أيّها الأعزّاء،
إنّ الحكمَ الصادرَ بالإعدام على المناضليْن نبيل العلَم وحبيب الشرتوني يوجِّه رسائلَ خطيرةً إلى شعبنا، وإلى أولادِنا وأحفادِنا بوجهٍ خاصّ، أهمُّها اثنتان:
ــــ الرسالة الأولى هي أنّ مقاومةَ مَن يتعاونُ مع الاحتلال محضُ جريمة. غير أنّ المتعاونَ مع الاحتلال هو جزءٌ لا يتجزّأ منه: يشرِّع وجودَه في عين "المجتمع الدوليّ،" ويرسِّخ أقدامَه سياسيًّا واقتصاديًّا في بلادنا، ويعينُه أمنيًّا ولوجستيًّا على قمع المقاومين. وكنّا نأمل أن يأخذ الحكْمُ في الاعتبار السياقَ التاريخيَّ لعمليّة نبيل وحبيب: فلبنان، صيفَ العام 1982، كان خاضعًا للاحتلال الإسرائيليّ المباشر، الذي قضى بسببه الآلافُ من أبناء الشعبين اللبنانيّ والفلسطينيّ وبناتِه، وكان بشير الجميّل أداةً بارزةً من أدوات هذا الاحتلال؛ ومن ثمّ فقد كانت مقاومةُ مشروع الجميّل جزءًا رئيسًا مِن مقاومةِ الاحتلال نفسه، ومِن منعِه من إلحاق لبنانَ بالفلك الإسرائيليّ. كما أنّ مقاومةَ مشروع الجميّل كانت بمثابة "ثأرٍ" وطنيٍّ وقوميٍّ لكلِّ من استُشهد على يد ذلك الاحتلال والمتعاملين معه.
ــــ الرسالة الثانية التي يوجّهها الحكمُ الصادرُ في حقّ النبيل والحبيب هي أنّ التعاونَ مع الاحتلال الإسرائيليّ أمرٌ يمكن أن يتسامحَ معه "القانون." والأسئلة التي تطرح نفسَها في هذا الصدد هي الآتية:
أ) ألا يناقضُ ذلك "قانونَ مقاطعة إسرائيل،" الصادرَ سنة 1955، والذي ينصّ في مادّته الأولى على الآتي: "يحظَّر على كلِّ شخصٍ، طبيعيٍّ أو معنويّ، أن يَعقدَ، بالذاتِ أو بالواسطة، اتفاقًا مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيّتهم، أو يعملون لحسابها أو لمصلحتِها، وذلك متى كان موضوعُ الاتفاق صفقةً تجاريّةً أو عمليّاتٍ ماليّةً أو أيَّ تعاملٍ آخرَ أيًّا كانت طبيعتُه"؟
ب) وهل يستقيم الحكمُ مع روحيّة اتفاق الطائف، الذي نصّ على "اتّخاذ كافّة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانيّة من الاحتلال الإسرائيليّ؟"
ج) وهل يقتصر فعلُ "التحرير" على جيش الاحتلال وحده؟
***
أيّتها الأخوات، أيّها الإخوة،
بدلًا من أن يكون حبيب ونبيل عنوانًا للكرامة والسيادة الوطنيّة، يُراد اليومَ، بقوة "القضاء،" أن يكونا عنوانًا للإرهاب والجريمة!
ولذلك، فإنّ مِن حقّنا تجاه مَن قاوما بالنيابة عن مئات آلاف اللبنانيين والعرب أن نَصدحَ بكلمة حقٍّ فيهما. فهما كانا طليعةَ مَنِ افتكَّ وطنَنا من براثن الاحتلال عبر ضرب أبرزِ منفّذٍ لمشروعه عندنا آنذاك.
لكنْ علينا أن نقولَ أيضًا إنّ الحكمَ الصادر في حقّهما يتساوقُ مع سياقٍ لبنانيٍّ وعربيٍّ في تناول قضيّة الصراع العربيّ ـ الإسرائيليّ. ومن أبرز مظاهر هذا السياق:
ــــ أوّلًا، تحويلُ بعض العرب الكيانَ الصهيونيَّ من عدوٍّ وجوديٍّ وتاريخيّ إلى طرفٍ تُمْكن "مهادنتُه،" بل الاستعانةُ به لضرب أنظمةٍ عربيّةٍ وغيرِ عربيّة.
ــــ ثانيًا، تقديمُ بعض اللبنانيين مصلحةَ "الرعيّة" على القضيّة. وهو ما تجلّى في تغاضي الغالبيّة الساحقة من "النُّخَب" اللبنانيّة عن زيارة البطرك الراعي إلى فلسطين المحتلّة، ومباركتِه الرعيّةَ هناك (وضمنَها عملاءُ من جيشِ لحْد!). وقد جاءت زيارةُ الراعي بحماية قوّاتِ الأمن الإسرائيليّة، على ما تُظهر الصورُ بشكلٍ لا يَقبل اللبْس.
ــــ ثالثًا، مباركةُ بعض "النُّخَب" اللبنانيّة، وبعضِ أطراف السلطة اللبنانيّة نفسِها، لبدعة "الفصل بين الفنّ والسياسة." وهو ما برز في ترشيح وزير الثقافة اللبنانيّ لفيلم المطبِّع اللبنانيّ زياد دويري إلى الأوسكار. كما برز في نقض وزيرِ الداخليّة اللبنانيّ لتوصية "لجنة الرقابة على الإفلام،" وذلك حين أجاز عرضَ فيلم المخرج ستيفن سبيلبيرغ على الرغم من أنّ الأخير تبرّع بمليون دولار لعدوِّنا الإسرائيليّ صيفَ العام 2006.
ــــ رابعًا، اعتبارُ وزير الخارجيّة اللبنانيّ (الذي كان بالمناسبة سعيدًا جدًّا بصدور الحكْم في حقّ حبيب ونبيل) أنّ "مشكلتَنا مع إسرائيل ليست إيديولوجيّة." والحقّ أنّ مشكلتَنا معها ليست إيديولوجيّةً فحسب، بل هي وجوديّةٌ أيضًا، بمعنى أنّ وجودَها في ذاته لا يمكن أن يتمَّ إلّا بإلغائنا.
ــــ خامسًا، معاقبةُ العملاء، بشكلٍ عامّ، على نحوٍ متراخٍ، وبأحكامٍ قصيرةِ الأجل؛ الأمرُ الذي قد "يهوِّن" على البعض فكرةَ التعامل مع العدوّ أو الاتصالِ به. ومؤخّرًا، شعرنا أنّ تناولَ قضيّة التعامل مع العدوّ يجري في أجواءٍ تَشوبها الحساباتُ الكيديّةُ والشخصيّةُ والفئويّة. نحن نفرح فعلًا حين تَظهر براءةُ أيٍّ كان من تهمة التعامل مع "إسرائيل"؛ فهذا هو الهدفُ الأول لحملة المقاطعة في لبنان. لكنّنا لا نريد لملفّ التعامل أن يشوَّهَ على مذبح "صراع الأجهزة،" أو التناتش الطائفيّ، أو الاستفادات الانتخابيّة.
ــــ سادسًا، تقاعسُ قوانا الوطنيّة، في كثيرٍ من الأحيان، عن أخذ مسألتَي "المقاطعة" و"مناهضةِ التطبيع" على محمل الجِدّ. إنّ تراجُعَ "إسرائيل" عن أن تكون عدوًّا مطلقًا لدى قسمٍ من اللبنانيين يعود، في جزء منه، إلى تراخٍ في العمل الوطنيّ والحزبيّ على جبهة المواجهة الثقافيّة مع العدوّ. وهذا ما انعكس أيضًا في الأداة التشريعيّة الرسميّة اللبنانيّة. أفيُعقل، مثلًا، ألّا نجدَ في المجلس النيابيّ عشرةَ نوّاب يعملون على تفعيل "قانون مقاطعة إسرائيل،" الصادر منذ ثلاثة وستين عامًا، وعلى تعديله لجهة شموله التطبيعَ الثقافيَّ والفنيَّ والأكاديميَّ والإلكترونيّ؟
ــــ سابعًا، وأخيرًا، تراجُعُ النظام التربويّ اللبنانيّ عن السياسة المعلنة للدولة اللبنانيّة، منذ اتفاق الطائف على الأقلّ، في ما يخصّ مسألةَ الصراع مع العدوّ الإسرائيليّ. تصوّروا، على سبيل المثال، أنّ محورَ "القضيّة الفلسطينيّة" في منهج التاريخ في الصف التاسع أساسي قد جرى "تعليقُه،" على الرغم من صدور توجيهٍ من وزارة التربية يقضي بإعادة إدراجه. هكذا، إذن، نربّي أجيالًا من الفتيات والفتيان لا تَعرف شيئًا عن جرائم "إسرائيل" منذ 70 عامًا؛ وهو ما سيسهِّل على بعضهم اعتبارَ المقاومين مجموعةً من القتلة وقطّاعِ الطرق، وسيطبِّع في عقولهم فكرةَ الاستسلام و"ثقافةَ" اللامبالاة!
***
أيّها الأعزّاء،
الحكْم لم يصدرْ رُغمًا عن أنفِنا، بل بتواطؤ كثيرين منّا. وقلبُ مفاعيلِه الخطيرة على المدييْن المتوسّط والبعيد ليس مُهمّةَ القانونيين وحدهم، بل هو واجبٌ أيضًا على كلِّ من يسمّي نفسَه وطنيًّا وقوميًّا وتقدّميًّا وشريفًا!
بيروت
*كلمة رئيس تحرير الآداب في مؤتمر صحافيّ عُقد في بيروت في 5 آذار للتعليق على الحكم القضائيّ اللبنانيّ، الصادر قبل شهور، في حقّ المناضليْن نبيل العلم وحبيب الشرتوني، اللذيْن نفّذا حكمَ الإعدام ببشير الجميّل، صيفَ الاجتياح الصهيونيّ للبنان سنة 1982.