لطالما سمعتُ، خصوصًا من زوّار معارض الكتب العربيّة، السؤال الاستنكاريّ الآتي: أين الكتبُ "الحقيقيّة"؟ أين الأدبُ "الحقيقيّ"؟ أين الفكرُ "الحقيقيّ"؟ ولطالما وجدتُ نفسي، ربّما دفاعًا عن وجودي كإنسانٍ يكاد لا يَعرفُ مهنةً له غيرَ النشر والتحرير والترجمة، أدافعُ، وبشكلٍ محمومٍ أحيانًا، عن الإنتاج الثقافيّ العربيّ، ضاربًا نماذجَ عن رواياتٍ وكتبٍ وملفّاتٍ ودوريّاتٍ تعكس حالاتٍ متقدّمةً من الجدّيّة والإبداع والإتقان.
غير أنّ دفاعي المحموم ذاك لا يلغي الشعورَ العارمَ لدى القرّاء العرب، المتناقصي العدد أصلًا، بالضيق من الإنتاج الثقافيّ العربيّ الراهن. وحين أسألُهم عن مردّ هذا الضيق أسمعُ الإجابات الآتية:
ـ لا نرى رواياتٍ في مستوى روايات محفوظ وكنفاني وصنع الله إبراهيم ومنيف وجبرا، ولا دواوينَ في مستوى دواوين الجواهري والسيّاب ودرويش وقبّاني، ولا مؤلّفاتٍ نظريّةً في مستوى أعمال العروي والجابري وجعيط وطرابيشي.
ـ هناك لغوٌ وإطنابٌ (لا يتردّد بعضُ القرّاء في استخدام كلمة "إسهال") في الغالبيّة الساحقة من الكتب العربيّة التي نطالعُها.
ـ أين الأعمال المترجمة الجديدة التي تطْلعنا على مبدعين من ثقافاتٍ غير أميركيّة وأوروبيّة؟ وما هو حجمُها مقارنةً بهذه الأخيرة؟
ـ أين اللغة العربيّة المتينة، الأنيقة، الحسنةُ السبك، الخاليةُ من الأخطاء؛ لغة طه حسين ومحفوظ ونعيمة ورئيف خوري وجبرا وحمّيش...؟
القرّاء، شأن سائر الناس، عربًا وغيرَ عرب، غالبًا ما "ينقّون" ويعمّمون. وبعضُهم يحاول أن يُبْرز "شخصيّتَه" بالهجوم على كلِّ ما صادفه أو لم يصادفْه في طريقه. وبعضُهم يفعل ذلك تبريرًا لتقاعسه عن أيّ عمل لتحسين الوضع العربيّ في أيّ من جوانبه، فيأتي هجومُه على الإنتاج الثقافيّ العربيّ ضمن رزمةٍ متكاملةٍ (أو "راجمةِ صواريخ" بالتعبير العسكريّ الشائع) ضدّ كلّ ما يفعله "العربُ" في شتّى مجالات الحياة. ناهيكم بأنّ بعضهم يكرّر أفكارًا استشراقيّة قديمةً من دون أن يكون متابعًا دقيقًا للإنتاج الثقافيّ العربيّ (أو غير العربيّ).
غير أنّ ما يقوله هؤلاء القرّاءُ لا يجانب الصوابَ من بعض النواحي. المهمّ أن نشخّص الأسبابَ الحقيقيّةَ لهذا التراجع: فلا نرْجعَه ـــ مثلًا ـــ إلى عاملٍ جينيّ قدريّ، أو إلى لعنةٍ تاريخيّةٍ حتميّةٍ وُصمنا به دون كلّ شعوب الأرض. والأهمّ أن نحدّدَ مسؤوليّاتِ كلٍّ منّا في هذا التراجع، على اعتبار أنّه مسؤوليّة عامّة لا تقع على كاهل الكاتب وحده، بل يشترك فيها الناشرُ والمترجمُ والمحرّرُ والمدقّقُ والناقدُ والإعلامُ والمدرسةُ والجامعةُ ومؤسّساتُ الدولة.
وأوّلُ ما سنلاحظه في هذا الصدد تراجعُ المناخ النقديّ حيالَ ما يُنشر. وهذا يعود بالتأكيد إلى توقّف غالبيّة الدوريّات الثقافيّة الجادّة عن الصدور، حتى تكاد الإصداراتُ الجديدة لا "تَنْعم" إلّا بذكرٍ عابرٍ في بعض الصفحات أو الملاحق الثقافيّة، المتناقصة أصلًا، وبشكل سريع ومخيف. هنا قد نحتاج إلى تكرار البديهيّ، وهو أنّ الإنتاج الثقافيّ الممتاز لا ينمو إلّا في جوّ نقديّ ممتاز: جوٍّ يميّز الغثَّ من السمين، ويَشرح عواملَ القوّة والضعف في كل عمل، بعيدًا عن نزعات المحاباة أو الكيديّة او الاعتباطيّة أو المافيويّة الشللية، وبعيدًا عن الأحكام الجاهزة والسريعة. ولا تكفي تقاريرُ لجان الجوائز في هذا الصدد، علمًا أنّ أعضاء هذه اللجان ليسوا دائمًا منزّهين عن تلك النزعات والأحكام.
***
والملاحظة الثانية أنّ دُورَ النشر قلّما تنْعم بمحرّرين ذوي كفاءةٍ عالية. والتحرير، كما يَعلمُ بعضُكم، مختلفٌ تمامًا عن التدقيق اللغويّ (مع أنّ مئات من الكتب العربيّة الراهنة محتشدة بالأخطاء اللغويّة والإملائيّة الفظيعة). التحرير مهنة شبهُ غائبة في مجال النشر العربيّ، وهي غالبًا ما تكون في عهدة "المصحِّح" ويا للأسف. التحرير حِرفة ثقافيّة بامتياز، شأن الكتابة والترجمة، وتتضمّن فيما تتضمّن: شطبَ اللغو والهذر، وتقطيعَ المقال، وتبويبَ الكتاب، والتأكّدَ من بعض الاقتباسات "المريبة" بالعودة إلى المَراجع الأصليّة، والتيقّنَ من دقّة الاصطلاحات المعرّبة، ونقلَ مقاطع من المقال إلى حيّز الهامش، وترحيلَ مَقاطعَ أخرى إلى أقسامٍ سابقةٍ أو تالية، وتنبيهَ الكاتب إلى الاختلالات في بعض الحجج أو الشخصيّات أو الأحداث.
أذكر في هذا الصدد لقاءً جمعني بالراحل الكبير إدوارد سعيد في مكتبه في جامعة كولومبيا في نيويورك. كان قد تلقّى لتوّه "بروفا" أحدِ كتبه من ناشره. كانت البروفا مليئةً بالشطب والألوان الصفراء والملاحظات على الهامش. قال لي "أنظرْ ماذا فعلوا بكتابي!" ظننتُ، أول الأمر، أنّه سينهال على الناشر بالشتم، فإذا به يقول لي: "لكنّه الآن بات كتابًا حقيقيًّا." إنّ إحدى مشاكل عدد لا يستهان به من كتّابنا العرب أنّهم لا يَقْبلون أن يُمسّ كتابُهم بأدنى حرف، وكأنّه كتابٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. ولعلّنا قد نلتمس لهم بعض العذر في ذلك لأنّ معظمَ الناشرين العرب أقلُّ ثقافةً منهم، ولذلك لا يثقون بما سيقومون به من "تحرير."
كما تتضمّن مهنةُ التحرير، في حالتنا العربيّة بشكلٍ خاصّ، ممارسةَ "رقابةٍ لطيفةٍ" أو "حميدة،" من قبيل تنبيهِ الكاتب إلى ما قد يَحُول دون دخول كتابه (أو المجلة التي يكتب فيها) إلى بعض الأسواق العربيّة. فكلمة واحدة، أو جملة واحدة، قد لا تؤثّر البتّة في أطروحة الكتاب (أو المقال)، لكنّها ستستفزّ الرقيبَ العربيّ ("الراقصَ من دون دفّ")، فيمنع الكتابَ (أو المجلة) برمّتهما. إنّ المحرِّر، في هذه الحالة، وسيطٌ ضروريّ ومشكور بين الكاتب والناس، ومهمّتُه "ثوريّةٌ واقعيّةٌ" إذا جاز التعبير لأنّها تفيد القارئ والكتابَ معًا، وتَنزعُ من الرقيب المتخلّف ذرائعَ منْعٍ محتملةً.
***
الملاحظة الثالثة تتعلّق بالترجمة. علينا فعلًا أن نتوسّع في هذا المجال بما يتخطّى النقلَ عن الفرنسيّة والإنكليزيّة. صحيح أنّ لدينا عددًا من الترجمات المباشرة عن بعض اللغات الأخرى، كالإسبانيّة والروسيّة والتركيّة والألمانيّة والفارسيّة والبولونيّة والكرديّة، لكنّنا ما زلنا مُقلّين كثيرًا في نقل الإبداعات اليابانيّة والصينيّة والهنديّة مثلًا. بل إنّ هذا النقلَ نفسَه يتمّ، دائمًا تقريبًا، من لغةٍ وسيطةٍ (الفرنسيّة أو الإنكليزيّة)، ما يعرِّض النصَّ المترجَمَ إلى خيانة الأصل خيانةً مضاعفةً، على اعتبار أنّ الترجمة عن لغة واحدة ـــ مهما علا شأنُ هذه الترجمة ـــ خيانةٌ للأصل، فكيف إذا جاءت عن لغة وسيطة؟
من نافل القول إنّ التوسّع في الترجمة إثراءٌ لثقافتنا (وحياتنا) العربيّة، وتطويرٌ لكتابتنا وأساليبنا العربيّةِ نفسِها. غير أنّ هذا التوسّع يحتاج إلى طاقاتٍ تَفُوق طاقاتِ الناشر الفرد: يحتاج إلى "محمد علي باشا" جديد، يرسل البعثاتِ الى الخارج لتعلّم اللغات واكتسابِ المهارات؛ يحتاج إلى دولةٍ تتنكّب أعباءَ النقلة الثقافية الشاملة التي نحتاجها... لا إلى دويْلاتٍ وقبائلَ وأُسَرٍ تَحْكم بالحديد والنار والرشاوى، وتشتري الذممَ والعقولَ!
***
وهنا نأتي إلى بيت القصيد مع الملاحظة الأخيرة. لا تطويرَ حقيقيًّا لإنتاجنا الثقافيّ العربيّ في معزلٍ عن بناء دولةٍ عربيّةٍ حقيقيّة، أي دولةٍ ذاتِ مشروعٍ تحرّريّ وتحريريّ. في أيّ نقدٍ للوضعيّة الثقافيّة العربيّة الراهنة، لا يجوز الاكتفاءُ بلوْم الكتّاب والناشرين والمترجمين العرب، وغضِّ الطرف عن سادةٍ مستبدّين يتربّعون على مئات المليارات من الدولارات المنهوبة من شعبنا العربيّ الفقير. ثقافتُنا تحتاج إلى مؤسّسات دعمٍ ورعاية، لا إلى مجرمين يُلْقون بفتات المال على الثقافة، أو إلى سارقين فاسدين "يبيّضون" سرقاتهم في مشاريعَ ثقافيّة أو "نهضويّة."
لقد أدمنّا المعزوفةَ الممجوجةَ القديمة: "اعزلوا الثقافةَ عن السياسة حرصًا على الثقافة." هذه السطور هي دعوةٌ متجدّدةٌ إلى نقيضِ ذلك تمامًا: انخرِطوا في السياسة حرصًا على الثقافة! انخرطوا في السياسة بكلّ أوجهها، المحليّة والعربيّة، وخصوصًا من أجل بناء مشروعٍ عربيٍّ بديلٍ من هذه الأنظمة المعتلّة المجرمة التي لا همّ لها إلّا البقاء على كراسيها. إنّ الثقافة العربيّة لن تزدهر على المدى البعيد إلّا في سياق التخلّص التدريجيّ من هذا الكابوس الجاثم فوق رؤوسنا منذ عقود.