فيدرين التي...!
21-08-2016

 

 

استيقظتُ فجرًا على صوت مؤذِّن مسجد الحيّ. تلمّستُ الطاولة قرب سريري وعثرتُ على الترانزستور الصغير. كان المطر ينهمر بغزارة، ولا بدّ من أنّ أغصانَ شجرة المشمش ترسم على جدار بيتنا الخارجيّ ظلالًا غريبةً بفعل أضواء البرق البعيد؛ هذا ما أخبرني به يومًا صديقي الساكنُ في المبنى المقابل، ومن المؤكّد أنّ المشهد يتكرّر اليوم. أدرتُ مفتاحَ الراديو، فأصدر صفيرًا قصيرًا تلاهُ صوت رجلٍ يتحدّث عن فوائد الزواج المبكّر ورأيِ الدين فيه، ما ذكّرني بقول أحدهم: "الزواج مبكّرٌ دائمًا." ابتسمتُ رغمًا عنّي وأنا أتنقّل بين المحطّات القليلة التي استطاعت موجاتُها الصمودَ في هذا الجوّ العاصف. وغفوتُ ثانيةً، لأصحو في السابعة والنصف صباحًاعلى صوت جرس المدرسة القريبة.

قليلةٌ هي الأيّام التي لا أستيقظُ فيها فزِعًا من كابوسٍ يلاحقني منذ سنوات طفولتي. فيه أرى نفسي في حديقة الأطفال، وأمّي تراقبُني من بعيدٍ مبتسمةً، وهي تشجّعني على تسلّق درجات السلّم الحديديّ إلى ما كنّا ندعوه "الكرة الأرضيّة" ـــــ وهي كتلة كرويّة ضخمة تتوسّط الحديقة، وتغري الأطفالَ بالتعمشق على الدرجات المحيطة بها من كلّ صوب. حين أصل القمّةَ معلنًا انتصاري، أسمعُ صفيرًا حادًّا، وأرى أمّي تطير، وأجدُني ملقًى على الأرض، والظلامُ يغمرُني، والطنينُ يملأ أذنيّ. أذكر أنني لم أستطع النهوض، ولم أتوقّف عن الصراخ، حتّى فقدتُ الوعي. لم يكن كابوسًا من نسج الخيال، أو تفاعلاتِ فيلمٍ عنيفٍ شاهدتُه قبل النوم، بل تلك حقيقة ما جرى حين فقدتُ أمّي، ونظري، وأشياءَ لا تُحصى في ذلك اليوم.

عمري الآن ثلاثون عامًا، ومازال يراودُني هذا الكابوس. إلّا أنّني أقايضُ خوفي برؤيتي وجهَ أمّي قبل أن تدمّرَه شظايا التفجير، فأستبعدُ باقي المشاهد، وأُبقي عليه كأنّه أيقونةٌ فوق جدارٍ حجريٍّ قديم. هكذا صرتُ ممتنًّا للكوابيس.

يسألني الناس عن يوميّاتي وتفاصيلِ حياتي، فلا أعرف بماذا أجيب. "كيف تلبس ثيابَكَ؟ كيف تأكل؟ كيف تستحمّ؟ كيف تسير في الطريق؟..." وأسئلة أخرى أكثر تماديًا حول مدى رغبتي في أن أعود مبصرًا كما كنتُ. وأذكرُ أنّ جارنا، والدَ صديقي اسماعيل، سألني هذا السؤال فأجبته: "لا أرغب. لقد اعتدت الأمر." استغربَ: "وكيف يرفض الأعمى عودةَ البصر إليه؟!" فلم أستطع إقناعَه رغم إسهابي في الشرح:

"لقد فقدتُ بصري في سنٍّ مبكرة، وأكاد لا أتذكّر من عالم النور أيَّ شيء. صرتُ ابنَ الظلام والصوت والرائحة واللمس. لقد كسبتُ حواسَّ جديدة، لا أعرف اسمًا لها، عوّضتْني من عالم الضوء. صارت تربتي، وامتدّت جذوري فيها عميقًا، ولا نيّة عندي ـــــ بعد هذا العمر ـــــ للاستغناء عنها..." وحين قاطعني متسائلًا: "وما الذي تشتاق إلى رؤيته من عالم النور؟" قلتُ: "ظلّي،" وضحكتُ. لم يفهم، ولم يتوقّف عن الأسئلة إلّا حين سألتُه: "كم عمرُكَ يا عمّاه؟" "خمسة وستّون عامًا،" أجابني بحرج بدا واضحًا من نبرة صوته. فسألتُه مجدّدًا: "أأنتَ مستعدّ للتخلّي عن بصرك اليوم؟" ران الصمتُ في الغرفة، وعرفتُ أنّ أبا اسماعيل أُسقط في يده، وحدستُ بغريزتي ـــــ التي اكتسبتُها من ضمن ما اكتسبته ـــــ أنّه ينظر إليّ بشيء من الإعجاب والتأثّر، فخجلتُ. ثمّ شعرتُ به يتحرّك، وتوقّعتُ أنّه يودُّ معانقتي، ففتحتُ ذراعيّ على اتّساعهما وابتسمتُ. غمرني بقوّة وقبّل خدّي، ثمّ سألني بتردّد: "كيف عرفت أنّني سأعانقك؟" أجبتُه: "هذا ما كنتُ أحاول شرحَه لك."

بعد كلّ حوار من هذا النوع، كنتُ أعود بذاكرتي إلى طفولتي، حيث الضوءُ الوحيدُ المتبقّي. ولم يكن هناك الكثيرُ من الأحداث، لكنّ وجودَ فيدرين، ابنةِ الجيران التي كنتُ ألعب معها، كان كافيًا بالنسبة إليّ.

اسمُها غريبٌ بلا شك! كانت أمّها تقول إنّها أطلقتْه عليها لأنّها قرأته في الجريدة بالمصادفة قبل يومٍ من ولادتها. ولسبب مجهول وافق الأبُ عليه، علمًا أنّه لا يوافق عادةً على أيّ شيء. أمّا أبي فكان رأيه: "جارتنا لا تعرف ماذا قرأَت. من المؤكّد أنّها قرأتْ شيئًا آخر، وعلِق في رأسها على هذا الشكل. هل مِن عاقلٍ يسمّي ابنته فيدرين؟!" وكان لأمّي اللطيفة رأيٌ آخر: "فيدرين اسم جميل."

***

إذًا، ماتت أمي في الحادثة وأصبحتُ يتيمًا، فاقدَ البصر، شبهَ عاجزٍ عن المشي لسنوات. في الحقيقة كنّا يتيمين: أبي وأنا. هذا ما كان يردّده أبي لأصدقائه كلّما ذُكر اسمُ أمي في أيّ حديث. لم يكن أبي يحتلّ من بقعة الضوء الصغيرة في ذاكرتي إلّا المركز، بينما باقي المساحة كانت لابتسامة أمّي، ولفيدرين التي تمدّدتْ لاحقًا إلى ساحات الظلمة وأضاءتْها بحضورها المحبَّب. أذكرُ أنّ أوّل خروج لي من المنزل، بعد ثلاث سنوات من العلاج، كان إلى قبر والدتي بصحبة فيدرين التي بقيتْ منذ ساعات إصابتي الأولى تزورني وتلعب معي وتقرأ لي القصص وتحكي لي ما تشاهده على التلفاز. ولولاها لفارقتُ الحياة كمدًا منذ اليوم الأوّل لمعرفتي بهول المصيبة التي نزلتْ بي.

كانت المقبرة قريبة، وكانت فيدرين قد اشترت ــــ من دون سؤالي ــــ باقةَ أقحوان أبيض. ولم أعترض؛ فوالدتي كانت تزرعه في حديقتنا. وحسب معلومات فيدرين: الأقحوان من أزهار الجنّة. وكان هذا سببًا آخر لأوافق عليه. في الطريق كانت تصف لي الشارعَ والمارّةَ والدكاكين والأطفال. وكانت رائحةُ عطرها تملأ أنفي. وكنتُ عاجزًا عن شكرها، مكتفيًا بالضغط على أصابع يدها التي تمسك بأصابعي، وتحثّني على متابعة السير.

بعد خمس سنوات من وفاة والدتي، توفّي والدي جرّاء إصابته برصاصةٍ في الرأس حين كان عائدًا من عمله. ويقال إنّه بقي حيًّا لعدّة ساعات في غرفة العناية الفائقة، وإنّه بقي يردّد اسمي طوال الوقت. هناك من قال إنّه اغتيل. لكنّني لم أعرفْ سببًا يجعل أحدًا يغتال مدرِّسًا لمادّة التاريخ! هكذا وجدتُ نفسي وحيدًا تمامًا؛ فلا أخوةٌ لي ولا أخوات. وكلُّ أفراد عائلتي لأبي وأمّي ماتوا في الحرب، أو غادروا البلادَ على عجل وتركوا خلفهم كلّ شيء. ومن جديد، وجدتُ فيدرين قربي لتهتمّ بي. والحقّ أنّ عائلة فيدرين كلّها كانت قربي. كان بابُ بيتهم يقابل بابَ بيتنا تمامًا. وكان المبنى قد تعرّض لشظايا العديد من القذائف التي سقطتْ حوله، فجعلته مكانًا غيرَ آمنٍ بالنسبة إلى أغلب سكّانه، فغادروه بحثًا عن الأمان في غير حيّ.

من لحظة وفاة والدي أصبحتُ من مسؤوليّات أمّ فيدرين وأبيها، وصرتُ أقضي معظم وقتي في منزلهم، وأنام في منزلنا. وبدأتْ علاقتي بفدرين تأخذ شكلًا مختلفًا، فصرتُ أنتظرُ عودتها من المعهد على أحرّ من الجمر. وبدأتُ أشتعلُ غيرةً إنْ تأخّرتْ، وأتوتّرُ بشكلٍ رهيب إلى أن أسمعَ صوتَ خطواتها على السلّم، وأشمَّ رائحةَ عطرها الذي صرتُ أميّزُه من بين آلاف العطور، وأنتظر بلهفةٍ سماعَ المفتاح يدور في باب بيتي قبل دخولها إلى بيتهم لتطمئنَّ عليّ ولتضعَ بين يديّ بعضَ الطيّبات التي تحرص على جلبها إليّ كلّ يوم. أمّا أجملُ اللحظات فكانت حين أشعر بيدها فوق وجهي تمسح عليه بهدوء، ثم تقبّلني على خدّي. وكنتُ أستسلم لها، ولا أتجرّأ على مقابلتها بالمثل.

***

كانت فيدرين قد صارت في الثالث الثانويّ العلميّ. وكانت الامتحاناتُ على الأبواب، ومن شدّة خوفي عليها من الرسوب ــــ رغم مستواها الجيّد ــــ صرتُ أصلّي لها كلّ يوم، أنا البعيدَ كلَّ البعد عن الدين. وحين ذكرتُ لها هذا الأمر ضحكتْ بمرح، وضمّتني إلى صدرها قائلةً: "الله لا يحرمني منّك." ثمّ فوجئتُ بها تطبع قبلةً خفيفة فوق شفتيّ، قبل أن تهربَ إلى بيتها، وتتركني وحيدًا، وطبولُ الفرح تقرع في صدري، ودموعي تملأ عينيّ.

بعد هذه الحادثة، تجنّبتني فيدرين يومين متتالييْن. كانت هذه مدّةً طويلةً جدًّا بالنسبة إلى شخص اعتاد وجودها حوله طيلة الوقت. لكنّي التزمتُ بيتي، الأمر الذي لفت انتباهَ أمّها التي سألتني عن سبب اعتكافي، فقلت: "كي لا أشغلَ فيدرين عن الدرس."

في ظهيرة اليوم الثالث، كنت كالعادة أنتظرُ سماعَ صوت دعساتها حين عودتها من المعهد. لكنّني سهوتُ قليلًا، ورأيتُ حلمًا جنسيًّا عظيمًا جعلني مثارًا إلى أبعد حدّ. في تلك اللحظات دخلتْ فيدرين البيت، ولم أنتبهْ إليها إلّا متأخّرًا. فجأة شعرتُ أن أحدًا يحاصرني بنظراته من بعيد. تمالكتُ نفسي وقلت: "فيدرين! أنتِ هنا؟"

كنتُ على ثقة بأنّها فيدرين. لكنْ أين عطرها؟! وتذكّرتُ أنّني لم أشمّه منذ هربتْ بعد تلك القبلة. قلتُ وأنا أمدّ يدي أمامي: "فيدرين." شعرتُ بالهواء حولي قد تخلخل، وبنسمةٍ خفيفةٍ لامستْ وجهي قبل أن أسمع صوت خطوات تبتعد، ليتبعها صوتُ الباب يُغلق بهدوء شديد. لم أكن على خطأ؛ فمن المستحيل أن أخطئ بفيدرين. وقدّرتُ أنّ رؤيتها لي، وأنا على هذه الحالة، جعلها تنسحب خجلًا منّي واحترامًا لخصوصيّة الوضع. وما هي إلّا لحظات حتّى سمعتُ صوتَ المفتاح يدور في قفل الباب ثانيةً، ثمّ صوتَ إغلاقٍ وقَفلٍ من جديد، ثمّ وقْعَ خطواتٍ سريعةٍ سبقتْها موجةٌ من العطر اجتاحتني وتغلغلتْ بي. ولم أكد أستوعب ما يحصل حتّى وجدتُها تطوّقني بقوّة، وتخلع عنّي ثيابي بجنون. وخلال ثوانٍ كان عريُنا يجمعنا فوق سريري القديم الذي بدأ يستغيث.

***

بقينا معًا لأكثر من ساعتين، وقلنا كلّ الذي تجنّبنا قولَه منذ سنوات. بكيتُ فوق صدرها كما لم أبكِ من قبل. ولا أجد اليوم وصفًا يليق بما عشناه في ذلك اليوم سوى القول:

إنّ الحبّ لا منطقَ له، وإنّ الحياة أجملُ من أن تُبدَّدَ بالهروب من النفْس، وإنّ السعادة كنزٌ يَفْنى إنْ لم نَغرفْ منه، وإنّ الناس كاذبون جبناء في أغلب الوقت، وإنّنا حطّمنا جدرانَ خوفنا بأبهى طريقة، وإنّ الثورة الحقيقيّة هي الثورةُ على النفس، وإنّ الله ـــــ إنْ وُجد ـــــ فهو معنا، وإنْ لا شياطينَ إلّا في رؤوس مَن يبحثون عنها، وإنّ أجمل المخلوقات الأنثى، وإنّ اكتمالها بالرجل لا ينقصُ من جمالها أيَّ شيء.

وعرفتُ لاحقًا أنّ الحياة تكون لئيمةً أحيانًا، وأنّ أرقى النظريّات حول الوجود والكون هي ما تقوله العصافيرُ والفراشاتُ والأرانبُ والزنابقُ والينابيعُ واليعاسيبُ وبناتُ آوى وقوسُ قزح، وأنّ الأديان بدعة بشريّة الربُّ منها براءٌ براءةَ الذئب من دم يوسف؛ وإلّا فما الحكمة من موت فيدرين بعد أيّام قليلة بهذا الشكل السخيف، وهي تعْبر الطريق، فتصدمها سيّارةٌ سوداء يقودُها أعمى بصيرةٍ، يماثل سوادُها سوادَ عالمي الذي أقبع اليوم فيه؟!

ما معنى أن يموت المرء قبل ساعات قليلة من امتحانٍ حضّر طويلًا له؟!

اللاذقيّة

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).