تنهَض قصيدةُ "أوديب" لدرويش على تناصٍّ مع تراجيديا أوديب ملِكًا لسوفوكليس، وتتجسّد البُؤرة المركزيّة المهيمِنة على هذا التناصّ في العبارة التي يُقدِّم بها درويش القصيدة، "ما حاجتي للمعرفه؟" مُؤسِّسًا عليها نصَّه، بنيةً ورمزًا، ومُتَّكئًا على حركيّة الصراع في المسرحيّة، لكنْ بعد مدِّ هذه الحركيّة بآفاقٍ دلاليّةٍ مغايرة.
يبدأ الشاعر قصيدته بالمطلع الآتي:
"ما حاجتي للمعرفهْ؟
لم ينجُ منِّي طائرٌ أو ساحرٌ أو امرأهْ.
العرشُ خاتمةُ المطافِ، ولا ضِفافَ لقوَّتي
ومشيئتي قدَرٌ. صنعْتُ أُلوهتي
بيدي، وإلهةُ القطيعِ مُزيَّفهْ.
ما حاجتي للمعرفهْ؟"
الملِك كُلّيّ السلطة؛ فلم ينجُ منه طائرٌ أو ساحرٌ أو امرأة. والعرش هو الوسيلة، وهو الغاية التي تجعل من مُعتلِيه مشيئةً قدَريّة ترفعه إلى مقام الإله؛ فما حاجته إلى المعرفة، وقد بلغ هذا الحدّ من القدرة؟
يكشف هذا المقطع بعدًا جوهريًّا من أبعاد الصراع في النصّ، وهو الصراع بين المعرفة وما سأسمّيه "تيّار سلطة الأمر الواقع الميتافيزيقيّ" ـــ وأعني به تيّارَ الوعي السلطويّ البطريركيّ الفحوليّ بأبعاده الغيبيّة التي يستمدّ منها الملِك أوديب شرعيتَه، داحضًا بها سؤال المعرفة. وهذا ما نجده في المقطع الآتي أيضًا:
"أمشي أمامي واثقًا من صولجانِ خطايَ. ظلِّي أزرقٌ
والناسُ أشجاري
وللتاريخ أن يأتي بكلِّ قضاتِهِ وشُهودِهِ
ليُؤرِّخوا فرحي بمملكتي
وأولادي وسور مدينتي
وجلال أقنعتي
وموت الأمسِ فيَّ وفي المُؤرِّخ. ههنا أحيا. هنا أحيا، هنا
ما حاجتي للمعرفهْ؟"
***
لكنّ درويش يُغْني حركيّة الصراع عندما يمنحه بعدًا وقائعيًّا يعضد به تيّارَ سلطة الأمر الواقع بتيّارٍ سأدعوه "سلطة الواقع الوجوديّ المَعيش." وهو يدلُّ على أنّ الطاغية، بقدر ما يُدافع عن طغيانه بأقنعةٍ فوقيّة ميتافيزيقيّة، يضطرُّ أحيانًا إلى إظهار طبيعته الإنسانيّة المحدودة والمنغرسة في قلب الحياة اليوميّة، وإنْ كان لا يتوانى عن توظيف هذا المستوى أيضًا لترسيخ شرعيّة سلطته الأحاديّة المتعاليّة التي تنفي المعرفة من جديد:
"السرُّ في الإنسان،
والإنسانُ سيِّدُ نفسِهِ وسؤالِهِ
لا علمَ إلّا ما يراهُ الآن،
والماضي دموعٌ مُتْرَفهْ
ما حاجتي للمعرفهْ؟"
إنّ السرّ في الإنسان، والإنسان سيِّدُ العالَم والموجودات، وهو يستطيع أن يغوص في البعد اليوميّ المرئيّ مُستغنيًا عمّا وراء الأشياء. أمّا الماضي فترَفٌ، والمعرفةُ فائضٌ ينبغي التخفّفُ منه، لتكونَ المحصِّلةُ المسكوتُ عنها لرؤية الملِك أنّ السرَّ يكمن أيضًا فيه بوصفه إنسانًا ــــ ملِكًا، وينبغي قبولُ هذه السيادة الوقائعيّة وعدمُ التساؤل عمّا وراء المستوى المعيش. قال درويش أيضًا:
"لا شأنَ لي بسُلالتي
كانوا رعاةً، أمْ ملوكًا، أمْ عبيدْ
هذا أنا ملِكٌ
أنا ملِكٌ وحيدْ
وأحِبُّ امرأتي وأعبدُها وألبَسُ عُريَها
وأشدُّها من كلِّ أطرافِ الدمِ الجنسيِّ في دمِها
وأُطلِقُ صرختي بفحيحِ حيواناتها الصُّغرى.
أريدُكِ مرّةً أُخرى، فلا تتحدّثي عن زوجكِ الماضي وعن رجُلٍ
سوايَ.
أنا هنا. وأنا هنا.
وأنا هنا
وهنا أنا...
ما حاجتي للمعرفهْ؟"
في هذا المقطع يتجلّى البعد الوجوديّ في مستواه اليوميّ، وتوظيفُ الملِك لهذا البعد كي يؤكّدَ سلطتَه عبر الواقع المعيش؛ فهوَ ملِكٌ وحيد، ولا شأنَ له بسُلالته، ولا يريد سوى أن يحيا مع امرأته، وأن يستمرَّ في حبِّها وممارسة الجنس معها؛ وهذا وحده كافٍ من جديد للاستغناء عن المعرفة.
***
هكذا أسَّس درويش بنيةَ القصيدة بناءً على جدليّة الصراع بين المعرفة، وتيّارَي السلطة (سلطة الأمر الواقع الميتافيزيقيّ وسلطة الواقع الوجوديّ المَعيش). وعلى الرغم من أنّ ما يَظهر على السّطح يشي بتحجيم التيّاريْن للمعرفة، أو بنفيها، فإنّ ما سيتكشَّف بعد ذلك يؤكِّد عمقَ الجدليّة، وتشعُّبَ حركيّة الصراع. قال درويش أيضًا:
"أنا كائنٌ في ما أكونْ
وأنا أنا
ماضيَّ سرٌّ لا يؤرِّقُني؛
سأُكمِلُ ما بدأتُ منَ الجوابِ، لأُكمِلَهْ.
لا شأنَ لي بالأسئلهْ.
عمّا مضى
لا شأنَ لي، لا شأنَ لي. وأنا جوابٌ للجوابْ،
لا شأنَ لي في أصلِ أُمِّي
سيّان، إنْ كانت أميرهْ
أو فقيرهْ.
أنا واحدٌ
أحدٌ
ملِكْ...
ما حاجتي للمعرفهْ؟"
هنا يتَّخِذ الملِكُ قناعًا يموِّه تشظّيه الداخليّ بادّعاء وحدة ذاته وتماسكِها المتعالي. فأوديب كائنٌ يعيش في ما سيأتي، أي في انفتاحات الوجود، ودونما حاجة إلى البحث عن أجوبة للأسئلة. وهذا يؤكّده قولُه "أنا أنا" الذي يبسط الدلالةَ مرتبطةً بتيّار سلطة الواقع اليوميّ المعيش، ومنتهيةً بتيّار سلطة الأمر الواقع البطريركيّ الميتافيزيقيّ، ليلتقي التيّاران في ذروةٍ تنفي المعرفة مجدّدًا.
***
لكنّ البنيةَ الحركيّة للقصيدة لا تلبث أن تنعطِف جذريًّا في المقطعيْن الأخيريْن، وذلك عبر الانتقال من جدليّة الصراع بين المعرفة وتيّارَي السلطة، ومن قدرتهما الظاهرة على سحقها، إلى انتصار المعرفة عليهما، وانكشافِ المسكوت عنه، في محاكاةٍ للحظةِ التعرُّف التراجيديّة القائمة في أوديب ملِكًا نفسها. قال درويش:
"لم يسألوني مرّةً: مِن أيِّ صُلبٍ أتيْتَ؟
لم يسألوني: مَن أبوكَ ومَن أخوكَ؟ ومَن قتلتَ وهل قتلتَ؟
لكنَّهم قالوا: ستثأرُ للملِكْ
فسألتُ: مَن قتل الملِكْ؟
وسألْتُ: مَن قتل الملِكْ؟
أنا قاتلُ الملِكِ. الملِكْ
هو والدي المجهول والراحِلْ
وأنا بريءٌ مِن دمٍ واقِفْ
بيني وبين الله. لم أعرفْ
بأنّي القاتِل الجاهِلْ
وهل الجريمة أنَّني قاتِلْ
أمْ أنَّني عارِفْ؟!"
وقال أيضًا:
"أنا زوجُ أُمّي
وابنتي أُختي
وتختي، مثل عرشي، أوبئهْ.
يا امرأهْ
يا معرفهْ
ما حاجتي لكُما؟
لماذا لم تموتا مثلَ موت الآلههْ؟
مَن أطلَقَ الماضي عليَّ كأخطبوطٍ حولَ روحي التائههْ؟
مَن دسَّ في خمري سُمومَ المعرفهْ؟
ما حاجتي للمعرفهْ
ما حاجتي للمعرفهْ؟"
هكذا عرف الملكُ أخيرًا أنَّه قاتلُ أبيه، وأنَّه تزوّج أُمَّه، وأنّ ابنتَه أختُه. وشكَّلَ هذا التعرّف تحوُّلًا جذريًّا شبيهًا بإمساك الماضي بروح أوديب كأخطبوطٍ قاتل، أو بدسِّ سمِّ المعرفة في الخمرة. ويبدو أنّ الكارثةَ لم تكن في ما حدث، بل في معرفةِ ما حدث ("وهل الجريمةُ أنَّني قاتِلْ/ أمْ أنَّني عارفْ؟!"). فالمعرفة هي التي انتصرتْ أخيرًا، والموتُ المعنويُّ تسلَّلَ أوّلًا عبر هذه المعرفة. ويبدو نداءُ المقطع الأخير الذي ينتهي بتكرار عبارة "ما حاجتي للمعرفهْ؟" شبيهًا بصوت اليائس أو بسخرية المهزوم من نفسه. فهزيمةُ السلطة أمام المعرفة تعني أنْ لا سلطة أصيلة بلا معرفة، ولا حياة أصيلة بلا معرفة، وإلّا سقط الإنسانُ في الوجود الزائف. ولهذا السبب جاءت لحظة التعرّف حاملةً التحوّلَ من الوجود الزائف إلى الوجود الحقيقيّ بوصفه مواجهة للذات السلطويّة مع نفسها وتاريخها.
***
إنّ التساؤل الملحّ هنا يكمن في البحث عمّا أضافته قصيدةُ درويش إلى مسرحيّة سوفوكليس بما يتعدّى محاكاةَ لحظة التعرّف التراجيديّة. وأعتقد أنّ درويش حاول نقل الصراع من صِراع إرادة الإنسان ضدّ إرادة القدر في المسرحيّة، إلى صِراع الإرادات البشريّة فيما بينها في القصيدة. فمفردةُ "المعرفة" هنا تتجاوز الدلالة السيميائيّة القائمة في المسرحيّة على اكتشاف قتل الملك لأبيه وزواجهِ من أُمِّه، لتدلَّ في نصّ درويش على إرادة المجابهة مع السلطة.
لعلّ انتصار المعرفة في القصيدة يفتح بابَ التأويل، بحيث يفضي الجدلُ بينَ السلطتين والمعرفة إلى إسقاط المعرفة لبناء السلطة. ولا أدري إنْ كانت القصيدة تحتمل دلالةً أبعدَ ممّا سبَق، وترتبط بعلاقة السلطات العربيّة بالقضيّة الفلسطينيّة، وبرغبة درويش في بلوغ لحظة معرفةٍ تُحرِّر هذه القضيّة من تأثير تلك السلطات.
دمشق