هاملتْ عابرًا جنسيًّا؟  الفُرص الضائعة في عرض "هاملتْ" في كنيسة القدِّيس بول
11-09-2019

 

ماذا لو غدرت الشخصيّاتُ على خشبة المسرح بتوقّعاتنا النمطيّة: فرأينا هاملتْ مؤنَّثًا تارةً، ومذكَّرًا تارةً أخرى؟ وماذا لو رأينا عمَّه، الملكَ الإسكندنافيَّ، أسودَ اللون؟ 
كان من الممكن، في هذه الحالة، أن تكون النتيجةُ تقديمَ النصّ الشكسبيريّ الأشهر، هاملت، برؤيةٍ جديدةٍ تُسائل انحيازاتِ المُشاهد وتنقدُها، وتقدّمُ خلخلةً للهويّات النمطيّة والسائدة. ولكنّ الحال مع العرض الذي نحن في صدده كانت العكسَ تمامًا.
فقد قدَّم المُخرجُ البريطانيّ دانيل وايندر، في عرضه على مسرح أيريس (الذي يتّخذ من الساحات المختلفة لكنيسة القدّيس بول في لندن خشبةً له)، هاملت عابرًا جنسيًّا،[1] عن طريق إسناد الدور إلى ممثّلةٍ عابرةٍ من الذكورة إلى الأنوثة، وقدّم كلوديوس وهوراشيو أسودَي اللوْن. فغدر منذ هذه البداية الموفّقة بتوقّعات المُشاهد في ما يتعلّق بالهويّات وثباتها. فهاملتْ، مثلًا، ظلّ رجلًا في المَشاهد الأولى، ولكنّه - في المشهد الذي يجمعه بهوراشيو حين يتحدّثان عن شبح أبيه – خلع قميصَه الرجوليّ، لتبدو تحته ثيابُ النساء التي تُظهر تكويناتِه التشريحيّة الأنثوية، وغيّر أداءه، فوجدناه امرأةً (وإنْ لم تخْلُ من ملامح الذكورة). فكأنّ المُخرج والممثّلة يقولان لنا إنّ الأمور ليست دائمًا على ما تبدو عليه. وبالمنطق نفسه، تأتي مفاجأةٌ مبكّرة، وهي أنّ عمَّ هاملت الأبيض هو كلوديوس الأسود.
إلّا أنّ العرض أخفق في تتبّع أيٍّ من هذه الخيوط، وانتهى إلى تكريس الرؤى السائدة للهويّات الجنسيّة والعرقيّة بدلًا من نقدها أو زعزعتها.

 تأنيثُ هاملت؟
لم يأتِ العرضُ بجديدٍ في تأنيث هاملت. فقد سبق أن قدّمتْ ممثّلاتٌ دورَ هاملتْ على خشبة المسرح منذ القرن التاسع عشر.
أمّا على شاشة السينما، فمنذ مطلع القرن العشرين لعبتْ سارة برنار الدورَ في فيلم هاملت (أُنتج في العام 1900). وتوالت الممثّلاتُ على الدور: فمنهنّ مَن قدّمنه رجلًا، ومنهنّ مَن قدّمنه امرأة، ومنهنّ مَن قدّمنه متجاوزًا رجولتَه أو ثنائيّةَ الذكر والأنثى، أو استغللنَ الفارقَ بين جنسهنّ وجنسِ الشخصيّة في النصّ الأصليّ، ليقدّمن تأويلًا جديدًا للنصّ، وتفكيكًا جديدًا لمفاهيم الجنس والنوع وحضورهما في الهويّة والأداء.[2]
غير أنّ عرضَ دانيل وايندر لم يقدِّم أيًّا من ذلك. فمأساةُ هاملت هي مأساةٌ ذكوريّةٌ بامتياز، تبدأ بالتماهي التامّ مع الأب (حتى بالاسم). وهذا التماهي يؤدّي إلى رفض هاملت غيابَ أبيه (وهو ما يَظهر، مثلًا، في رفضه نزعَ ثياب الحداد)، فيكون شبحُ الأب حاضرًا بشكلٍ نفسيّ مع هاملت قبلَ أنْ يحضرَ بشكلٍ ميتافيزيقيّ على خشبة المسرح ويطالبَ ابنَه بالثأر، لكنّ ابنه يعجز عنه.
يمكننا بسهولة أن نقدّم قراءةً فرويديّةً لاكانيّةً تستند إلى قراءة فرويد الشهيرة لهاملت في كتاب تفسير الأحلام، لندلّل على أنّ ذلك العجز عجزٌ عن التماهي مع الرجولة الكاملة، خصوصًا أنّ حديث هاملت على مدار المسرحيّة مرصَّعٌ بإشاراتٍ إلى أنّ هذا الأب كان مثالًا للرجل الكامل، وأنّ كلَّ مَن هم بعده قصروا عن أنْ يكونوا رجالًا. وفي مشهدٍ شهيرٍ، يُمسك هاملت لأمّه بصورة أبيه وعمّه، فيقارن بينهما، ليقول واصفًا الأبَ: "كأنّ كلَّ الآلهة قد وَضعتْ عليه أختامَها لتعطي العالمَ مَوثِقًا عن [كيف يكون] الرجل."[3]
لكنْ، حتى من دون هذه القراءة الفرويديّة، فإنّ هاملت نفسَه يَفهم بوضوحٍ أنّ عجزَه عن الانتقام لوالده عجزٌ عن الرجولة نفسِها. فهو يقول، في آخر الفصل الثاني، إنّ تردُّده في الانتقام يجعله حريًّا بأنْ ينتفَ الناسُ لحيتَه ويحْثوها في وجهه. كما يقول إنّ السماء والأرض[4] تدعوانه إلى الثأر لكنّه "مثل عاهرة" يفضّ غيظَ "قلبه بالكلام." هذان المثالان يشيان بأنّ أزمةَ هاملت هي أزمةُ رجولة، وأنّه في لحظات عجزه يرى نفسَه مخنَّثًا و/أو مؤنَّثًا، وأنّ العبورَ الجنسيّ (أو التذبذب بين الذكورة والأنوثة) قد يصبح أداةً مسرحيّةً لاستشراف هذه الأزمة (ولإظهار الجانب المسرحيّ والأدائيّ[5] في الهويّات النوعيّة والجنسيّة كما تعلِّمنا جوديث بتلر).
إلّا أنّ التذبذبَ الجنسيّ في عرض وايندر لم يستكشفْ أيًّا من ذلك. كان من الممكن، مثلًا، أن تشيرَ الممثّلةُ التي تلعب دورَ هاملت إلى لحيتها (خصوصًا أنّها لم تكن حليقةً تمامًا)، حين كانت تردِّد قولَ هاملت عن لحيته التي تستحقّ أن ينتفَها الناس؛ وكانت إشارةٌ كهذه ستكفي لوضع المُشاهد وجهًا لوجه أمام ذلك التذبذب في تردّد هاملت وعجزه. لكنّ الممثّلة - بدلًا من ذلك - أشارت إلى عانتها، وكأنّها تنفي الجانبَ الذكوريَّ من أزمة هاملت (أو كأنّ المُخرج يريد أنْ يقدِّم رسالةً سياسيّةً عن حقّ النساء في إطلاق شعر عاناتهنّ بدلًا من أنْ يقدّم لنا تأويلًا لكلام هاملت).
وفي معظم مشاهد المسرحيّة كان هاملت يقدَّم إلينا رجلًا مكتملًا أو امرأةً مكتملةً، ولم يكن يَعْبُر من جنسٍ إلى آخر إلّا بين المشاهد. المشكلة الكبرى هي أنّ هاملت في هذا العرض لم يكن امرأةً إلّا في حضور هوراشيو - وكأنّه لا يُظْهر هويّتَه الجنسيّة إلّا لصديقه الأقرب. هكذا "يغازل" المُخرجُ سياساتِ الهويّة الجنسيّة الأمريكيّة، ومفهومَ "الهويّة المخزونة وإخراجها،"[6] من دون أنْ تُثْري هذه الإضافةُ العرضَ أو شخصيّاتِه. تأنيثُ هاملت هذا، في وجود هوراشيو، لم يجعلْ من هاملت امرأةً قويّةً، بل أظهره ضعيفًا في وجود رفيقِه الرجل، وخلقَ توتّرًا جنسيًّا (وفي بعض الأحيان انجذابًا) بين الشخصيّتين بشكلٍ لا يعدو أنْ يكون إيماءةً إلى مفهوم "الفخْر المثليّ" (ولاسيّما أنّ العرض تزامنَ مع شهر "الفخر المثليّ"). [7] إلّا أنّ هذه الإيماءة فشلتْ تمامًا هي الأخرى، إذ إنّ تأنيثَ هاملت فقط في وجود رفيقه الرجل الذي ينجذب إليه جعل هذا الانجذابَ غيريًّا، أو مثليًّا يحاكي الغيريّةَ، وتصبح هذه المحاكاةُ معيارَ قبوله؛[8] بل جعل العبورَ الجنسيّ (أو خلخلةَ الهويّة الجنسيّة) مسموحًا فقط إذا خدم رغبةَ غيرِ المثليين، أو عزّز المفاهيمَ الجنسانيّةَ التي تَحْكمها الغيريّةُ أو أنتجها "النسيجُ الغيريُّ"[9] heterosexual matrix، إنْ جاز لنا أنْ نستعيرَ من مصطلحات جوديث بتلر. 
ثمّ كانت الإيماءةُ الكبرى إلى سياسات الهويّة المثليّة – وهي إيماءةٌ أكّدَتْ لنا أنّ المُخرجَ لا يريد أنْ يقدّمَ نقدًا للهويّات المتصلّبة بقدْرِ ما يريد أنْ يقدّمَ المثليّةَ هويّةً معياريّةً ـــ[10] حين جعل من فرقة "التراجيديين" (الذين سيوقظون ضميرَ الملك إذ سيمثِّلون أمامه مَشاهدَ تحاكي قتلَه أخاه) فرقةَ استعراضاتٍ وحفلاتٍ مثليّة، وجعل هاملت يقطع حديثَه المهمَّ مع بولونيوس ليرقصَ على أنغام هذه الفرقة، ويرتديَ الحذاءَ ذا الكعب العالي، ويصبحَ للمرّة الوحيدة خلال العرض المسرحيّ كلّه مرتاحًا في العلن مع هويّته الجنسيّة المتغيّرة والمتحوّلة.
وبالرغم من أنّ دعاية المسرحيّة وعدتْ بأن يكون العرضُ مشحونًا سياسيًّا؛ وبالرغم من أنّ المشاهد الأولى لم تخْلُ من إحالات سياسيّة بريطانيّة معاصرة (كالهوس الإعلاميّ بالعائلة المالكة في بريطانيا)، فإنّ ظهور فرقة التراجيديين بأدائها المثليّ الواضح في قلب البلاط الملكيّ نزع عن مثليّتها (وعن المسرحيّة) أيَّ محتوًى سياسيّ احتجاجيّ،[11] وجعل راحةَ هاملت في حضور الرموز المثليّة، لا في القضاء على "العفن في دولة الدنمارك." 
وإذ تَفرض فرقةُ التراجيديين المثليين هويّتَها الجنسيّة بقوّة في"مقتل جونزاجو،" وهي مسرحيّة داخل مسرحيّة هاملت يعرضها التراجيديّون بإيعازٍ من هاملت لإيقاظ ضمير الملك، فإنّها (أي الفرقة) تَفشل في تقديم أيّ نقدٍ للانحيازات الهويّاتيّة والعنصريّة؛ ذلك لأنّ ممثّلَها الأسودَ الوحيد هو الذي يستأثر بدور القاتل. وفي مشهد مُقحم آخر، يرفع القناعَ عن وجهه الأسود لنرى تحتَه وجهَ كلوديوس الأسود، كأنّ الثابت في الجريمة هو الوجهُ الأسود بينما الضحيّة دائمًا بيضاء. في"مقتل جونزاجو،" انعكاسٌ لعرضٍ مسرحيّ انشغل بتقديم الرسائل "التقدّميّة" في ما يتعلّق بالمثليّة، وبالغزل السطحيّ لسياسات الهويّة المثليّة اتّساقًا مع "شهر الفخر." لكنّه لم يهتمَّ لحظةً بمساءلة انحيازاته العنصريّة.

 كلوديوس ووجهُ الشرّ الأسود
هناك الكثيرُ من الإيحاءات في هذا العرض إلى سياسة الدولة البريطانيّة، وإلى أساليب الدعاية والإلهاء الإعلاميّ التي تلجأ إليها. وفي لحظات معيّنة يبدو كأنّ الأحداثَ تدور في مستقبلٍ بريطانيّ "ديستوبيّ" قريب. قد نلتمس العذرَ للمُخرج إذ جعل  كلوديوس، الملكَ الشرّيرَ، أسودَ؛ فنقول إنّه (أي المُخرج) يلعب هنا على المفارقة بين الديكتاتور الأسود في المسرحيّة والشعبويّين البيض الذين أوشكوا أن يستلموا سدّةَ الحكم في بريطانيا؛ ويمكننا من ثمّ أنْ نغضَّ الطرفَ عن استخدامه السوادَ مسبَّةً في حقّ المحافظين والشعبويين البيض، ربّما لأنّ السياسات الشذوذيّة،[12] التي يلتزم بها، قائمةٌ على استملاك الإهانة وإعادةِ توجيهها. ولكنْ يَقْصر بنا السبيلُ عن الأعذار حين يأتي مشهدُ اغتيال هوراشيو، الأسْود كذلك في هذا العرض، وهو في بزّته العسكريّة في آخر المسرحيّة، ليتمِّم إحالةَ الديكتاتوريّة على الانقلابات العسكريّة الأفريقيّة، لا على السياسات الشعبويّة البيضاء.
كان من الممكن أنْ نعذُر إسنادَ دور الشرّير ودورِ مساعد البطل - السنيد إلى ممثّليْن أسوديْن بالقول لأنفسنا بأنّ ذلك جزءٌ من محاولات العرض الغدْرَ بتوقّعاتنا، ومن تلاعب العرض بهذه التوقّعات على طريقة الاستعراضات الشذوذيّة لكنْ يخفتُ العذرُ أمام بياض بقيّة الشخصيّات، وأمام حرص المسرحيّة على "الصوابيّة السياسيّة" (political correctness) في ما يتعلّق بالهويّات الجنسيّة ثمّ إغفال هذه الصوابيّة حين يتعلّق الأمرُ باللون.
كان يمكننا أنْ نجدَ الأعذارَ لو لم يكن النصُّ الشكسبيريّ نفسُه محمَّلًا بالاستعارات التي تحيل الشرَّ على السواد؛ وهي إشاراتٌ لم نكن لنسامحَ شكسبير عليها لو لم يكن قد دمّرها في أوثيلو (عطيل). إلّا أنّ إحالات شكسبير تكتسب معنًى عرقيًّا وعنصريًّا حين يغدو كلوديوس أسودَ اللون. فهاملتْ يقرّر أن يقتلَ كلوديوس في عزّ آثامه، لا وهو يصلّي، "فأطرحه ليركلَ السماءَ بقدميه وتصبح روحُه ملعونةً وسوداءَ كالجحيم." وإذا كان شكسبير في أوثيلو قد أوضح أنّ هذا السوادَ المعنويّ لا ينطبع على سواد الجلد (فالشيطان الأسود هو إياجو الأبيض لا أوثيلو الأسمر)، فإنّ المجاز يصبح عنصريًّا حين يردّده ممثّلٌ أبيض، في جمعٍ أبيض، أمام شرّيرٍ أسود، في عالم اليوم، المحكومِ بالعنصريّة وبالفوقيّة البيضاء. 
ومن المنطلق نفسه، فإنّ وسمَ الناس بالعبوديّة تحقيرًا في عالم شكسبير لا يحمل بالضرورة عداءً للسُود (خصوصًا أنّ لندن التي عاش فيها شكسبير كانت تأوي أفريقيّين أحرارًا)؛ أمّا في هذا العرض فإنّ وصف هاملت لعمِّه بأنّه "عبدٌ لا يساوي واحدًا من عشرين من سيِّدك السابق [يعني أباه]" يستدعي تاريخَ العبوديّة، شاء المخرجُ أمْ أبى، إذ يقول هاملت ما يقول وهو يقارن صورةَ عمِّه الأسود بصورة أبيه الأبيض.
وإذ يعزو هاملت الجَمالَ والجلالةَ بمقاييسهما الأوروبيّة إلى أبيه وينفيهما عن عمّه، وذلك حين يقف بين صورتيهما، فإنّه يبدو أشبهَ بنازيٍّ يعزو التطوّرَ والكمالَ إلى الصورة البيضاء، بينما يجعل الصورة السوداء مرادفةً للانحطاط والانحلال.  
كان من الممكن أنْ تجعل المسرحيّةُ من هذه الإيحاءات العنصريّة معضلةً أخلاقيّةً مثمرةً لو حذفتِ الجزءَ الذي يعترف فيه كلوديوس (وهو يصلّي) بقتله أخاه. فمن دون هذا الاعتراف لا نعرف يقينًا إنْ كان شبحُ هاملت الأب هو روحَه الهائمةَ بالفعل، أمْ شيطانًا، أمْ هلوسةً جماعيّةً لهاملت وصحبه الذين لا يطيقون كلوديوس؛ ولا نعرف إنْ كان انقباضُ كلوديوس من مسرحيّة "مقتل جونزاجو" اعترافًا بالذنْب أم استنكارًا للاتهام المبطّن بجرمٍ لم يرتكبْه؛ ولا نعرف من ثمّ إنْ كان هاملت باحثًا عن الحقّ أمْ مجرمًا يريد أنْ يأخذ كلوديوس بجريرةٍ لم يرتكبْها أو لم تَثْبتْ عليه (ويريد أن يلصقَها به لأسبابٍ عنصريّة). ولكنّ هذا العرض أبقى على هذا الاعتراف، وأضاع هذه الفرصةَ، وترك مشاهديه أمام معضلة أخلاقيّة - سياسيّة أخرى: فإمّا أنْ يتضامنوا مع هاملت العابرِ جنسيًّا، أو مع كلوديوس الأسود. 
إلّا أنّ العرض، من دون أن يدري، يقدِّم لنا مجازًا دقيقًا عن الكثير من الحركات والجمعيّات والمؤسّسات المثليّة البيضاء (التي أطلق عليها جوزيف مسعد اسمَ "الأمميّة المثليّة"[13]) التي لا ترى إلّا نفسَها، وتَعْمى عن الانعكاسات العنصريّة والاستعماريّة من حولها،[14] وعن تواطئها في بعض الأحيان معها، وتحاول أنْ تفرض أجنداتٍ لا مجال فيها للتقاطع بين رفض التمييز العنصريّ ورفضِ التمييز على أساس الهويّة الجنسيّة،[15] وينتهي بها المطاف في كثير من الأحيان (عن عمدٍ أو عن غير عمد) إلى الإصرار على فرض هويّات معيّنة وُلدتْ من رحم المجتمعات الغربيّة البيضاء على أنّها هويّاتٌ معياريّة،[16] وإنْ أدّى ذلك إلى معاداة كلّ مَن لا يدين بهذه الهويّات والمعايير أو يخرج عليها، ومن ثمّ إلى معاداة المجتمعات والهويّات غير البيضاء ووضعها موضعَ الاتهام.
 

نيويورك


[1] يُستخدم مصطلح "عابر جنسيّ" لترجمة مصطلح “trans”  أو  “transsexual” أي الشخص الذي يغيّر جنسَه من ذكر إلى أنثى أو العكس. هناك حالاتُ عبورٍ كامل، يحاول بمقتضاها المتحوِّلُ أو العابرُ التخلّصَ من كلّ صفات الجنس الذي وُلد فيه. وهناك حالاتُ عبورٍ ناقص، مثل حالة الممثّلة التي تلعب دورَ هاملت في هذا العرض، وبمقتضاها يحتفظ الشخصُ ببعض صفات الجنس الذي وُلد فيه حتى مع تحوّله إلى الجنس الآخر، وكأنّه لم يكمل عبورَه إلى الناحية الأخرى. وهناك، كذلك، عبورٌ بالأداء، من دون محاولة تغيير الصفات الجنسيّة التشريحية، أو بتغيير بعضها لا كلِّها. وهناك عمليّاتُ التغيير الجنسيّ الجراحيّة، التي تجعل العبورَ الجنسيَّ عبورًا تشريحيًّا – وعادةً ما تتمّ مع تعاطي هرمونات تجعل العبورَ فسيولوجيًّا كذلك.

[3] جميع الاقتباسات من شكسبير في هذا المقال هي من ترجمتي، ولا أدّعي فيها الدقّة.

[4] ربما سنكون أقربَ إلى حرْفيّة النصّ لو قلنا "تدعوه السماءُ والجحيم." إلّا أنّي لا أرى أنّ هذه الترجمة الحرفيّة ستفي بالمغزى، خصوصًا أنّ الجحيم عندنا ليست نقيضَ السماء. ربّما يكون المعنى أقربَ إلى القارئ العربيّ لو قلنا "تدعوه الجنّةُ والنار،" إلّا إنّ هذه الترجمة لن تكون أمينةً لعالم المسرحيّة الكاثوليكيّ. وربّما ترجمة على غرار "تدعوه الملائكةُ والشياطين،" على ما فيها من تصرّف، أقربُ إلى المغزى الكاثوليكيّ الذي يعنيه هاملت. على كلِّ حال أعتقد أنّ ترجمتي غير الأمينة، "السماء والأرض،" هي الأكثر مناسبةً في هذا السياق.  أمّا في ترجمة محمد عناني للنصّ فقد جعلها "وتدفعني السمواتُ والجحيمُ إلى الانتقام."

 [6] تَفترض الثقافةُ السائدة في أمريكا أنّ الرغبة الجنسيّة تنبع من هويّةٍ جوهريّةٍ لدى الإنسان؛ فإمّا أن يكونَ غيريًّا أو مثليًّا أو ثنائيَّ الجنس ويؤدّي هذا الإصرارُ إلى تحريف المصطلحات المثليّة نفسِها، وإلى إقحام معانٍ جديدةٍ عليها. فمصطلح coming out ، ويعني الإظهارَ أو الإشهار، لم يكن في الأصل يحوي افتراضًا أنّ هويّةً مخزونةً ما سوف تخرج، وإنّما هو استملاكٌ لحفلات الظهور التي كان يقيمها علْيةُ القوم لبناتهم متى وصلوا إلى سنّ الزواج. وتَعتبر الثقافةُ الهويّاتيّة الأمريكيّة أن الذي لا يجاهر بهويّته (خوفًا من المجتمع أو اختيارًا ألّا يجعل الخاصَّ علنيًّا هو شخص يعيش "في الخزانة" (closeted, in the closet)، وأنّ على الحركات المثليّة أن تحرّرَه عنوةً إنْ لم يُرِدِ البوحَ بهويّته.
وفي المقابل، فإنّ هناك تراثًا طويلًا من نقد هذه المفاهيم الجوهرانيّة والهويّاتيّة، حتى من تيّارات فكريّة تقترب من الحركة المثليّة. فقد قدّم ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنسانية، وبالذات في جزئه الأول، نقدًا عميقًا لفهم الجنسانيّة على أنّها حقيقة الإنسان الكامنة، وأوضح كيف تتشكّل الجنسانيّة ضمن سياق تاريخيّ وضمن مجالٍ من علاقات القوى المتشابكة، وأنّ البوح - شأن الكتمان - جزء من هذه العلاقات. وأضاف أنّ السلطة في العصر الحديث أصبحتْ تعمل من خلال "الحثّ على الخطاب،" الذي لا يؤدّي إلى البوح فقط بل يشكِّل ما يباح به أيضًا. وعليه، فإنّ مَن يتبنّى هويّةً جنسانيّةً (غيريّةً أو مثليّةً أو ثنائيّة) يستجيب بشكلٍ ما لسطوة الحثّ على الخطاب. ومع أنّ فوكو لم يرفضْ بالضرورة هذه الاستجابةَ للسلطة، إلّا أنّه رفض اعتبارَها "تحرّرًا."

وبشكلٍ ما قامت الحركة الشذوذيّة (queer) على نقد جوهرانيّة التيّارات الكارهة للمثليّة والمدافعة عنها سواءً بسواء، وإنْ بقي السؤال معلّقًا عمّا إذا كانت هذه الحركة قد وقعتْ هي الأخرى في جوهرانيّة شذوذيّة – أو استسلمتْ للجوهرانيّة المثليّة.

ثم يأتي النقدُ المهمّ لجوزيف مسعد، في اشتهاء العرب، وبعد ذلك في الإسلام في الليبراليّة. وفيه يذهب إلى أنّ فكرة "الهويّة المخزونة،" ومفهومَ "الجنسانيّة" ذاته، إضافةً إلى ثنائيّة الغيريّ/المثليّ، هي كلُّها مفاهيمُ ذاتُ خصوصيّة مرتبطة بلحظات معيّنة من تاريخ المجتمع الغربيّ، والأمريكيّ تحديدًا في كثير من الأحيان؛ وأنّ محاولة عولمتها هي جزءٌ من فرض الإمبرياليّة الثقافيّة حين تقوم بإلغاء الهويّات والممارسات السابقة على الاستعمار، بل تفرض كذلك مفهومَ "الهويّة المخزونة وخروجها،" بحيث تصبح مهمّةُ المنظّمات الدوليّة المثليّة  - إزاء مَن يقومون بممارسات مثليّة من دون أن يتبنّوْا هويّةً جنسيّة معيّنة - هي أن تَفرض عليهم هذه الهويّة، بل تفرض عليهم المجاهرةَ بها، وكأنّها "تحرِّرهم عنوةً."

مؤخّرًا، قدّمتْ شبكة نتفليكس مثالًا صارخًا على ذلك في الجزء الثالث من مسلسل غلو. فالمرأةُ الهنديّة تقول إنّها تحبّ رفيقتَها الأمريكيّة وعلاقتَها بها، لكنّا لا تريد أن تتّخذ هويّةً معيّنة؛ فتوجّه إليها رفيقتُها كلامًا قاسيًا عن اضطراب هويّتها وتَهْجرها. إلّا أنّ صنّاع المسلسل لا يريدون لنا أن نتضامن مع الهنديّة التي تريد أن تظلّ وفيّةً لمحبوبتها من دون أن تقبلَ تعريفًا للهويّة، بل مع الأمريكيّة التي تريد فرضَ هويّتها تنمّرًا وابتزازًا. وفي الحلقة الأخيرة، ترضخ الهنديّةُ لضغط صاحبتها التي قاطعتها عدّة حلقات، وتقول للجميع إنّها مثليّة، وتبدأ في ارتداء "شارات قوس قزح،" فتهنِّئها صاحباتُها على تحرّرها وعلى إخراج هويّتها الكامنة، بدلًا من أن  يدينوا فرْضَ صاحبتها لهويّتها بالقوة. وهذا الموقف لا يختلف كثيرًا عمّا تفعله بعضُ الحركات الحقوقيّة والمثليّة التي تريد أن تفرضَ هويّتها على كلّ مَن يمارسون الجنسَ المثليّ، وإنْ لم يريدوا لممارساتهم أن تحدِّد هويَّتَهم. مع فارق مهمّ طبعًا: وهو أنّ هذه الجمعيّات، إذ تَفرض هويّتَها على الآخرين، فإنّها تعرِّضهم لعنف الشرطة (جوزيف مسعد، اشتهاء العرب)، وخصوصًا في بلادنا، حيث تبحث الشرطةُ عن أيّ حجّةٍ لانتهاك مواطنيها.

فمثلًا عندما هاجمت الشرطةُ المصريّة "حمّام البحر" في شتاء 2014 /2015، ووجّهتْ تهمةَ الفسوق إلى مرتاديه على إثر تقرير "صحفيّ" في إحدى القنوات الموالية للنظام، سارعت الجمعيّاتُ الحقوقيّة المصريّة والدوليّة إلى الإصرار على تعريف المعتقلين كمثليين، بينما لم يتبنَّ أيٌّ من المعتقلين المثليّةَ (هويّةً أو ممارسةً). المفارقة لم تقتصر على أنّ الإعلام الرسميّ، والسلطاتِ الجنائيّة (التي بدأتْ تُجري للمتَّهَمين فحوصًا شرجيّة)، والمنظّمات الحقوقيّة، كانت جميعُها تعمل معًا على التفتيش في هويّة مزعومة للمتهمين، وعلى كشفها، بينما يرفض المتهمون هذا الكشف؛ بل الأنكى أنّ المنظمات الحقوقية كانت - بفرضها الهويّةَ المثليّةَ على المعتقلين - تعرّضهم للمزيد من عنف الشرطة، وأحيانًا لردّة فعل مجتمعيّة مجحفة.

[7] تحتفل الكثير من عواصم العالم، ومنها لندن، في شهر يونيو (حزيران) بما يسمّونه "شهر الفخْر المثليّ." تتذكر هذه الاحتفالات أحداثَ ستونوال، التي وقعتْ في نيويورك في  28 يونيو (حزيران) 1969 حين اعتدتْ شرطةُ المدينة على حانة ستونوال التي يرتادها المثليّون، فخرجتْ جماعاتُ المثليين إلى الشوارع لتتحدّى الشرطة. وبالرغم من أنّ جذور هذا الشهر مناوئةٌ للشرطة، فقد تحوّل إلى فرصة لـ"استئناس" الهويّات المثليّة ضمن التيّار السائد، وأحيانًا إلى دعوة الشرطة إلى المشاركة فيه، فتحتفي جماعاتُ المثليين القادمين من طبقات وخلفيّات آمنة بحماية الشرطة لهم (على حساب المثليين والعابرين – والغيريين أيضًا — الفقراء والمهاجرين والمهمَّشين الذين يتعرّضون إلى عنف الشرطة وجرائمها بشكل مستمرّ) وتحتفي الشرطة بـ"تقدّمها" و"تقبّلها" للهويّات المختلفة.

كما تحوّل هذا الشهرُ إلى فرصةٍ لأكثر القوى يمينيّةً واستعماريّةً لتهنئة نفسها على "تقدّمها،" ولتسجيل النقاط على الشعوب التي تستعمرها، بل لتبرير المزيد من الممارسات الاستعماريّة كذلك. فقد كان دونالد ترامب، على سبيل المثال، أوّلَ رئيس أمريكيّ يعترف بـ"شهر الفخْر المثليّ" في تغريدةٍ له على الإنترنت، متّخذًا من ذلك فرصةً ليدين "الدولَ الأخرى" التي "تجرِّم" المثليّةَ أو تعاقبها، واعدًا بأن تشنّ أمريكا حملةً عالميّةً لإنهاء هذا الوضع. كما دأب العدوُّ الصهيونيّ على استضافة "أسبوع الفخر المثليّ" في تل أبيب وحيفا لتسويق دولة "إسرائيل" دولةً للحريّات وتقبّل الآخر، في مقابل العرب المصابين بـ"رُهاب" الحريّة والمثليّة.

[8] يُنظر في ذلك مفهومُ "المثليّة المعياريّة" (homonormativity) الذي صاغته ليزا دوغان. ويُنظر كذلك استخدامُ جازبير بوار له في نقدها لتعبئة المفاهيم الجنسيّة المعياريّة (مثليّةً كانت أو غيريّة) لخدمة الوطنيّة الأمريكيّة وحرب أمريكا على "الإرهاب." Lisa Duggan, The Twilight of Equality?: Neoliberalism, Cultural Politics, and the Attack on Democracy

Jasbir Puar, Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times
تقول دوغان إنّ الثقافة الأمريكية السائدة والمهيمنة قد بدأتْ في تقبّل نمط معيّن من العلاقات المثليّة، وأحيانًا في الاحتفاء بها، ما دامت تتّبع معاييرَ تحاكي العلاقةَ الغيريّة؛ مثلًا: أن تكون علاقةَ حبّ أحاديّةً (monogamous)،  وأن تهدفَ إلى تكوين نواة اجتماعيّة تشبه العائلة. وتوضح دوغان، ومن بعدها بوار، أنّ هذه المعايير ليست معاييرَ غيريّةً فحسب، بل بيضاءَ تتبع المجتمعَ البرجوازيَّ الأبيض أيضًا.

واستنادًا إلى ذلك، تُظهر بوار أنّ قبول هذه الهويّات المثليّة المعياريّة، والاحتفاءَ بها، يأتيان على حساب هويّات وممارسات، مثليّةٍ أو غيريّة، "تنحرف" عن معايير المجتمع البرجوازيّ الأبيض (منها عدمُ الالتزام بهويّة جنسانيّة محدّدة، وتعدّد الأزواج أو الزوجات)، وتُنتج - في المقابل - الجنسانيّات غير البيضاء، وبالذات الجنسانيّة العربيّة والمسلمة والإرهابيّة، على أنها نقيضُ المعيار، وتسقط عليها كلَّ تخيّلات الشذوذ والانحراف، من عشق الغلمان إلى نكاح البهائم (يُنظر أيضًا ما قاله فرانز فانون عن إسقاط المجتمع الأبيض لرغباته المكبوتة على آخره غير الأبيض في: بشرة سمراء وأقنعة بيضاء).

وترى بوار أنّ هذا الإنتاج الهوياتيّ يهدف، فيما يهدف، إلى تعبئة المثليين المعياريين كوطنيين أمريكيين في حرب أمريكا "على الإرهاب." وهذا الكلام يتسق مع ما يقول به جوزيف مسعد عن فرض الحركات الغيريّة والمثليّة الأورو - أمريكيّة لهويّات معياريّة، ونبذِها لِما يَخرج عن هذه المعياريّة، وأنّها بذلك تريد أن تفرض الخصوصيّة الأورو - أمريكيّة على أنها معاييرُ كونيّة، فتلغي بذلك ما ينحرف عنها، أو تحوِّله إلى محلّ شبهة، وإلى هدفٍ للتدخّل بحجّة "التقويم."

[10] يُنظر الهامش السابق.

[11] تمامًا كما يفعل "شهرُ الفخر المثليّ" مع التراث الاحتجاجيّ للحركات المثليّة.

[12] تُستخدم كلمة "شذوذيّة" ترجمةً لمصطلح queerness، وهي في رأيي أدقّ من الترجمات العربيّة الأخرى للكلمة. فكلمةqueer تعني، حرفيًّا، غيرَ المألوف، أو ما يخالف توقّعاتك عنه. وقد استٌخدمتْ تاريخيًّا كوصفٍ ذميمٍ للمارسات "الشاذّة" عمومًا، وللمارسات الجنسيّة المثليّة وغيرِ المعياريّة خصوصًا. إلّا أنّ الحركة التي سمّتْ نفسَها "شذوذيّة" قرّرتْ أنْ تستملكَ السبّةَ وتعيدَ تعريفَها.

وتُستخدم الكلمة، في بعض الأحيان، لوصف الحركات المثليّة وبقيّةِ الحركات التي تعبّر عن الهويّات والممارسات الجنسيّة غير الغيريّة – بما في ذلك حركاتُ العابرين جنسيًّا، وأحيانًا، وبشكلٍ أدقّ، لوصف الخارجين عن ثنائيّة المثليّ/الغيريّ أو الذكر/الأنثى. ولكنّها تعبّر كذلك عن حركة فكريّة وفنيّة قائمة على نقد الهويّات (بما في ذلك الهويّة المثليّة في بعض الأحيان كما هو الحال في كتاب بوار الآنف ذكره)، وعلى التركيز على ما ينافي البداهةَ و"المألوف." وأرى أنّ العرض الذي نتحدّث عنه لم يستثمرْ محتواه الشذوذيّ، ولم يمضِ في تأويله الشذوذيّ للمسرحيّة إلى آخره.

[14] مثل إصرار بعض هذه الحركات على تصوير الغرب جنّةَ المثليين وملاذَهم، وتصوير الشرق والعالم العربيّ والإسلاميّ تحديدًا على أنهما موطنُ "رُهاب المثليّة،" بما يمنح الحكوماتِ الغربيّةَ (وبعضُها يميني مُغالٍ في رُهاب المثليّة) حجّةً إضافيّةً للتدخّل السياسيّ والعسكريّ في العالميْن العربيّ والإسلاميّ بينما يغطّي في الوقت ذاته على رُهاب المثليّة في الغرب.

وفي المقابل يحفل الإعلامُ العربيّ ووسائلُ التواصل الاجتماعيّ بالشهادات غير الدقيقة عن "قلّة" حوادث التحرّش والاعتداء الجنسييْن في إنجلترا وسائر بلاد الغرب مقارنةً ببلادنا. طبعا لا نبرِّر الخطأ هنا بالأخطاء هناك، ولكنّ هذا الخطاب يسعى إلى التعامي عن الأخطاء في الغرب بالتركيز على أخطائنا؛ بل إنّه يبرّر (وأحيانًا من دون قصد) المزيدَ من التدخّل الأجنبيّ أو من العنصريّة ضدّ المهاجرين العرب والمسلمين في الغرب لكون مجتمعاتنا، كما يقولون، "كارهةً للنساء والمثليين" على عكس مجتمعاتهم "المُحبّة" لهنّ ولهم (يُنظر: جوزيف مسعد، الإسلام في الليبراليّة، الفصلان الثاني والثالث).

[15] طبعًا هناك مجموعات تسعى إلى إيجاد هذا التقاطع. ولكنّ الحديث أعلاه هو عن الحركات المثليّة البيضاء التي تريد فرضَ هويّتها على العالم، وعن المجموعات الحقوقيّة المرتبطة بالأمم المتحدة وخطابها الكونيّ - الاستعماري، والمجموعات المحلّيّة التي تتبع تمويلًا وأجندةً دوليين.

[16] لا نقول طبعًا إنّ الحركات المثليّة أو الحركات الحقوقيّة الجنسيّة كلها بالضرورة مأجورة أو متواطئة مع أجندات استعماريّة، ولكنّنا نقول ما يقول به جوزيف مسعد عن خطورة عولمة الهويّات الخاصّة بالمجتمع الأمريكيّ تحديدًا، والغربيّ عمومًا؛ وما تقول به جازبير بوار عن دور هذه العولمة في إنتاج العربيّ والمسلم الإرهابييْن؛ وما يقول به الاثنان عن السياسات الاستعماريّة التي تنشأ بحجّة "تقويم" هذا العربيّ - المسلم وفرض معياريّة الغرب عليه. وقد دلّلا (مسعد في اشتهاء العرب، وبوار في Terrorist Assemblages وفي مقال لها مع أميت راي بعنوان “Monster Terrorist Fag: The War on Terrorism and the Production of Docile Patriots”) على الدور الذي لعبه هذا الخطابُ في تبرير غزو أمريكا للعراق وحربها على الإرهاب، وأحيانًا في تبرير ممارساتها الأكثر بشاعةً خلال هذه الحرب.

لا يستهدف هذا الخطابُ العربَ وحدهم. فهناك اعتقاد سائد في الثقافة الأمريكيّة أنّ السود، والسودَ الفقراء، سكّانَ الغيتو بالذات، لم يصلوا بعد إلى المرحلة "الكافية" من استبطان الهويّات الجنسيّة المعياريّة، وأنّ رُهاب المثليّة ينتشر بينهم أكثر مما ينتشر بين البيض.

إلا أنّ هذا الخطاب كان أكثر شراسةً في استهداف السكّان الأصليين للقارّة الأمريكيّة، ولعب دورًا في تبرير المجازر ضدّهم أو في تهميشهم.

ومن أهمّ ما كُتب في هذا المجال: كتابُ أندريا سميث Conquest: Sexual Violence and American Indian Genocide، وفيه توضح كيف رأى المستعمرون الأوائل في شعوب أمريكا الأصلية انحرافًا جنسيًّا وهويّات جنسيّةً غير معياريّة برّرت استئصالَهم؛ وكتابُ مارك رفكين The Erotics of Sovereignty، الذي يشرح تاريخَ فرض الهويّات الجنسانيّة البيضاء على بعض مجتمعات أمريكا الأصليّة وتاريخَ مقاومة هذه المجتمعات؛ ومقالُ سكوت لوريا مورغنسن“Settler Homonationalism:  Theorizing Settler Colonialism within Queer Modernities” الذي يوضح كيف تمحو الهويّاتُ الجنسيّة المعياريّة (بما فيها الهويّاتُ المثليّة والشذوذيّة) الهويّات والعادات والممارسات الخاصة بشعوب أمريكا الأصليّة، بعد أن لعبت الغيريّةُ المعياريّة دورَها في التطهير العرقي للسكّان الأصليين من خلال استهداف ذوي الهويّات والممارسات الغريبة عن المستعمِر ضمن استراتيجيّات استهداف السكّان الأصليين عمومًا.

ويحذّر مورغنسن من أنّ أيّ خطاب جنسيّ - هوياتيّ لا يأخذ في الاعتبار ذلك التاريخَ الاستعماريّ - الاستيطانيّ (وإن كان هذا الخطاب "تقدّميًّا") سينتهي به المطاف إلى تكريس هويّات جنسيّة استيطانيّة. ويدعو مورغنسون إلى الربط بين هذا المجهود الاستيطانيّ في الداخل الأمريكيّ، ومجهود أمريكا الإمبرياليّ خارج حدودها.

 

احمد دردير

باحثٌ وكاتب مصريّ. حاصل على الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا، وعلى الماجستير في النظريّة السياسيّة من الجامعة الأمريكيّة في بيروت. له مقالات ثقافيّة ونقديّة في جريدة الأخبار وعلى موقع حبر، وله تجارب في الإخراج المسرحيّ.