الرؤيا والكلام:
• يا بنيّ: "حطّ اللهُ السرَّ، وأغنى المعنى."
أنظر...
كنتُ أنظرُ في عينيَّ كالأبله. أسحبُ جفنيَّ بقوّة. أكتبُني فوق الرصيف عبارةً وحيدةً أليمةً. رأيتُ أعمدةَ الكهرباء التي تتراصُّ في زحام صمت الليل المخيف، والشوارع الجانبيّة الخالية من المارّة.
أنظر...
لم يكن غيرُ العتمة، وصوتِكِ الوحيدِ يا أمّي، وشالِكِ الحرير، وانتظارِكِ المرتبِكِ لعودتي أخيرًا. انحناءةِ ظهرك حتَّى آخر اليوم، في الأرض المفروشةِ بالغناء والخضار.
فهل تجيئين في عبارةٍ مغزولةٍ بالنشيج؟ أمْ في كيس دم بمستشفًى ما؟
هل تجيئين كما أرغب، أو كما ترغبين؟
***
حين عبرتُ إليك من حائطٍ في الجدار المقابل لغرفتك، كنتُ أفتِّشُ عنّي معك. أفتِّشُ عن الحكاية التي كنتِ تروين. أبحثُ في الكلمات وسط بهاءِ الذكريات. حتّى في تلك الليلة الأخيرة، وكان البحرُ هادرًا، كنتِ تضربين رأسي بالخرافات والتعاويذ، تقرأين البحرَ لي، والماءُ في غمرة الحزن يفيض عليَّ ضفّتيْن، يزرعُكِ ثانيةً في أرضي العطشى لحنانك.
• نعم رأيتُ.
• هكذا يكون جوهرُ النظر يا بنيّ؛ فالوقت اكتشافٌ بين الصدق والخداع.
وأنت تمشين على قدميْن حافيتيْن من شارعٍ إلى حارة فزقاق، إلى حنين وعمر تنادين.
تتأمّلين الكلامَ في أوّل التفاصيل، عن الشيخ، ليقرأ لي سورةَ الفتح. هل تذكرين؟!
أنا أذكر كلَّ التفاهات الصغيرة التي كنتُ أفعل: منذ الحَبْو على درجات السلّم، حتَّى منتصف ذراعك الذي يلقفني في رحمةٍ وحنان. وما زلت أبكي.
• كان الضجيج، والناسُ يمرّون. وفي وسط ذلك لم أَعد ألمحُكِ.
أسقطُ من عيونكم أيّها العابرون. أختنق في قلب جداريْن، وأموت بلا أيّ جرح.
• مرّ القطارُ، ورؤوسُ الراكبين، والخيلُ، والجنودُ، والتاريخُ حين يرتّب الحكاية ولا يدخل التفاصيل.
في الممرّات والخُطى الوئيدة، في الحلم كنتُ وحيدًا، حين تسألني.
• ...
ثمّ تعود وتسألني...
أترك يديَّ بين أصابعها الطيّبة، مستسلمًا لحنانٍ غريب.
• يا بنيّ، لا تكن فظًّا غليظَ القلب.
ازدحمتْ في رأسي يداكِ، وأنت تفرّقين الخصلاتِ واحدةً واحدة. تنظرين في وجهي باسمةً، وفي أمّ عيني تقطرين مدامعَكِ مدائنَ من الورق المكدَّسِ في ظنوني.
مساحةٌ باقيةٌ تمنحنا الثواني التي تلهث، لِتضمّني في حضنها أخيرًا. في الممرّ الطويل نقف تودّعنا الذكرياتُ. نتحاور. لا أذكر بالتحديد عمّ كنّا نحكي. هي آخرُ الكلمات. لم أكن أسمع غيرَ جنوحِها المستمرِّ في النواح. كان المساء ــــــــ ككلّ مساء حزينٍ ـــــــــ مولعًا بالحكاية. نواصل النظرات، العبارات، الكلام نفسه يغيب في غياهب الحزن. تقبض على يدي بقوّة، برعب عينيها حين تترصّدان الثواني التي تنهمر كالمطر. لم أعد أسمعها وسط ضجيج المارّين في الكلمات. حملتُ الحقيبة، على أمل السير باتّجاه المغيب. غمرَتني في أنينها الباكي، حضنها المرتعش. وجيبُ قلبها الدامي يدقُّ بسرعة خاطفة. في لحظاتنا الدامية... وقفنا.
• يا بنيّ، حطَّ الله السرّ وأغنى المعنى.
تركتُها تبكي في حضني المنهَك. ارتفعتْ أنّاتُها والبكاء. دموعُها بلّلتْ أطرافَ ثوبها المرسوم جدائلَ جدائلَ. أحاولُ أن أفلت يدي من يدها. ظلّت تخلط بقايا الثواني التي تمضي، بأصابعي الواهنة الصامتة كالشتاء. لمّا سقط شالُها الحرير، انكشف لؤلؤُ وجهها الحزين، وتهدّل شعرُها.
• يمرّ الوقتُ، يا أمّي.
تنهار باكيةً. أتماسك، محاولاً الكلام من حنجرةٍ مُثخنةٍ بالجراح. يشتدّ نحيبُها. أبكي بلا طائل. تعضّ على شفتَيها في لوعةٍ وأسًى. تصنع الدموع. توغلها في الحنايا نهرًا.
• مضى الوقتُ يا أمّي...
تُصلح شالها الحريرَ على كتفيها، وتمسح وجهَها الذي ينهمر، وتقف ثابتةً في الوعي والتذكّر.
أتحرّر من الكلام الباقي والعمر. أنفلتُ من يديها. أنفلت من الوقت والمكان والحصار. أحاول المُضيَّ خطوةً بعيدة عنها. تمسك أطرافَ أصابعي والثواني. تصنع نسيجًا من الأسماء، والنشيج، والنصائح.
• يقول الشيخ: يا بنيّ حطّ اللهُ السرّ وأغنى المعنى.
الوقت فراغُكَ بين ما مضى وما سيكون. غيبةٌ للأنا في الجسد، واعتصارُ الجسد بالمُشاغلة. واعلمْ أنّ ثمرة الجسم تفّاحة القلب؛ فلا تكن غيرَ ما أردت.
***
في التراب الفصيح، ألمحُ خطوتَكِ تسيل مع الرمل، تسيل وتدخل البحر. أرفع قلاعَ مركبي الفقير، وأعاود الحنينَ إلى الطفولة.
أحملُ حفنةً منكِ وأمضي. أتساءل إنْ كنتِ هنا الآن في نهار الذاكرة، أمْ في عتمة العمر؟ أسحبُ منكِ الأنفاسَ بفمي، وأدقّ فوق صدري بيدك، وفوق صدرك بيدي. أدعكُ وجهَكِ الصامتَ الخالي. أرى عينيك المفتوحتين، في عينيّ، صامتتيْن. تنظرين باسمةً. أدخلُ من باب الصمت الموارب، إلى حجرة الدفن.
***
كنتِ جثّةً هامدةً، وعروقُ الدم الأحمر في كفِّكِ اصفرّتْ.
جلستُ على عتبات الدار، في الممرّات والأرصفة، في كلّ الأماكن التي رُحنا وما رأيتك.
اندسّت عيونٌ خلف الموت تراكِ، خلف أفئدةٍ تلهث وتذوب.
كانت عيناك ذابلتين بما يكفي لأن أراكِ. ثمّة صوت يخرج من غفوة رجلٍ ضرير.
خطًى تسبق الركض، وفضاء غيم.
ماءٌ يسيل على ضفّتَين.
• يا بني حطّ الله السرّ وأغنى المعنى.