قصة قصيرة

    أغلقتُ سمّاعةَ الهاتف كمن يُغلق عمليّةً جراحيّةً، فاصلةً ذاكرتي عمّا مضى من حياتي. كان اتّصالي بديمة،  التي أصيبت بشظيّة طائشة أفقدتْها ذاكرتها، وقضت على طفلتها. حدّثتُها، ودموعي تنهمر سيولًا، مخترقة ذاكرتها، وشاقّةً طريقَها فوق ركام البيوت،...
    أضاء نورُ الشمعة كاملَ الحائط الذي يتصدّر الغرفة. اعترض ضوء الشمعة في جلوسه للعشاء، فبدأ عرضٌ مسرحيّ، في غفلةٍ منه، على الحائط: يمدّ الظلُّ يده نحو الطعام على الطاولة، ثمّ يعيدها نحو فمه. يكرّر هذه الحركةَ حتّى يشبع. يقف الظلُّ. يحمل صحنَ الطعام...
    صباحاتُ أيلول لطيفة. جلستُ على شرفة منزلي في ساعةٍ مبكّرة، وقد أعددتُ فطورًا يليق بالأباطرة أمثالي ممّن لا يمتلكون الأسنانَ القادرةَ على القضم والطحن؛ وجبةً تذكّرني بأنّني ما زلت طفلًا: صحنًا من الحليب، أفتُّ فيه الخبزَ. موقع بيتي استراتيجيّ،...
المعتصم خلف   إلى الآن، ما زلتُ أذكر أحمد الذي كان مقتنعًا بأنّ عليه أن ينام وسطَ الغرفة في ليالي القصف. وكلّما أخبرتُه أنّ الوسط هو الجزءُ الأكثرُ عرضةً لأن يموت المرءُ إذا كان فيه، راح يَستشهد بالرواية التي كان بطلُها ينام وسطَ الغرفة في ليالي...
    سطو  أبي جُنّ. لا أدري لماذا. أذكر أنّه كان متّزنًا خلال سنواتي الستّ التي بلغتُها من عمري. يعمل في الضيعة، يقطف البرتقال، ويملأ به الصناديقَ، ويعبّئ بها الشاحنة. لا تفارقه سلّتُه المشبّكةُ التي يعلّقها على كتفه طوال اليوم. جُنّ، فراح، وبقيتْ...
    كلّما سعل جدّي كانت جدّتي تقول بصوتها اللطيف: "الله!" وكان يتعمّد، في كثير من الأحيان، السّعالَ كي يسمعَ تلك الكلمة. وما كانت تخيّبُ آمالَه حتّى في حالات الخصام، فيبتسم ويتنحنح قائلًا: "الله يخليلي ياكي." فلا تردّ، بل تكتفي بالتحديق في الأفق،...
  كنتُ قد قرّرتُ أن أقتل العقربَ بطريقةٍ مُثيرة. خطّطتُ لكلّ شيء، وأعدتُ الأحداثَ في مخيّلتي آلافَ المرّات. وفي كلّ مرّةٍ كنتُ أزيد تفصيلًا، وأهمل آخر. حتّى بدت العمليّةُ شبيهةً بجريمة كاملة. القصّة ابتدأتْ حين كنت أقف في ظلّ خزان المياه الأسطوانيّ...
    رقمُ الغرفة التي زجّوه فيها  كان 798 806 20، صبيحةَ الخامسِ من الشهر الثاني للعامِ الثالث من الحرب. لا نوافذَ لهذه الغرفة. قيّدوا قدميْه ويديْه إلى أطراف السرير. شعر بوخزِ الإبرة في وريده. وبعدَ دقيقتين نام. دخل الغرفةَ رجلان يرتديان الزيّ...
    من المنعطف الأخير للنفق الضيّق، أسفلَ جسر شيراتون، أطلّ رأسُ عمودٍ فضّيّ، رفيع ومائل، كما لو أنّ جذرَه مغروسٌ في الهواء. لم يتطلّب الأمرُ أكثرَ من ثانيتين ليظهر رأسُ فتًى أسمر، ثمّ قامتُه المحنيّة، وعلى جانبيها طرفا بقجةٍ أعرض من ظهره. بعد بضع...
    وقفتْ ملاك وهي تراقب ابنتَها، التي بلغت التاسعةَ من العمر، وأصبحتْ جاهزةً لـ"تقليد دينيّ" يسري في عائلتها. بكت وهي تتأمّل الحاضرين يهنّئون جنى في حفل ارتدائها الحجاب. يظنّون دموعَ أمّها فرحًا، وهي وحدها مَن يتذوّق مرارةَ البكاء. في تلك اللحظة،...
    أيقن سعدون أنّ ما يحمله من طعامٍ وحليبِ أطفال ودواءٍ سيشكّل تميمةً يُبعد بها شبحَ الجوع عن بيته للأيّام القليلة القادمة. وبعد أن استطاع تأمينَ معظم احتياجاته المنزليّة، بقيتْ أمامه عقبةٌ واحدة: عبورُ الشارع الذي يفصل شرقَ المدينة عن غربها. جذبه...
    الأستاذ مسعود خرّيجُ كلّيّة الآداب في جامعة الإسكندريّة، قسم التاريخ. رجلٌ تخطّى الأربعين، ويعمل مدرِّسًا للتاريخ في مدرسة النصر الثانويّة في الأنفوشي، وهو حيٌّ فقيرٌ في مدينة الإسكندريّة، وفيه يقع بيتُه القديمُ على بعد خطواتٍ من عمله. مسعود كان...
    يفتح عينيه ببطء. يدير وجهَه نحو النافذة، رامقًا بوجهٍ يابسٍ الضوءَ الذي يتسلّل من وراء الستارة. يزيح الغطاءَ عنه، ويجلس على حافّة السرير. تلتقي عيناه بالمشجب الفارغ قرب باب الغرفة المشرع، فيَشعر بوخزةٍ في صدره، بينما يفكّر في بذلته العسكريّة...
    بعيدًا عن هناك، في تلك الليلة، داخل المنزل المحاصَر، عذّبني كابوسٌ لئيم: حلمتُ بأنّني أقرأُ روايةً، وبأنّ كاتبَها كان ينظر إليّ بطريقةٍ ما. لم يكن جالسًا قُربي. المؤكّد أنّه رآني وأنا أضعُ كأسَ الشاي على صفحةٍ من صفحات الرواية، لتخلِّفَ بقعةً...
    منذ فترة وأنا أريد أن أكتب عن الفتاة الشقراء التي كُنْتُها: أنا، الفتاة المتوسطيّة الملامح، التي تتحوّل خلال ساعات إلى أخرى بشعر أشقر. كان الأصفر الذي غزا رأسي مدعاةً لاستغرابِ كلِّ مَن رآه. الآن بات الجميع معنيًّا بإبداء رأيه في هذا التغيير...