تك تك. تك تك.
ـــ اذهبي وانظري من وراء الباب، تقول أمّي لأختي الصغيرة.
ـــ إنّه الغريب، تردّ عليها أختي.
ـــ انزلي وأساليه إنْ كان يريد قمحًا. لا نقودَ لدينا اليوم لنعطيه.
تنطّ أختي الصغيرة على الدرج كعادتها. وقبل أن تفتح الباب تصيح:
ـــ من؟
ـــ غريب، يقول صوتُ شيخٍ أتعبه السفر.
تفتح أختي الباب وتبتسم للطارق، فيبتسم لها الغريب وصوتُه كلُّه دعاءٌ لها ولأهل البيت.
تتوقّف أختي لحظةً كي ينتهي من دعائه. وحين انتهى، زمّت شفتيها، وقالت:
ــــ تقول أمّي لا نقود اليوم لإعطائك، بل صاعٌ من البرّ إنْ رغبتَ. أو لتعُد في يوم آخر.
ـــ فتح الله عليكم أبواب رزقه، وأطال في عمركما، وأدام فرحكما، وبارك لكم في ما أعطاكم. يا بنيّتي، إنّي عطشان، فأعطِيني كوزَ ماء.
تذهب أختي إلى الغرفة المجاورة تبحث عن إبريق الماء. ثمّ تعود، وتفتح غطاءه، وتعطيه الغريبَ. يشرب حتّى الارتواء، ثمّ يحمد الله، ويقول:
ـــ سقاكِ اللهُ من حوضه. ألديكم خبزٌ لتعطوني؟
تختفي أختي بعض الوقت، وتعود وبيدها رغيفٌ لفّته لها أمّي بورقة من أوراق الجرائد.
يأخذ الغريبُ الخبز بيديه كلتيهما. وينظر إلى أختي بعرفان. يقتطع لقمةً صغيرةً يضعها في فمه، ويضع الباقي في صرّةٍ يحملها على عود. ثمّ يذهب وهو يردّد دعاءه.
تقف أختي عند عتبة الباب تشيّعه بنظراتٍ ملؤها الأسى. ثمّ تقفل البابَ عندما يبتلع الطريقُ طيفَه.
***
يواصل الغريب طرْقَ أبواب القرية، فتُفتح له أبوابٌ، وتظلّ أخرى موصدةً في وجهه. كان قليلَ الإلحاح والطلب. يحمل عصاه وصرّته، ويذهب مسبِّحًا، ويعود مستغفرًا، ببشرةٍ أكلت الشمسُ لونَها، وجعّدها البردُ والجوع.
وكان أن داهمه الليلُ في الطريق. فذهب يبحث عن جامع يقضي ليلته فيه. وككلّ الجوامع في القرى، كان جامعُ قريتنا يهجرُه المصلّون، فتُحْييه السحالي، وتقيم العناكبُ فيها منازلَها كلّ أيّام الأسبوع، عدا يوم الجمعة. ويصبح بيتُ الله بيتَ الغريب: ينام ويصلّي فيه، ثمّ يغادره في الصباح الباكر، ويواصل طريقه، ولا أحد يعرف من أين أتى ولا إلى أين يذهب، ولا إنْ كان لديه أطفال وزوجة.
تتساءل أمّي، بعد أن أدخلتْ أغنامَها، وكنّستْ ساحةَ الدار، وجلسنا ننتظر أذانَ المغرب على سقف بيتنا، وعيونُنا تنظر من دون أن تبصر الناسَ وهي عائدةٌ من حقولها محمّلةً بأكوامٍ من الحطب، تسوق أمامها قطعانَ الماعز، وآذانُنا تسمع جلبةَ عودتهم وأصواتًا متفرّقةً لرعيان يصيحون على من قصَت من مواشيهم:
ـــ لم يمرّ غريب هذا العام. ترى، ماذا حلّ به؟
ثم تضيف مستدركةً:
ــــ إنّها سنةُ خيرٍ وأمطار. ولا بدّ أنّه فضّل البقاء في موطنه هذا العام. أو ربّما أصابه الهرمُ، وخانته رجلاه فأقعدتاه ذلك البيت.
ـــ وأين موطنه؟ أسألُ أمّي.
ـــ بعيد يا بنيّ. هناك خلف ذاك الجبل.
بقيتُ أنظر إلى الجبل، وأتساءل بقلق، وأنا صغيرُ إخوتي: "هل ينجب الغريب أطفالًا ليصبحوا في الدنيا غرباءَ مثله، يجوبون الطرقات ويحملون عصيًّا وصرّةً؟!"