرة، دون أن أتوقّع مردودًا لا بالجزاء ولا بالعقاب. ولذلك لا بدّ أن تكون صادقة؛ فليس ثمّة أصدق من حُكمٍ يطلقه على نفسه رجلٌ ميّت!
أنا لم أقتل ليلى الحايك."
(غسّان كنفاني، الشيء الآخر، مؤسّسة غسان كنفاني الثقافيّة).
3 ـ "يقول لي زوجتك امرأةٌ شجاعة، كأنّي لا أعرف كيف هي زوجتي! أليست ذاهبةً معي برضاها إلى الخطر؟ ومع ذلك فلعلّي لا أعرف كيف هي كاثرين. "
(بهاء طاهر، واحة الغروب، دار الآداب).
4 ـ "إنّي قد عزمتُ على الرحيل. وماذا يدعوني إلى البقاء في دنياكم تلك، بعد أن أضحيتُ في غنًى عنها وعن كلّ ما بها، وبعد أن فقدتُ كلَّ إحساس بأنّ هناك ما يربطني بها ويشدّني إليها؟"
(يوسف السباعي، إني راحلة، مكتبة مصر).
5 ـ "أيّها السّادة.. لا تصدّقوني.. أنا كذَّاب..
بلا محاكماتٍ ولا قضاة ولا حتّى اتّهامٍ يوجّه إليّ.. أنا أسلّم لكم نفسي، وأعترف بالتّهمة.. فأنا كذَّاب.. كذبت على الناس، وعلى نفسي."
(صالح مرسي، الكدَّاب، دار الجيل).
6 ـ "حين رأته مقبلًا صاحت: ألم يوقفوك بعد؟
فقال في نفسه: "يا لكِ من حمقاء! " واكتفى بتحيّتها من بعيد، مشيحًا عنها بوجهه، متجاهلًا سؤالَها الأهوج. ثم دلف إلى البيت حيث تهاوى على مقعدٍ قديم، وأغمض عينيه ناشدًا الراحةَ والدفء. "
(حنّا مينة، الثلج يأتي من النافذة، دار الآداب).
7 ـ "كان عرسي فانتازيا جهنميّة بكلّ ما للكلمة من معنى. أوّله بهجة، وأوسطه اضطراب، وآخره... "
(فتح الله عمر، حوريَّة السراب، دار بلومزبري)
8 ـ "لتكن بدايةً بائسة. إسمعْ، لستُ بريئةً كما أبدو. أنا أدخّن في الحمّام، وأتعاطى الوهمَ طوال الوقت، وأصادق القطط، وأغوي رجالًا لا يعجبونني، فأنتقم بذلك من الرّجال الذين أعجبوني ومَضو.ا"
(نهى حمّود، هلاوس، دار روافد).
الكاتب الليبيّ إبراهيم الكوني.
9 ـ "بالأمس كنتُ فأر كُتبٍ، واليوم أنا فأرُ جدران. أيَليق بفأر الكتب أن يتنازل عن كبريائه ليتقمّص بَدَن فأر جدران؟"
(إبراهيم الكوني، فرسان الأحلام القتيلة، دار الصدى).
10 ـ "خَسئتْ روحي، فانزلقت للإجرام بخطىً واثقة."
(عبده خال، ترمي بشرر، منشورات الجمل).
بيروت