كنتُ في الثالثة حين قمتُ بأوّل زيارةٍ إلى زنزانته. لم أكن أعرف معنى "السجن" قبل ذلك إلّا من جواب أمي حين أسألها عن أبي. لم أكنْ على درايةٍ أنّ السجن هو ذلك المكانُ الضخمُ الذي يوضَع فيه المقاوم دفاعًا عن وطنه، فيلاقي شتّى أنواع التعذيب والحرمان. ولكنّني لم أكن أعلم أنّ مَن يتعذّبون يقبعون خارج أسوار السجن أيضًا.
غير أنّ زيارتي للسجن في عمر الثالثة هي وحدها التي أثبتتْ كلَّ هذه المعرفة.
***
لونا الشفق الأحمر والزهريّ، التقيا في السماء ذاك الصباحَ الباكر. كانت الساعة تقارب الرابعةَ فجرًا. وكانت أمّي توقظني دائمًا قبل ساعةٍ من ذلك الوقت، فتساعدني في اللبس، وتجهّزني بالأكل والألعاب. وكانت تعطيني، إلى جانب ذلك، حقيبةَ أبي، التي تضع له فيها ملابسَ، وكتبًا، وألبوماتِ صورٍ لنا (وهذه ستكون مفيدةً جدًّا خلال اليوم)، ثمّ تُخرجني إلى الشرفة لأنتظرَ حافلة الذهاب.
وكنتُ أحيانًا أبيتُ في القدس في اليوم الذي يسبق زيارتي إلى أبي، كي لا تضيع حافلةُ الصباح.
أنمار في حضن والدها
لا أتذكّر من رحلة الحافلة سوى أميالها الطويلة؛ فالمسافةُ بين بيتنا وسجنِ النقب (الواقع في أقصى جنوب فلسطين) تحتاج إلى خمس ساعات لاجتيازها.
وكانت صديقاتُ أمّي اللّواتي يأخذنني، عادةً، للزيارة، يبذلن جهدهنّ كي أبقى مستيقظةً، فيحدّثنني عن أهميّة ما يفعله أبي لتحرير الوطن، وأنّه مسجونٌ بسبب نضاله من أجل تحرير فلسطين.
لكنّ أحاديثَهنّ لم تكن تُسلّيني، فأغرق في النوم.
لكنني أذكر أنّني صحوتُ في إحدى المرّات على أصواتهنّ تناديني: "راحت عليكِ يا أنمار تشوفي الجمل وانت نايمة!" صحوتُ وأنا وشك البكاء؛ فلقد شاهدتُ صورةً عن حيوان الصحراء الجميل، ولكنّني لم أره قطّ. ولقد أحزنني عدمُ رؤيته، بقوائمه الطويلة، وظهره الغريب. يومها، بدا لي أنّ الرحلة لن تكون سعيدة.
***
لا تسعفني ذاكرتي على استجماع كلّ ما حدث عند وصولي السجنَ الثامنة صباحًا. طبعًا أتذكّر المدخلَ الحديديّ، وتفتيشَ حقيبتي، وزيَّ الجنود المخيف. وأذكر أنني تساءلتُ عن سبب وجود البواريد، وعمّا إذا كنت سأرى أبي فور دخولي.
هذه التفاصيل المشتّتة، التي أحاول أن ألملمها الآن، لا تزال هي الشرارةَ التي تدفعني، بعد ستة عشر عامًا، إلى كره الاحتلال بشكل متزايد.
انتظرتُ عشرَ ساعات! لا أذكر من الساعات الأربع الأولى سوى أنني جلستُ خارج غرفة الزيارة في انتظار أن ينادي الجنديُّ اسمي كي أدخل. أما الساعات الستّ التالية، فقد كانت أمرًا لا ينتمي إلى هذا العالم.
كان من المفترض أن ينزل أبي إلى غرفة الزيارة عند الثانية عشرة ظهرًا. لكنّ ذلك لم يحدث. تقلّبتْ أمامي وجوهٌ كثيرة وأنا في قاعة الانتظار، ولم يكن بينها وجهُ أبي. شعرتُ بمللٍ شديد، فحاول ممثّل المعتقل تسليتي. لكنّني كنت أكرّر عليه: "وين بابا؟ بدّوش يجي؟" وكان يجيبني: "عالطريق."
لكنْ متى؟
أمضيتُ وقتي أحاول التسلّي بأيّ شيء. تارةً أتحدث مع ممثّل المعتقل، الذي كان لطيفًا. وتارةً أحدّث صديقتي، التي أتت هي أيضًا لزيارة والدها. وانتهى بنا الأمرُ إلى فتح الحقائب (وجدنا الزعتر والمريمية مخبّأيْن)، والعبث بما في داخلها، وتصفّحِ ألبومات الصور.
أخذنا نراقب المساجين والفرحةُ تغمر وجوههم بلقاء أحبّتهم، وذلك على نقيض الجنود ذوي الوجوه الشاحبة. غفوت وأنا أراقب هذه المشاهد المتكرّرة، واستيقظتُ وكلمةُ "أبي" لا تفارق شفتيّ.
***
عشرُ ساعاتٍ مرت وأنا أتنقل بين الانتظار خارج غرفة الزيارة والانتظار داخلها، وفي رأسي الآفُ الأفكار الهائمة التي تسأل عن مكان أبي، وعن السبب الذي منعه من المجيء في الوقت المُحدّد.
ظلّلتُ أقلّب وجوهَ الوافدين من الأسرى. وفجأةً، لمحتُه!
جلستُ على الشباك الذي يفصلني عنه. سألني عن أمّي، عن أختي الصغيرة، عمّا جلبته معه في الحقيبة. عددتُ له: ألبومات صورنا، زعتر، مريميّة،... وبعد ساعات الانتظار الطويلة، سمحتْ لي المجنّدةُ بعبور القضبان لكي يقبّلني قبل مغادرتي. وغادرت.
***
أثناء جلوسي مع أبي، قصّ عليّ سببَ تأخّره. فقد طلب من محاميته أن تؤجّل موعدَ المحكمة لكي يراني، فأخذ القاضي أوراقَه ولم يعد، ما اضطرّ أبي إلى انتظارها. أمّا أنا، فظننتُ أنّه أخذ قيلولةً بعد الغذاء كما كان يفعل في منزلنا. وكنتُ أقول لممثّل المعتقل: "بابا ما بحبّني، بابا بحب ينام بعد الأكل، وهو راح ينام وتركني!" وما كانت هناك أيُّ وسيلة لتقنعَني بعكس ذلك.
بعد عشر ساعات، تأكّدتُ أنّ أبي يحبّني بالفعل، ولكنّ الاحتلال هو الذي أجبره على التأخر، وأجبرني على الانتظار.
***
غادرتُ، ولكنّ أثرَ تلك الزيارة لم يغادرْني إلى اليوم. بل أستطيع أن أجزم أنّها جعلتْ تلك الطفلةَ، ابنةَ الأعوام الثلاثة، مُمتلئةً بكميّة حقدٍ لا تسع جسمَها الصغير، وشحنتْها بطاقةٍ هائلةٍ على مقاومة الاحتلال طوالَ العمر الذي ستحياه.
فلسطين المحتلّة