السينما الفلسطينيّة في الداخل: بين المواطَنة القسريّة وتمثيلِ الاحتلال في الخارج
08-11-2017

 

لا تَخفى على أيّ باحثٍ سينمائيّ ديناميّةُ مصطلح "السينما الفلسطينيّة،" وتطوُّرُه وفقًا للتغيّرات. وهذه التغيّرات مرتبطة بحركة التاريخ السياسيّ والتكنولوجيّ، وتحديدًا: تهجير الفلسطينيّين وتشكّلهم من جديدٍ كجماعاتٍ متشظّيةٍ بفعل الاحتلال الإسرائيليّ، وتطوّرُ وسائل إنتاج الشريط السينمائيّ.

لدى تتبّع تطوّر إنتاج الأفلام الفلسطينيّة، على صعيد السرديّة وسبلِ الإنتاج والتمويل، والمآزقِ التي تواجهها هذه الصناعةُ، أو تخلقها بأيدي صنّاعها أنفسِهم، تتشكّل أمامنا صورةٌ أكثرُ تعقيدًا وتطلّبًا لتبنّي تصوّرات، ولاتّخاذ خطواتٍ مستقبليّةٍ، تتّسق مع ماهيّة الفعل الفنيّ، وتحديدًا في سياق الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ الذي يواجهه الفلسطينيُّ الأصلانيُّ في فلسطين التاريخيّة، ولاسيّما في ما يُعرف بمناطق الـ٤٨، بعد أن هبطتْ عليه المواطَنة الإسرائيليّةُ القسريّة، تمامًا كما هبط عليه الاحتلال.

تاريخيًّا، شكّل العدوانُ الإسرائيليّ في حرب العام ١٩٦٧ قوّةَ الدفع الكبرى لنشوء "سينما الثورة الفلسطينيّة." وقد انبرتْ هذه السينما تحت لواء المقاومة الفلسطينيّة في الأردن، وانتقلتْ مع القيادات الفلسطينيّة بعد أحداث أيلول الأسود سنة ١٩٧٠ إلى بيروت، فلبّت حاجةَ الفصائل إلى بناء سرديّةٍ فلسطينيّةٍ تواجه السرديّةَ الصهيونيّة. وهو ما أفرز نسقًا فنّيًّا متماشيًا مع روح المقاومة في إحدى أكثر فترات اليسار العالميّ انتعاشًا في دول الجنوب وما بعد الاستعمار. وتميّزتْ هذه الأفلام بالطابع التقريريّ، وتولّتْ إظهارَ العدوان الاسرائيليّ، وثنائيّةِ "مظلوميّة/بطولة" الفلسطينيّ في الشتات ومخيّماتِ اللجوء.

***

غير أنّ ارتباطَ هذه السينما بمقاومة الفصائل على الأرض أدّى إلى اندثارها مع انتقال هذه الفصائل بعيدًا عن حدود فلسطين المحتلّة، إلى تونس، بعد الغزو الإسرائيليّ لبيروت عام ١٩٨٢. وفي بداية الثمانينيّات بدأنا نَشهد نسقًا جديدًا من إنتاج الأفلام الروائيّة الفلسطينيّة، خطّه المخرجُ الفلسطينيّ، ابنُ مدينة الناصرة، ميشيل خليفي، الذي تلقّى تعليمَه الفنّيّ والأكاديميّ في بلجيكا، وعاد إلى الداخل الفلسطينيّ ليصوِّر أفلامًا تُعتبر علاماتٍ مهمّةً ونقلةً نوعيّةً في السرديّة الفيلميّة الفلسطينيّة، مثل الذاكرة الخصبة (١٩٨٢) وعرس الجليل (١٩٨٦). وتأتّى له ذلك عبر الانتقال من السرديّة الكبرى (mega narrative) المجنَّدةِ لأهداف المقاومة المسلّحة، إلى السرديّة الفرديّة التي اقترحتْ إمكانيّاتٍ جديدةً لطريقة تناول الفلسطينيّ لنفسه روائيًّا على الشاشة.

أفلامُ خليفي رَسَخَتْ في الوعي الجمعيّ على أنّها فلسطينيّة، على الرغم مِن تمويلها من جهاتِ إنتاجٍ أوروبيّة؛ بل من الصعب نسبةُ هويّةِ هذه الأعمال إلى فرنسا أو بلجيكا، ولا سيّما أنّنا في عصرِ ما بعد القوميّة (post-nationalism) على صعيد طُرُق الإنتاج المتأثّرة بسياسات تمويلٍ أفرزتْها/ وسمحتْ بها منظومةُ العولمة، بحيث باتت هويّةُ العمل لا تتبع بالضرورة هويّةَ جهات الإنتاج، بل هويّةَ مُخرج العمل، وبالأخصّ السرديّة التي يقدِّمها.

(الصورة لمحمود أبو سلامة)

***

لكنْ لحظة! كيف نتعامل نحن الفلسطينيّين في الداخل، المواطنين في الدولة العبريّة، مع ظاهرة صيرورة السينما عابرةً للقوميّات (Transnational cinema) على المستوى التقنيّ عن طريق الإنتاجات المشتركة والتمويلِ الأجنبيّ؟

كيف نتعامل مع اشتراط الصناديق في الخارج (الأوروبيّ والأمريكيّ) على لزوم حصولنا، وأقصدُ المخرجين في الداخل، من "دولتنا" على قسمٍ من تمويل أعمالنا، وما يعنيه ذلك من ارتهاننا بتمثيل "إسرائيل" في المحافل الثقافيّة الدوليّة؟

يَطرح ذلك أمام الفلسطينيّ أسئلةً جوهريّةً عن معنى مواطَنته داخل "إسرائيل،" وعلاقتِه بالمنظومة الإسرائيليّة برمّتها. وهي تساؤلاتٌ جدّيّة، لا يستطيع أحدٌ أن يزايدَ فيها عليه؛ فهو ابنُ النكبة وما تلاها من نتائجَ في الحيّز المادّيّ والوعي الجمعيّ الحسّيّ المستعمَر. فما هي الحدود التي تبدأ منها المواطَنةُ وتنتهي إليها؟

إنّها تقاطُعُ مساحاتٍ رماديّة متتالية: بدءًا من إصدار وثيقة الولادة، مرورًا بدفع الضرائب والتعلّمِ في الجامعات الإسرائيليّة، وانتهاءً بالانضمام إلى سوق العمل... وربّما بتحقيق طموح إخراج شريطٍ سينمائيّ، يحاول فيها الفلسطينيُّ الحفاظَ على سلامته النفسيّة قبل كلّ شيء.

***

مع الانتفاضة الأولى (نهاية 1987) واتفاقيّة أوسلو (1993)، تجذّرتْ ملامحُ نسقٍ من الإنتاج في تجاربِ مخرجين من الداخل الفلسطينيّ (هاني أبو أسعد، إيليا سليمان،...) ساروا على دربِ ميشيل خليفي. فقد انتقلوا جزئيًّا إلى العيش في أوروبا أو أمريكا، وقاموا بتصوير أفلامهم في فلسطين بتمويلٍ غربيٍّ لتجنّب التمويل الاسرائيليّ قدر المستطاع، بعد أن كانوا قد اضطُرّوا إلى اللجوء إلى صناديق الدعم الإسرائيليّة في أفلامهم الروائيّة الأولى.

من الحوادث الأولى التي أثيرتْ فيها إشكاليّةُ التمويل الإسرائيليّ في محفلٍ سينمائيّ عربيّ، ومن ثم إشكاليّةُ التطبيع مع إسرائيل، كان عرضَ أوّل فيلم روائيّ طويل للمخرج إيليا سليمان، سِجِلّ اختفاء (١٩٩٦)، في مهرجان قرطاج السينمائيّ في تونس. تلا ذلك بعد عامٍ، وفي المهرجان نفسه، عرضُ فيلم درب التبّانات، للمخرج علي نصّار، وهو مموّلٌ كذلك من الصناديق الإسرائيليّة.

لو نظرنا إلى الأفلام التي أخرجها فلسطينيّو الداخل بتمويلٍ إسرائيليّ، من قبيل سِجِلّ اختفاء، ودرب التبّانات، والجنّة الآن، وعطش، وبدون موبايل، ويوميّات عاهر، وبرّ بحر، وعجمي، وأمور شخصيّة، فلا شكّ في أنّنا أمام حالاتٍ سينمائيّةٍ ناضجةٍ فنّيًّا، وأمام تطوّر في طريقة تناول الفلسطينيّ لنفسه.

غير أنّ هذا النوع من فهمنا لذواتنا، ومن خلق حوارٍ مجتمعيٍّ فلسطينيّ من خلال الأفلام، يمرّ، لا محالة، عبر مصفاة الإنتاج الاسرائيليّة. ذلك لأنّه مرهونٌ بأمريْن: 1) سقف من التعبير يُملي، ضمنيًّا، طبيعةَ السرديّة المصوَّرة. 2) والاضطرار إلى تمثيل دولة الاحتلال في المحافل الدوليّة. وهذا ما يطرح سؤالًا جدليًّا حول معنى السرديّة وآليّات إنتاجها في سياقٍ استعماريّ.

لا نيّة للتشكيك في وطنيّة أيٍّ من المبدعين/ات في الداخل. هدفُ هذا التساؤل هو التحفيزُ على الإبداع، ومحاولةُ خلق جماليّاتٍ جديدةٍ لسرديّاتنا المصوّرة، مستدعيها (أي الجماليّات ) الأوّلُ هو الشرطُ الاستعماريّ الطاردُ للفلسطينيّ والعربيّ من فضائه المادّيّ والمعنويّ.

ولن يتمّ ذلك من دون فهم الصهيونيّة كمشروع استعمارٍ استيطانيّ في المنطقة، طاردٍ لنا في حيّزنا، يُستنفَر في كلّ حادثةٍ يحاول فيها الفلسطينيُّ تحدّيَه. وهذا ما حصل في ما يخصّ فيلم عجمي، الذي وصل إلى نهائيّات حفل توزيع جوائز الأوسكار سنة ٢٠١٠ واستشاطت وزيرةُ الثقافة الإسرائيليّة آنذاك ليمور ليفنات عندما صرّح أحدُ مخرجَي الفيلم، إسكندر قبطي، أنّ فيلمَه لا يمثّل دولة الاحتلال.

وتلا ذلك قضيّة فيلم فيلا توما (٢٠١٤) للمخرجة سهى عرّاف، الذي كان بمثابة القشّة التي قصمتْ ظهرَ البعير. فقد عرّفت المخرجةُ فيلمَها بأنّه فلسطينيّ، وذلك في عرضه الأوّل في مهرجان البندقيّة السينمائيّ، واضطرّت إلى عدم نسبته إلى أيّة دولةٍ في المهرجان. وكان من تداعيات هذا الأمر أنْ صُدِّقَ على قانونٍ إسرائيليٍّ يَشترط تعريفَ الأفلام التي تدعمها الدولةُ العبريّة بأنّها إسرائيليّة ــــ وهذا منطقيّ جدًّا من المنظور الإسرائيليّ.

والسؤال الذي يُطرح هنا هو: لماذا نَدفع من كرامتنا هذا الثمنَ الباهظَ، المتمثّلَ في قبولنا تمثيلَ دولة الاحتلال في المحافل الدوليّة، وفي فرضِها على المهرجانات العربيّة؟ هل خلقُ حوارٍ مجتمعيّ عبر الأفلام في المجتمع الفلسطينيّ في الداخل، وتحقيقُ طموحات لمخرجين ومخرجاتٍ ومبدعين ومبدعات، ثمنٌ كافٍ لكي نقفَ في محفلٍ دوليٍّ نمثِّل إسرائيل، متحجّجين بـ"خصوصيّتنا" كأقلّيّة في وطننا؟

***

(كمال الجعفري)

ربما تكمن البدائلُ في خلق جماليّاتٍ جديدة، ونوعيّاتِ فنونٍ بصريّةٍ تلتفّ على إشكاليّة التمويل، كالشريط التجريبيّ، استعادة (٢٠١٥)، للمخرج الفلسطينيّ كمال الجعفري. في هذا الشريط أعاد الجعفري إنتاجَ السرديّة الفلسطينيّة من خلال استعمال أفلامٍ روائيّة إسرائيليّة في السبعينيّات، وتقديمها بطريقةٍ ذكيّةٍ على الشاشة، مستعرضًا الفضاءَ والإنسانَ الفلسطينيّيْن فيها من جديد، والتدقيقِ فينا نحن من خلال تقنيّاتٍ أتاحها عصرُ الاستنساخ الصوريّ وآليّاتِ ما بعد الحداثة ذاتها.[1]

وأمامنا أيضًا تجربةُ المخرج مؤيّد عليّان، الذي أخرج شريطَه الروائيّ الأوّل، حبّ، سرقة، ومشاكل أخرى (٢٠١٦)، بالأبيض والأسود، وبطاقمٍ صغير، من أجل التحايل على الميزانيّات المكلفة، ومن دون اللجوء إلى التمويل الإسرائيليّ.

السؤال الأعمق الذي عليه أن يراودنا: هل في مقدرة "المكاسب" المعنويّة والفنيّة في المحافل الدوليّة، التي نُضطرّ فيها إلى أن ننضويَ (ولو شكليًّا) تحت علمٍ إسرائيليّ تتفاخر فيه الدولةُ العبريّة بليبراليّتها و"تسامحها" مع الأقليّات، أن تَنْصر مَن يقع عليه الاحتلالُ، وأن يخلخلَ بنيةَ القمع الاستعماريّة؟

 عكّا (فلسطين)

https://goo.gl/KB97Ni

"بن غوريون محذوفًا / عن "استذكار/استعادة" لكمال الجعفري.

صالح دبّاح

باحث سينمائيّ وصحافيّ ثقافيّ. ينشر مقالاتِه  في عدد من الصحف والمواقع الفلسطينيّة والعربيّة. معدّ ومقدّم البرنامج السينمائيّ، كلاكيت فلسطين، على فضائيّة "التلفزيون العربيّ." حاصل على اللقب الأول في الصيدلة، وعلى درجة الماجستير في دراسات الثقافة والأفلام.