فنزويلّا: التحرير والمصير
20-02-2019

 

إنّ ما يجري في فنزويلّا وحولها، وما يمكن أن تؤدّي إليه الأحداثُ المتشابكةُ بكافّة مكوّناتها، من عناصر الإرادة الحرّة أو الخنوع أو الاستعدادِ للتضحية من أجل المصالح الكبرى؛ باختصار: إنّ كلَّ ما يتشكّل منه تاريخُ الأمم ومصائرُها يكشف عن حقيقةٍ جوهريّةٍ تقول بأنّ للحريّة ثمنًا أرخصُه الدماء، وأعلاه هي ذاتها.

وهذه هي الحالة المفارقة التي تقف أمامها فنزويلّا الآن. وفيها أيضًا ينعكس كلُّ تاريخها الحديث والمعاصر. كما تنعكس فيها خصوصيّةُ الصراع من أجل الحريّة والمصير الخاصّ لِما يُطلق عليه اسمُ "القارّة الأمريكيّة الجنوبيّة" أو "الأمريكيّة اللاتينيّة" ــ ــ والاسمان كلاهما يحملان تناقضاتِ إشكاليّة الانتماء الفعليّ للنفس، وهي الحالة التي نعثر عليها في الأسماء والأصول والمعاني، بمعنى سيلان التاريخ وقواه الاجتماعيّة والإثنيّة والثقافيّة التي لم تتكاملْ ولم ترتقِ إلى مصاف القوّة المتوحّدة والمتكاملة. فخلافًا لِما حدث في القارة الشماليّة جرّاء القوّة المتوحّدة والصاعدة آنذاك للأنجلوسكسونيّة البشريّة والاقتصاديّة والثقافيّة، فقد ظلّت القارّةُ الجنوبيّة محكومةً بعبوديّة القوة الإسبانيّة.

وليس مصادفةً أن يبقى شعارُ "الحريّة" أهمَّ الشعارات وأكثرَها حيويّةً وتأثيرًا في الوعي السياسيّ الاجتماعيّ والوطنيّ في القارّة الجنوبيّة: من تحرير العبيد، إلى حريّة التطوّر المستقلّ، فإلى حريّة الوجود الإنسانيّ المستقلّ الذي جرت إهانتُه وإذلالُه على مدار قرون من السيطرة الإسبانيّة، وما زال يعاني محاولةَ إذلاله راهنًا على يد الولايات المتحدة.

لقد قدّمتْ شعوبُ القارّة، وفنزويلّا بشكلٍ خاصّ، تضحياتٍ هائلة. كما لعبتْ فنزويلّا دورًا هائلًا في تقرير مصيرها الروحيّ والثقافيّ السياسيّ. وما يجري فيها حاليًّا يستعيد الإشكاليّة القديمة عن كيفيّة الحريّة ونوعيّتها وغايتها. فتقاليدُ العبوديّة المكبِّلة للقارة اللاتينيّة هي سلسلةُ استعماراتٍ إسبانيّةٍ وأوروبيّةٍ وأمريكيّةٍ – شماليّة، ولكلٍّ من هذه الاستعمارات "مآثرُه" الخاصّةُ في المصير الروحيّ للقارّة. وقد تبدّت صورةُ الكفاح من أجل الحريّة في شخصيّاتٍ تاريخيّةٍ مؤثّرة أمثال: ايدالغو ميغيل (1753-1811) بطل التحرير المكسيكيّ، والفنزويليّ فرانسيسكو دي ميراندا (1750- 1816)، وبطل التحرير الأعظم سيمون بوليفار (1783-1830)، وأنطونيو دي سوكري، مرشال حريّة البيرو العظيم ورئيس بوليفيا (1826-1828)، وفيديل كاسترو (1926-2016)، وتشي جيفارا (1928-1967)، وهوغو شافيز (1954-2013).

كان ايدالغو يوجِّه خطابَه الأوليّ إلى الأمريكيّين ككلّ؛ وكنّا نراه يدعو إلى تحرير الأراضي من السيطرة الإسبانيّة والبرتغاليّة، وإلى توحيدها في دولة أو إمبراطوريّة واحدة تشكّل مجموعَ الأراضي من نهر المسيسبي حتى دول أمريكا الجنوبيّة. واقترح أن يسمَّى ملكًها أو امبراطورُها "انكا،" احتفاءً بهذا الإمبراطور العظيم للحضارة والدولة الإنكيّة.

وإذ تعرّضتْ قيادةُ إيدالغو إلى الهزيمة على يد الإسبان، فإنّها أنتجتْ شخصيّةَ سيمون بوليفار، ذي الأصول الباسكيّة. وقد تنقّل بوليفار في قارّات العالم الكبرى آنذاك، وعاش أواخرَ أيّام الثورة الفرنسيّة. وبعد هزيمة الثورة الأولى ضدّ الإسبان والقضاء على قائدها ميراندا، هرب بوليفار. لكنّه عاد عام 1813 إلى كولومبيا بقيادة 500  مقاتل، استولى بهم على كاراكاس، وأعلن الجمهوريّة. كما سعى إلى توحيد القارّة الجنوبيّة، ولكنْ بمقاييسَ أقلَّ من سابقه ميراندا، وذلك بعد أن حرّر غرناطةَ الجديدة (كولومبيا وباناما) وفينزويلّا وكيتو (إكوادور) وبيرو. ثمّ أصبح سنة 1825 رئيسَ جمهوريّة بوليفيا، ثم رئيسَ كولومبيا العظمى (1819-1830) التي ضمّت كلَّ هذه الدول وأكثر. لقد كان هدفُ بوليفار الأكبر تشكيلَ دولةٍ عظمى مستقلّة، وتحريرَ العبيد، وأولويّةَ القانون، وتطويرَ التعليم. وبعد قضائه على السيطرة الاسبانيّة، واجه "الإسبانَ الجدد،" أي الولاياتِ المتحدة وبريطانيا، إضافةً إلى النخب السياسيّة الضيّقة وأصحابِ المال والإقطاع. بالمختصر، أراد بوليفار، بعد التحرير، أن يكون نابليونًا أمريكيًّا لاتينيًّا، لكنّه لم يفلح.

 

انحدر شافيز من أصولٍ فقيرة، ودخل سلكَ العسكريّة وأثناء الدراسة اهتمّ بحياة بوليفار وخطابه

 

وأيًّا كان النقصُ المحتمل في المقارنة التاريخيّة بين الشخصيّات، فإنّنا سنعثر بلا شكّ على صدى هذه الشخصيّات وأفكارها، وعلى صدى تاريخ الصراع المرير في القارّة الجنوبيّة ضدّ الاحتلال والسيطرة الأجنبيّة، في شخصيّة هوغو شافيز (1954-1013). انحدر شافيز من أصولٍ فقيرة، ودخل سلكَ العسكريّة. وأثناء الدراسة اهتمّ بحياة بوليفار وخطابه. في تلك الفترة وقعتْ بين يديْه مذكّراتُ تشي غيفارا. وفي مجرى خدمته العسكريّة، ضمن الفرقة المخصّصة للحرب ضدّ الأنصار، عثر على كتيّبات ماركس ولينين، وتأثّر بها. وعلى أثر استجوابه أسرى من تيّار "حزب الراية الحمراء،" أخذتْ ميولُه تتعمّق في اتجاه الفكرة اليساريّة الثوريّة الاشتراكيّة.

سنة 1982 شكّل شافيز الحزبَ الثوريَّ البوليفاريّ. في بداية الأمر، قام بانقلابٍ عسكريٍّ فاشل. ثمّ جرّب الصراعَ السياسيَّ، فنجح. وفي مجرى كلّ حياته السياسيّة، كانت الحريّةُ وتقريرُ المصير الفنزويليّ والقارّيّ لبَّ فكرته السياسيّة؛ وهو ما وضعه في صراعٍ عميقٍ ضدَّ الأوليغارشيّة والولايات المتّحدة.

أثار شافيز غيظَ الولايات المتّحدة بتغلّبه على القوى اليمينيّة والعميلة، إلى أن انتهى بالموت (مريضًا أو مسمومًا). وإنّنا نلحظ الشيء نفسه الآن في نيكولاس مادورو: استمرار المواجهة الشرسة امتدادًا لتاريخٍ عريقٍ من الصراع من أجل حريّة فنزويلّا والقارّة الجنوبيّة.

على أنّ ذلك لا يعني أنّ "اليسارَ الثوريّ" هو الوحيد الذي عمل ويعمل من أجل وحدة الحريّة والمصير في القارّة الجنوبيّة، وإنْ كان للأوائل دورٌ خاصٌّ في تاريخ هذه القارّة. ولقد مرّ الصراعُ من أجل الحريّة، بوصفها الشعارَ الجوهريّ لفنزويلّا والقارّة ككلّ، بمراحلَ وانعطافاتٍ حادّة. ومن بين ملامحها الدراميّة التغيّرُ السياسيُّ على مستوى الفكر والمزاج الاجتماعيّ السياسيّ. من هنا الصدامُ العنيف والعميق الذي حوى منذ البداية، بأثرٍ من التاريخ نفسه، على مقدّماتٍ وعناصرَ وأسبابٍ غذّتها أصولٌ إثنيّة وثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة متنوّعة ومختلفة ومتضادّة. ومن ثمّ فإنّ محاولات التيّارات اليساريّة والثوريّة تضمّنتْ هاجسَ المساعي الحيّة لتذليل هذه الأصول عبر بناء منظومة الحريّة والعدالة. وكان من الممكن أن تتحقّق هذه الغاية الكبرى لو استطاعت جهودُ المحرِّرين الأوائل بناءَ الدولة الموحّدة للقارّة الجنوبيّة، كما دعا إليها ميراند وحقّق بعضًا منها بوليفار. إلّا أنّ المسارَ التاريخيّ اللاحق، وطبيعةَ التغيّرات الكبرى التي لازمت التدخّلَ والاحتلالَ المتنوّع الجذور للولايات المتّحدة، عوّقا، وما يزالان يعوّقان، هذا المسارَ الطبيعيّ. وليس مصادفةً أن تترأّس الولاياتُ المتّحدة، إلى الآن، القوى المناهضةَ للفكرة الثوريّة واليساريّة بشكلٍ عامّ، وفي القارّة الجنوبيّة بشكلٍ خاصّ؛ فهي تنظر إلى القارّة الجنوبيّة كما لو أنّها "حديقتُها الخلفيّة" أو زريبةُ "مصالحها الحيويّة."

لقد ضاعت الفرصةُ التاريخيّةُ الكبرى التي وضعها سيمون بوليفار للتوحيد. ومن هنا الضعفُ والصراعُ بين النخب بسبب تنوّع مكوّناتها الإثنيّة والقوميّة وتيّاراتها السياسيّة وعقائدها. إنّ أمريكا الجنوبيّة تشبه الآن تشيتشيكا، وهو مكانٌ جميلٌ في غواتيمالا تحوَّلَ إلى سوقٍ كبيرةٍ للحِرَف اليدويّة الشعبيّة، المتعدِّدة المصادرِ التاريخيّة (من المايا إلى الحاضر)، والمتنوِّعة الألوان. القارّة، إذًا، ذاتُ تنوّع هائل على صعيد الاتجاهات السياسيّة والحزبيّة، ومن الخطأ النظرُ إليها وكأنّها كيانٌ متجانس. غير أنّ ذلك لا يُلغي تجانسَها - على الأقلّ - بمعايير الرؤية الحالمة التي عادةً ما تقف وراء النزعة المتفائلة بالمستقبل. فقد شاهدها تشي غيفارا منذ بداية شبابه عندما طوى مساحاتِها الشاسعةَ على درّاجته البخاريّة، فاكتشف القيمةَ الكبرى للوحدة والتحرّر مصيرًا يلازم حقيقةَ الوجود الفعليّ والمستقبليّ للقارّة.

وبمعنًى آخر، فإنّ التنوّع الكبير في اليسار هناك، على ما نراه مثلًا في تباين الفكرة الوطنيّة الفنزوليّة البوليفاريّة لدى هوغو شافيز عن البرازيلي لولا داسيلفا، أو عن النيكاراغويّ دانييل اورتيغا، أو البرازيليّ ايفو موراليس، لا يُلغي توحّدَه بهموم الحريّة والعدالة... تمامًا كما أنّ اليمين متنوّع لكنّه مهمومٌ بالسلطة والمال.

وترتبط هذه الحالةُ المميّزة لليسار واليمين في القارة الأمريكيّة الجنوبيّة بخصوصيّة تبلورهما، ومن ثم بخصوصيّة مرجعيّاتهما الفكريّة والسياسيّة. فقد كان اليسارُ في القارّة الجنوبيّة محكومًا دومًا بهموم الحريّة والاستقلال، بينما كانت قوى اليمين محكومةً بذهنيّة القوى الكومبرادوريّة. وليس مصادفةً أن يكون اليمينُ، بمختلف أشكاله، أكثرَ استعدادًا للاستقواء والاحتماء بالتدخّل الأمريكيّ ــ ــ وهي حالةٌ تمْكن رؤيتُها على مثال أغلبِ دول أمريكا الجنوبيّة، كما هو جليّ في التاريخ السياسيّ للتشيلي ونيكاراغوا، وكما نراه الآن بشكلٍ "كلاسيكيّ" في الحالة الفنزويليّة. وهذا الأمر يشير إلى طبيعة التناقض الداخليّ في المجتمعات والنخب السياسيّة من جهة، وضعف أو انعدام المرجعيّات الأساسيّة لفكرة الدولة والأمّة وأولويّة مصالحهما من جهةٍ أخرى.

لقد حقّق اليسارُ أغلبَ الإنجازات الاجتماعيّة الكبرى في مسار التطوّر التاريخيّ للقارّة الأمريكيّة، وبلغ ذروتَه في تيّار "اشتراكيّة القرن الحادي والعشرين."[1] وفي المقابل، فإنّ لليمين إنجازاتِه الخاصّةَ في ما يتعلّق بمشاريع "الليبراليّة الجديدة" و"اقتصاد السوق." غير أنّ الصراع بينهما مازال هو مضمونَ الصراع التاريخيّ حول المستقبل. وإنْ جرى تكثيفُ كلّ التعقيدات والجزئيّات الخاصّة بالقارة وتقاليدها السياسيّة الحاليّة، فمن الممكن الخلوصُ إلى الحصيلة القائلة إنّ ملامح الثقافة السياسيّة التي تشكّلتْ في القارّة على مدى قرون هي جزءٌ لا يتجزّأ من تاريخ شعوبها وثقافتها وتصوّراتها عن العالم؛ وهي تصوّرات اشتركتْ فيها أجيالٌ وتيّارات دينيّة ودنيويّة متعدّدة ومُختلفة. وبالتالي، فإنّ المستقبل فيها يبقى جزءًا من رهان البدائل الذاتيّة.

إنّ للقارّة الجنوبيّة مشاريعَها وبدائلَها الخاصّة، والتجربة الفنزويليّة هي أحدها، لكنّها مازالت في طور التكامل الذاتيّ لكونها مسارًا معقّدًا يحمل في أعماقه كلَّ الأماني والمآسي منذ زمن سيمون بوليفار وحتى اليوم. وإذا كان التيّارُ اليساريّ البوليفاريّ الذي بلوره هوغو شافيز يعاني تعرّجًا أو إحباطًا، واقعيًّا أو بسبب التدخّل والحصار الأميركيّ الفظّ، فإنّ الأمر الذي يرتقي إلى مصاف اليقين هو أنّ الحريّة لن تكتمل ما لم تتكامل الأمّةُ والدولة. حينذاك تكون الحريّة هي المصير والمصير هو الحريّة.

موسكو


[1] مصطلح سياسيّ لوصف المبادئ الاشتراكيّة التي دعا إليها هاينز ديتريخ عام 1996، ومن ثمّ تبعه عددٌ من زعماء أمريكا اللاتينيّة مثل: هوجو تشافيز، ورفاييل كوريا (رئيس الإكوادور)، وإيفو مورالس (رئيس بوليفيا). تسعى اشتراكيّةُ القرن الحادي والعشرين إلى معالجة إخفاقات الرأسماليّة الصناعيّة واشتراكيّة القرن العشرين على حدّ سواء، وذلك من أجل حلّ المشاكل الملحّة للإنسانيّة، مثل الفقر والجوع والاستغلال والظلم الاقتصاديّ والتمييز على أساس الجنس والعنصريّة وتدمير الموارد الطبيعيّة وغياب الديمقراطيّة التشاركيّة.

ميثم الجنابيّ

أستاذ الفلسفة في الجامعة الروسيّة في موسكو، ومؤلّف عدد من الكتب، منها: الفكرة الإسلاميّة المعاصرة وآفاقها، فلسفة الفكرة القوميّة العربيّة الحديثة، التآلف اللاهوتيّ الفلسفيّ الصوفيّ عند الغزاليّ (باللغة الروسيّة)، تأمّلات حول الحضارة الإسلاميّة، الزمن والتاريخ: نقد الراديكاليّة والأوهام المقدّسة، الأشباح والأرواح: تجارب المثقّفين والسلطة.