قصة قصيرة

    ككلّ مرّة، لن يؤوب إلى البيت إلّا والليلُ ينزحُ عن سماء المدينة، وضوءُ الفجر ينثـر الأشكالَ ويمحو الخيالاتِ والأوهام. ككلّ مرّةٍ سيقول كاذبًا، وهو يطبع على جبيني قبلتَه المتردّدة: "أحبّكِ بجنون." ويرتمي إلى جواري، على سريرنا المشترك، بعد أن...
    ــــ أنت لم تعد تحبّني. ــــ الحبّ للضعفاء والمحرومين. ــــ مَن قال هذا؟ ــــ بوكوفسكي. ــــ حقًّا؟ ــــ ليس بالتحديد. لكنّه كان حكيمًا بما يكفي ليقول شيئًا رائعًا كهذا. ــــ أليسَ هو ذاك السكّيرَ المتبطّلَ الذي لا يجيد إلّا مضاجعةَ كلّ امرأة...
    في آخر صحن الدار، أمام باب المطبخ القديم المغلق منذ سنين، حيث نورُ المصابيح يصل خافتًا، انزوى منشول يرقب المائدةَ ومَن حولها، بعد إفساده عشاءَ العائلة. لأوّل مرّةٍ يضع منشول رأسَه في قصعة الكسكسيّ ليفتكَ بقطعة اللحم من أمام هالة، مربّيتِه التي...
    استيقظتُ فزعًا على آياتٍ من القرآن الكريم تصدح بها مئذنةُ المسجد. كان من المعتاد يومَ الجمعة تذكيرُ أهل القرية بموعد الخطبة، ولكنّ الوقت كان لا يزال باكرًا. أيعقل أنّ جدّي أخطأ في التوقيت وهو مَن يحدّد المواقيت بفطرته؟ لا... لا بدّ من أنّ أحدًا...
    اقتحم راشد بيتَنا هائجًا. وكان اقتحامُ راشد بيتنا معتادًا، لا جديد في الأمر سوى هيجانه! فقد اعتدنا رؤية راشد "ينبت" بيننا فجأةً من دون سابق إنذار، فلا يترك لأختي فرصةً لوضع حجابها على رأسها. وكان بيتنا من طابق واحد، مبنيًّا من أحجار الكدان...
    أربعة وعشرين عامًا أمضى في تلك الغرفة الرماديّة، في سجنهِ الإفراديّ الذي لا يتجاوز الأمتارَ الأربعة المربّعة. عمره تجاوز الخمسين. تصلّبَ. تحجّر. أصبحَ رماديًّا شاحبًا بسبب تهمةٍ يجهلها، هو نفسُه، رغم كلّ هذه السنين! سترته رماديّة. الجدران...
  ــــ أدرس في السنة الثالثة محاسبة، كليّة التجارة. اكتفى صاحبُ محلّ الفضيّات بهذه الجملة، فقبِلني عاملًا لديه فورًا. ولم يكن هذا لأنّ الجملة كانت سحريّةً مثلًا، بل لأنّ مَن رشّحني هو شقيقُ صاحب المحلّ وصديقُ والدي. وصاحب المحلّ كان يعرف اسمي وكلّ...
    ليس من عادتي أن أكترث كثيرًا لما يحصل معي من مُنغّصات يوميّة في السنوات الأخيرة ما دمتُ أملك وعيي، وأستمتعُ بمباهج الحياة الصغيرة، وصحّتي على ما يرام؛ وما دمتُ أستطيع المشيَ، والعزفَ، واحتساءَ قهوة الصباح، وتَتبُّعَ العصافير، واستنشاقَ رائحة...
  تعود إلى المنزل بعد ساعات عملٍ إضافيّة، محمَّلًا بأوجاع المدينة. تتنقّل داخل الغرف الفارغة. تصدح لعناتُك ــــ كطفلٍ يبكي آلامَ لقاحه الثاني ــــ حين تصحو فجأةً على غياب الكهرباء منذ أكثر من شهر. يحتضنك حزنُ بُعْدِ العائلةِ عنكَ، فتتذكّر إصرارَكَ...
    في تلك الفترة، كان أكلُ اللحم في حدّ ذاته ترفًا، والسفرُ ضياعًا، والزواجُ منديلًا أبيضَ تجتمع عليه كلُّ البيوت. أمّا مشوارُ "العين،" فكان مهمّةَ النسوة في قريةٍ تعاني شحًّا في الرجال. لم يكن هناك ما يميّزُها. فهي تسكن في شاما البلد، بمحاذاة...
      أحببتُها رغمًا عنّي. لا أجد وصفًا أدقَّ للتجربة التي عشتُها مع حوّاء، السيّدةِ الثلاثينيّةِ ذاتِ الصوت الدافئ والعينين العسليّتين. حدث هذا قبل عقدين من الزمن. كنتُ حينها على وشك الزواج، وليس في نيّتي تخريبُ ما بنيتُه خلال عامين. لكنْ، كيف...
                            "القصيرات هُنّ المحظوظات": لطالما ردّدتْ أمّي عبارتَها ضاحكةً، وهي تَهمُّ لإحضارِ الطبليّة، كي تساعدني على بلوغِ الأماكن المرتفعة. كنتُ في الثالثة عشرة، وأحلمُ بدخول الجامعة للتخصُّصِ في التعليم. أورثتْني أمّي قِصرَ...
    رأيتُه محمولًا على نعٍش، ملفوفًا بكفن مهترئ. دخلوا به المقبرة. كانت وجوهُهم متيبّسة. استرقتُ السمع نحو الطريق الذي سلكه النعش. لا صراخ. لا عويل. رموْه في حفرةِ متريْن على نصف متر. واروْه التراب. لا إمام. لا قرآن. لا دعاء. هل غسّلوه أمْ دفنوه...
    يعود والدُها من عمله يوميًّا في تمام الخامسة عصرًا. يدخل المنزلَ مرهقًا. يرتدي ثيابَ النوم المريحة. في هذه الأثناء تهمّ أمُّها بتحضير الطعام اللذيذ الساخن؛ فهو لا يأكل الطعامَ إلّا طازجًا وساخنًا.  تتذكّر يومَ مرضتْ أمُّها. حينها لم تتمكّنْ من...
    بصعوبةٍ أنتزعُ جفنيَّ من ثقلِ ليلةٍ مؤرَّقةٍ بدويّ الطائراتِ الحربيّة، وأزيزِ الرصاص، وفرقعةِ القنابل، التي باغتتْ صمتَ قريتنا. لكنّ الصباح كان هادئًا. يدغدغ مسامعي مواءُ قطّتي، ممتزجًا بشقشقةِ العصافير التي استوطنتْ نخلةً أَستظِلُّ بها. تمطّقتُ...