على أبواب معرض بيروت للكِتاب العربيّ والدوليّ، سألتْ جريدة السفير رئيسَ تحرير الآداب الأسئلة الآتية: هل بلغ معرضُ الكِتاب سنّ الشيخوخة؟ وهل يستطيع تجديدَ شبابه؟ وكيف ترى إلى مستقبل المعرض في لبنان؟ وهل يمكن أن تستعيد بيروتُ بواسطته لقبها كـ"حاضنة للكتاب العربيّ"؟
هل بلغ المعرضُ سنّ الشيخوخة؟ لِمَ لا نقول إنّه بلغ منتصفَ الكهولة، وهي غيرُ الشيخوخة وإنْ حملتْ شيئًا من "نُذُرها"؟ في منتصف الكهولة (بعد الخامسة والأربعين مثلًا) تكتمل تجربةُ المرء أو تكاد، ويخفُّ نزقُه، وتتراجعُ فجاجتُه، وتنضجُ ثمراتُ عمره ويحينُ قطافُها: نضرةً، شهيّةً، برّاقةً، متكوّرة. لكنّ هذه الثمرات لن تلبثَ أن تسقط ذاويةً إنْ لم يسرع الناسُ إلى التقاطها و"استثمارها" (أو التهامها). وضعُ معرض الكِتاب في بيروت شبيهٌ بوضع هذه الثمرات: مرشّحٌ للتطوّر، مثلما هو قابلٌ للذبول؛ فالعمرُ ـــ في ذاته ـــ ليس ميزانًا للحكْم له أو عليه.
لكنّ المعرض شبيهٌ بحاضنته أيضًا، بيروت: بيروت التي تحيا اليوم "من قلّة الموت"، تستعيد أنفاسَها بين تفجيرٍ وتفجيرٍ، وتنتفض بين "حملةٍ" لإسقاط النظام و"حَراكٍ" لمحاسبة النظام؛ بيروت ذاتِ "الشغور" على مستوى رئاسة الجمهورية، وقلّةِ الكفاءة على مستوى الحكومة، وانعدامِ الانعقاد على مستوى مجلس النوّاب؛ بيروت التي لم تعد في هذه الساعات "خيمتَنا" الأخيرة، ولا " نجمتَنا" الأخيرة، بل مزبلتنا الكبرى! فكيف نتوقّع ألّا يتأثّرَ معرضُ كتابٍ بتلال الزبالة (الماديّة والمعنويّة) التي بُني فوقها؟
أأدافع هنا عن بقاء معرض الكتاب على حاله؟ حسنًا، إنّ وجود معرضٍ للكتاب في صيغته الحاليّة، ولو من دون أدنى تطوير، وفي دولةٍ مروِّعة كلبنان، أفضلُ بكثير من انعدامه. إنّ معرض الكتاب شهقةُ بلادٍ تُشْرف على الهاوية، وبصيصُ حياة في ظلامٍ عميم. المعرض، كما أراه اليوم، تمرّدٌ ورقيٌّ، "حَراكٌ" مجازيٌّ لأطنان الكتب في وجه أطنان الزبالة.
***
لكنّ معرضنا، مثل حاضنته ومثلنا، ينبغي أن يتطوّر رغم كلّ شيء. وقد بُحّ صوتُنا ونحن نطالب بذلك في مثل هذا اليوم من كلّ عامٍ تقريبًا، فيجيئنا الردُّ ذاتُه: "العين بصيرة واليد قصيرة". فالنادي الثقافيّ العربيّ، منظّمُ المعرض، يكاد لا يغطّي أكلافَ المعرض الباهظة الحاليّة، فكيف نطالبه بالمزيد؟ وما معنى أن نرسمَ له خططًا طموحةً، وهو يقول إنّه لا يقوم بالأعباء الراهنة إلّا بشقّ النفس؟ لذا، علينا، حين نفكّر في الخطط، أن نفكّر في كيفيّة تغطيتها الماليّة أيضًا. وأقول "نفكّر" بصيغة الجمع لأنّ التطويرَ المنشودَ ليس من واجب النادي وحده، بل هو مسؤوليّة مشتركة، لأنّ كثيرين سيستفيدون منه: الناشر، والكاتب، والقارئ، والطالب، وقطاعات رسميّة بأسرها، ولاسيّما التربية والثقافة والسياحة في لبنان.
فمثلًا، دأب النادي على تنظيم ندواتٍ ذاتِ طابعٍ "أهليّ محلّيّ" في المعرض بحجّة أنّه غيرُ قادر على دفع تكاليف استضافة مثقفين أجانب وعرب (باستثناء "المقرّبين" جغرافيًّا كالسوريين والأردنيين والمصريين)، مع أنّ بعض هذه الندوات كانت لتكون أكثر ثراءً و"مردوديّةً" فكريةً بوجود أولئك المثقفين. أقترحُ في هذا الصدد أن يكون جزءٌ من ندوات المعرض ذا طابع عربيّ/عالميّ (كتطوّر أدب الناشئة في العالم، والثقافة العربيّة في المهجر، وينابيع الإرهاب في العالم،...)، على أن يشترك ثلاثةُ أطرافٍ على الأقلّ في تحمّل تكاليف سفر الضيوف الأجانب وإقامتِهم: طيرانُ الشرق الأوسط، ودارُ نشر (أجنبيّة أو لبنانيّة أو عربيّة)، ووزارة السياحة (أليس للثقافة مردودٌ على السياحة؟). وينطبق الأمرُ على نشاطاتٍ أخرى من نوع: دعوة ناشرين أجانب لشراء عقود ترجمة كتب عربيّة، وإقامة ندوات للناشرين اللبنانيين والعرب لتوعيتهم بحقوق النشر.
أما المدارس فينبغي أن تضطلع بدورٍ أعظم بكثير من مجرّد نقل الطلّاب بالباصات إلى المعرض. وأقترحُ تعاونًا ملموسًا بينها وبين المعرض، عنوانُه "أفضلُ قارئ" (مسابقة من 10 أسئلة دقيقة حول 5 روايات أو دواوين أو مسرحيّات عربيّة محدّدة). وبهذا يكون طلّابُ المدارس جزءًا عضويًّا من المعرض، لا محضَ "ضيوف" عليه.
***
الاقتراحات كثيرة، ولن نستوفيها في مقالة قصيرة. المهمّ أن نقتنع جميعُنا، لا منظّمو المعرض وحدهم، بأنّنا أمام كنزٍ ثمينٍ ينبغي ألّا نفرطَ فيه، وبأننا قادرون رغم الصعاب على الحفاظ عليه وصقله. فمهما تراجعتْ بيروت في العقديْن الأخيريْن على الأقلّ فإنّها تبقى، حتى اللحظة، الرئة النشريّة العربيّة الأوسع لتنفّس الحريّة والاختلاف.