كاتب من الأردن
لا يمكن الحديثُ عن جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا كما في مصر أو الأردن أو تونس واليمن. فظروف عدّة أجبرت الجماعة في ليبيا، غيرَ مرّة، على تغيير شكلها وهيكلها وطرق عملها ومناطق نشاطها، ما أفقدها تماسكَها وقدراتِها التنظيميّة. على سبيل المثال، يعترف أحدُ منظّريها، محمود الناكوع، بأنّ عدد أعضائها في الخارج لم يتجاوزْ، منذ التسعينيّات، 200 شخص، أما في الداخل، فلم يكن لها وجود.(1) لذا، لن يقتصر نطاقُ هذا البحث على تجربة الجماعة بل سيشمل الحركات الإسلاميّة الليبيّة الأخرى، خصوصًا تلك التي تماهى الإخوانُ معها وانخرطوا في صفوفها.
انقسمتْ ليبيا بين قبائل ومناطق مؤيّدة للعقيد معمّر القذافي (مثل قبائل القذاذفة والمقارحة وورشفانة والمشاشية، ومناطق مثل سرت وبني وليد والعجيلات وتاورغاء)، وتركّزت المعارضةُ في مدن (مثل مصراته والزاوية وبنغازي ودرنة وزوارة) وفي قبائل (مثل الزنتان والزوية والتبو). عصبيّات جهويّة لعب عليها القذّافي للاستمرار في السلطة، معمّقًا بذلك الشرخَ الاجتماعيّ في مناطقَ متجاورةٍ ما زالت تشهد معاركَ أو توتّرات إلى الآن (مثل مصراته في مواجهة تاورغاء، وورشفانة مقابل الزاوية).(2)
أخذت المعارضة شكلًا قبليًّا وجهويًّا دَفع بأبناء القبائل المهمّشة نحو الحركات الإسلاميّة. أولى الحركات كانت جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسّستْ في مدينة بنغازي أواخرَ أربعينيات القرن العشرين.(3) لكنّ بطشَ القذّافي أدّى إلى اختفائها، لتظهر حركاتٌ إسلاميّة أخرى أبرزُها: الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا، والجماعة الإسلاميّة المقاتلة. نفت جماعةُ الإخوان صلتها بالجماعات المسلّحة، لكنْ بعد عقود اعترفتْ قياداتُ الإخوان بانخراط أفرادها في هذه الجماعات.(4)
في فبراير 2011، تسارعت الأحداثُ منذ اندلاع الانتفاضة ضدّ القذّافي. حشدّت القبائلُ والمناطقُ المعارضة قواها لإسقاط نظام الرعب، وعاد الإخوانُ إلى الساحة، وحاولوا بناء قاعدةٍ لهم من جديد، وأصابوا نجاحًا. كذلك فعلت الجماعةُ الإسلاميّةُ المقاتلة، التي أفلح أميرُها، عبد الحكيم بلحاج، في تصدّر المشهد "الثوريّ" في ليبيا. بعد أشهر من الحرب، سقط القذّافي، وسقطتْ معه ليبيا في قبضة الميليشيات. كان سقوطًا كاملًا، أحدُ أهمّ أسبابه اختزالُ الدولة في شخص القذّافي، واتّباعُه سياسة تغييب مؤسّسات الدولة حفاظًا على سلطته.
سيفُ الإسلام وغمدُ الإخوان
في الإصدار الأوّل من الآداب، الذي تناولنا فيه مواقفَ الجماعة في مصر، أثبتنا التقلّبَ الكبيرَ في مواقفها، والمنهجَ البراغماتيَّ التي اتّبعته.(5) تجربة جماعة الإخوان الليبيّة لا تختلف عن نظيرتها المصريّة. فبعد عقود من سياسة القتل والقمع التي مارسها النظام في حقّ الجماعة، لبّت بسرعة دعوةَ سيف الإسلام القذّافي للتحاور، فبدت وكأنها تنتظر أيّ إشارة من النظام لتهرول إليه.
قاد مشروعَ المصالحة القياديُّ الكبير في الجماعة علي الصلابي، الذي توطّدتْ علاقتُه بسيف الإسلام حتى أصبح عضوًا في مجلس أمانة "مؤسّسة القذّافي للجمعيّات الخيريّة." أقنع الصلابي الجماعةَ بمشروع سيف الإسلام، "ليبيا الغد،" فأعلن قادةُ الإخوان والجماعة المقاتلة تأييدَهم له؛(6) وفي المقابل، أطلق سيفُ الإسلام المعتقلين الإسلاميين، وعلى رأسهم بلحاج.
إذن، بعد سنوات من تكفير النظام وأعوانه، انقلب الإسلاميون الليبيون، وانهالوا بالثناء على معمّر القذّافي وابنه،(7) وتحوّل الأوّل في خطابهم من "الطاغوت الزنديق" إلى "الأخ قائد الثورة،" وأصبح وليّ أمرٍ شرعيّ لا يجوز الخروجُ عليه.(8) وما إن انتهى الإسلاميون من ترتيبات العودة إلى صفّ السلطة حتى بدأوا التحضيرَ لتكليف مرشد الإخوان برئاسة الحكومة.(9) لكنّ انتفاضة 17 فبراير أربكتْ حساباتِهم في بداية الأمر، وخلطت الأوراقَ التي انتهوْا للتوّ من ترتيبها مع سيف الإسلام. كان ذلك قبل أن يروْا في الانتفاضة فرصةً للانقضاض على الكعكة كاملةً، بدل اقتسامها مع عائلة القذّافي.
القذّافي مؤمن.. القذّافي كافر
بالسرعة التي لبّت بها الجماعةُ دعوةَ النظام، انقلبتْ عليه، وعاد الإخوان إلى تكفير القذافي، وتحوّل في خطابهم مرةً أخرى من "الأخ القائد" إلى "الطاغوت الزنديق،" وأصبح حكمُ "الوليّ الشرعيّ" غزوًا يجب الخلاصُ منه "بصفقة مع الله."(10) أما الجماعة الإسلاميّة المقاتلة، فالتزمت الصمتَ حتى مرور شهر من اندلاع الانتفاضة، ودعت أنصارَها إلى الحياد، خصوصًا بعد المراجعات التي قام بها أمراءُ الجماعة، وأوضحوا فيها أنّ الجهادَ المسلّح ضدّ القذّافي غير شرعيّ من منظور الشريعة الإسلاميّة.(11) وبذلك تجنّب الإسلاميّون وضعَ بيضهم في سلّةٍ واحدة: فطرفٌ رمى بثقله خلف الانتفاضة، وطرفٌ التزم الحياد بانتظار ما ستؤول إليه الأمور.
لكنْ في 19 مارس 2011، أطلق الناتو عمليّة "فجر الأوديسّا" ضد قوّات القذّافي، تبعها تقدّمٌ للثوّار في شرق البلاد، فذهبتْ "مراجعاتُ" الجماعة الإسلاميّة المقاتلة أدراجَ الرياح، وعاد القذّافي "حاكمًا كافرًا" يجب الخروجُ عليه بالسلاح. انضمّت الجماعة المقاتلة إلى الثورة، وبدأتْ بتشكيل كتائب عسكريّة لإسقاط القذّافي، موظّفةً الخبرةَ العسكريّةَ التي اكتسبها عناصرُها أثناء قتالهم في أفغانستان ومناطقَ أخرى.
منذ الأيّام الأولى، سعى الإخوانُ إلى التدخّل الخارجيّ، محاولين إسقاطَ القذّافي والوصولَ إلى الحكم بأسرع وقت وأقلّ تكلفة. |
الرسول حليفًا للناتو
"لو شهد الرسولُ حلفَ الناتو لبادر إليه": في خطبة شهيرة بمدينة بنغازي، قال هذه الجملة أحدُ قادة الإخوان، الشيخ ونيس المبروك.(12) هذه الجملة تُظهر توظيفَ إخوان ليبيا الدينَ بشكل ساذجٍ وبشعٍ لصالح أجنداتهم السياسيّة. وبهذه الجملة أيضًا، يحاول المبروك تبريرَ إحدى أهمّ خطايا الإسلاميين في حقّ انتفاضة 17 فبراير، وهي دعوة الناتو إلى التدخّل في ليبيا. فالتدخّل نزع الصبغةَ الشعبيّة والوطنيّة عن الانتفاضة، وفتح البابَ على مصراعيْه أمام قوًى إقليميّة ودوليّة ذاتِ أيادٍ داخليّةٍ سبّبتْ تشرذمًا كبيرًا، أدخل البلادَ في دوّامة التناحر الذي تشهده منذ سقوط القذّافي.
منذ الأيّام الأولى، سعى الإخوانُ إلى التدخّل الخارجيّ، محاولين إسقاطَ القذّافي والوصولَ إلى الحكم بأسرع وقت وأقلّ تكلفة. طلب الإخوانُ من الجيشين التونسيّ والمصريّ التدخّلَ بعد أقلّ من أسبوع على اندلاع الانتفاضة.(13) ومع حصار كتائب القذّافي لمدينة مصراته، معقلِ الإسلاميين في الغرب، دفع الإخوانُ نحو تدخّل تركيّ بحجة الأصول التركيّة لأهل مصراته.(14) كما لم يتوقّف المجلسُ الوطنيّ الانتقاليّ والإخوانُ عن الدعوة إلى تدخّل دوليّ، حتى وصلتْ قواتُ القذّافي إلى مشارف بنغازي، فصدر قرارُ مجلس الأمن رقم 1973 تحت الفصل السابع، وبدأ قصفُ الناتو في 19 مارس 2011.
مع تدخّل الناتو، استعادت قوّاتُ المعارضة زمامَ المبادرة. أعنفُ المعارك شهدتها مدينةُ مصراته، التي كانت تقبع تحت حصار كتائب القذّافي، فتدمّرتْ بشكل شبه كامل؛ كما أصبح ثابتًا ارتكابُ النظام جرائمَ فظيعةً هناك. أبدى ثوّارُ مصراته شراسةً كبيرةً في القتال أثناء الحصار، وبعد دحر كتائب القذّافي ظلّت هذه الشراسة لغةً وحيدةً يتقنها مقاتلو هذه المدينة، الذين يغلب عليهم الطابعُ الإسلاميّ لظروف سياسيّة كما أوضحنا، وأخرى تاريخيّة. دامت المعاركُ في مصراته 3 أشهر تقريبًا، حتى أعلن الثوّارُ سيطرتهم الكاملة في 15 مايو 2011، ليتقدّموا بعدها إلى المناطق المجاورة،(15) وأبرزُها تاورغاء، التي بين أهلها وأهلِ مصراته خصومةٌ تاريخيّة.
لم يعد من الممكن إنكارُ الفظائع التي ارتكبها مقاتلو مصراته في حقّ خصومهم، حتى بات يتململ منها الأنصارُ قبل الخصوم.(16) تاورغاء أبيدتْ بشكل شبه كامل، وهجرها معظمُ أهلها، ثم كرّت مسبحةُ جرائم كتائب مصراته في طرابلس وبني وليد وسرت ومناطقَ أخرى. ومن المفيد التذكيرُ هنا بأنّ كتائب مصراته هي التي قبضتْ على القذّافي وابنه المعتصم وبعضِ المرافقين، ونقلتهم إلى مصراته جثثًا هامدةً تنتشر عليها آثارُ التعذيب. وهناك إشاراتٌ واضحة إلى انتهاكات جنسيّة تعرّض لها المعتقلون قبل مقتلهم، وبخاصةٍ معمّر القذافي، الذي يُظهر مقطعُ فيديو جانبًا من التحرّش الجنسيّ والانتهاكات التي تعرّض لها.(17) وهذا يفسّر تقريرًا طبّيًّا أوّليًّا، اختفى لاحقًا من مستشفى مصراته الوطنيّ، عاين جثّة القذافي، وأرجع سببَ الوفاة الرئيس إلى نزيفٍ داخليّ في الأحشاء.
هنا، يجب عدمُ إغفال الغطاء "الشرعيّ" الذي تحصّنتْ خلفه الميليشياتُ التي انتشرتْ في جميع أنحاء البلاد، وعاثت فيها فسادًا ونهبًا وقتلًا. فقد صدرتْ فتاوى كثيرةٌ في ليبيا وخارجها تحضّ على العنف والقتل، لعلّ أشهرَها فتوى الشيخ يوسف القرضاوي بقتل القذّافي.(18) أما الشيخ المقرّب من الإخوان، الصادق الغرياني، الذي عيّنه المجلسُ الانتقاليُّ مفتيًا للديار الليبيّة فيما بعد، فقد أفتى في مناسباتٍ عدّة بوجوب استخدام العنف: مثلًا، الفتوى التي حرّض بها على مدينة بني وليد، المواليةِ للقذّافي، وقال إنّ دخول المدينة بالقوّة فرضُ عينٍ على جميع الليبيين؛(19) هذا بالإضافة إلى فيديو للغرياني يحرّض على محاصرة المؤتمر الوطنيّ المنتخب بالسلاح، لإصدار قرارٍ بشأن بني وليد.(20)
استعرت الحربُ، ورفض المجلسُ الانتقاليّ، ومِن ورائه الإسلاميّون، جميعَ الحلول الدبلوماسيّة، بما فيها استعدادُ القذّافي للتنحّي بعيْد بدء الأزمة.(21) أصرّت المعارضة على إسقاط القذّافي بالقوّة، رغم ما كلّف ذلك البلادَ من دماء، ليتبيّن لاحقًا أنّ الإسلاميين أعدّوا لهذه اللحظة؛ وهو ما تجلّى لحظة دخول أمير الجماعة الإسلاميّة المقاتلة، عبد الحكيم بلحاج، الساحةَ الخضراء في طرابلس مباشرةً عقب سقوط النظام: فكاميرا قناة الجزيرة، المقرّبة من الإخوان، كانت حاضرةً لنقل الاستعراض، الذي أعلن خلاله بلحاج تحريرَ طرابلس، ونصّب نفسَه رئيسًا لما سمّاه المجلس العسكريّ في طرابلس.(22) وحين لم يلقَ إعلانُه الصدى المطلوبَ، عادت الجزيرة لتغطّي حصريًّا دخولَه بطريقة استعراضيّة بابَ العزيزيّة، معقلَ القذافي.(23) تصريحاتٌ لاحقةٌ لرئيس الوزراء الليبيّ حينها، محمود جبريل، كشفتْ سعيَ قطر الحثيث إلى تنصيب بلحاج قائدًا للثوار؛ فبحسب جبريل، دفعتْ قطر ببلحاج إلى قيادة عمليّة تحرير طرابلس، وزوّدَته بالأسلحة، ثم أجّلت موعدَ العمليّة مرّاتٍ عدّة حتى يتسنّى له تنظيمُ قواته.(24)
إذًا، مع ميْل المعركة نحو الحسم، كشّر الإسلاميّون عن أنيابهم تجاه رفاق السلاح، وسعوا إلى سحب البساط من جميع القوى الثوريّة الأخرى، مقدّمين أنفسَهم قادةً وحيدين للنصر على القذّافي.
من جماهيريّة العقيد إلى جماهيريّات العقداء
"الأدوار العربيّة في ثورة ليبيا تتكشّف": هذا عنوانُ مادّةٍ نشرتْها قناةُ الجزيرة القطريّة على موقعها عن أدوارٍ قامت بها دولٌ عربيّةٌ خلال الانتفاضة الليبيّة.(25) تعترف الجزيرة بدعمٍ قطريّ كبيرٍ للثوّار، وتَفاخر الرئيسُ السودانيّ عمر البشير بدوره في الإطاحة بالقذّافي، ولا يمكن إغفالُ دورٍ أردنيّ وآخرَ إماراتيّ. الشعار العامّ كان دعمَ الثوّار، لكنّ الصورة التفصيليّة أكثرُ تعقيدًا: فكلّ طرف دعم الجهة التي تمثّله وتخدم مشروعَه في الداخل الليبيّ. وهذا ما توضحه مصادرُ عدّة، ونخصّ الدورَ القطريّ في دعم الإسلاميين لأنّهم موضوعُ بحثنا.
فقد كشفتْ شخصيّاتٌ ليبيّة عدّة، كانت في موقع المسؤوليّة في صفوف المعارضة، عن إغراق الكتائب الإسلاميّة بالسلاح من دولٍ تحْكمها تيّاراتٌ تمثّل مشروعَ الإسلام السياسيّ، كقطر والسودان وتركيا. رئيسُ الوزراء، محمود جبريل، تحدّث عن الدعم القطريّ المبكّر واللامحدود للثوّار الإسلاميين (بل إنّ فرنسا أبدت اعتراضها على التمويل القطريّ المنفصل لبلحاج والكتائب الإسلاميّة).(26) مسؤولون في المجلس الانتقاليّ كشفوا عن رصدهم لتخزين الكتائب الإسلاميّة للسلاح في وقت مبكّر من الانتفاضة، وعدم استخدامه في مواجهة كتائب القذّافي خلال المعارك.(27) أدوار أخرى تكشّفتْ، ومنها دورُ علي الصلابي في توجيه دفّة المساعدات العسكريّة القطريّة إلى الجماعات الإسلاميّة، خصوصًا أنّ شقيقَه، إسماعيل، يقود كتيبة راف الله السحاتي، إحدى أكثر الميليشيات الإسلاميّة تطرفًا. أما إصرار قطر والكتائب الإسلاميّة على بقاء سلطة الميليشيات، فيؤكّد الإعدادَ المبكّر للسيطرة على ليبيا، ووضْعَ خيار الاحتكام إلى القوة في الحسبان.
بدأ العمل على تعزيز سطوة الكتائب الإسلاميّة منذ الأيّام الأولى لتشكيل المجلس الانتقاليّ. وقد لعب دورًا كبيرًا في هذا وزيرُ دفاع حكومة المعارضة، جلال الدغيلي، الذي يفخر بانتمائه إلى تيّار الإسلام السياسيّ، ويشيد بالدور القطريّ في ليبيا،(28) علمًا بأنّ جميع تحرّكاته كانت تتمّ بمرافقة قادة عسكريين قطريين. مقابلَ تعزيز سلطة الميليشيات، كان لا بدّ من إضعاف المؤسّسات، والقضاءِ على أيّ محاولة لبلورة مؤسّسة عسكريّة موحّدة وقويّة. لذا أفشل الإسلاميّون جهودَ تشكيل هيئة عسكريّة شاملة لكتائب المعارضة، وسعوْا إلى إضعاف قيادة الجيش الوطنيّ التابع للمعارضة. كما دفع الإخوان إلى إجهاض جهود تشكيل المجلس العسكريّ في بنغازي. أما عبد الفتّاح يونس، رئيسُ أركان جيش المعارضة، والشخصُ الوحيد الذي كان قادرًا على توحيد جميع العسكريين المنشقّين تحت إمرته، فقد قُتل على يد مَن وُصفوا بالإسلاميين المتطرّفين، ولم يولِ المجلسُ الانتقاليّ اغتيالَه أيَّةَ متابعةٍ جدّيّة.(29)
"الثوّار لا يُلْقون السلاحَ أبدًا": بهذه الجملة خرج أميرُ قطر عن اللياقة الدبلوماسيّة المعهودة، وقاطع ــــ في مؤتمر صحفيّ مباشر ــــ رئيسَ الوزراء الليبيّ حينها، محمود جبريل، بعد أن قال الأخير إنّ لدى حكومته خطّةً لاستقرار طرابلس ولجمع الأسلحة وشرائها.(30) انعكستْ تصريحاتُ أمير قطر على الأرض، فرفض ثوّارُ مصراته تسليمَ أسلحتهم في وقت مبكّر رغم الدعوات المتكرّرة من المجلس الانتقاليّ وهيئة أركان المعارضة.(31) واتضح الأمر بعد أن ألغى المجلسُ الانتقالي، الذي هيمن الإسلاميون عليه، قرارَ حكومة جبريل حلّ التشكيلات العسكريّة في طرابلس و"اللجنة الأمنيّة العليا،" وقال جبريل لاحقًا إنّ رئيس الأركان القطريّ حاول الضغط عليه للتراجع عن القرار، وكان حينها برفقة الدغيلي وبلحاج.(32) وسواءٌ صحّ كلامُ جبريل بشأن الدور القطريّ أو لم يصحّ، فالثابت أنّ الإسلاميين كانوا وراء إلغاء القرار. وبعد ساعات من ظهور جبريل في مؤتمر صحفيّ أعلن فيه حلّ تشكيلات الثوّار العسكريّة، شنّ القياديُّ الإخوانيّ علي الصلابي، في مقابلة على الجزيرة، هجومًا حادًّا على جبريل، واصفًا إيّاه بالفاسد والديكتاتور، مطالبًا باستقالته.(33)
مع انتشار الميليشيات، تفشّت الانتهاكاتُ ودبّت الفوضى، خصوصًا في طرابلس، التي دخلها مقاتلون من شتى المناطق. واقتسم النفوذَ على العاصمة جناحان مسلّحان: جناحُ مصراته الإسلاميّ، وجناحُ الزنتان الأقربُ إلى العلمانيين. تحايل المجلسُ الانتقاليّ على حلّ الأزمة بقرارٍ يقضي بربط الميليشيات بمؤسّسات الدولة من دون حلّها، فتشكّلتْ قواتُ "درع ليبيا" التي تعمل مع الجيش، وتشكّلت "اللجنة الأمنيّة العليا" التي تعمل مع الشرطة، ومُنح التشكيلان الجديدان تفويضًا كبيرًا. لكنْ جاء القرار بنتائجَ عكسيّة: إذ أعطى الميليشياتِ غطاءً قانونيًّا مكّنها من ارتكاب الجرائم بسهولةٍ أكبر، ولاسيّما في مدينة بني وليد؛ حتى إنّ وزير الدفاع، أسامة الجويلي، وصفها بالقوّات غير النظاميّة التي لا يمكن السيطرةُ عليها، وأكّد أنّ انتهاكاتها في بني وليد لا توصف، من سرقة وقتل وتعذيب واغتصاب.(34)
موسمُ قطافٍ غير مكتمل
طوال شهور الانتفاضة، ظلّ الانقسام في صفوف المعارضة بين العلمانيين والإسلاميين صامتًا. صبر الإسلاميون على مصطفى عبد الجليل رئيسًا للمجلس الوطنيّ الانتقاليّ لضعف شخصيّته ومجاراتِه التيّارَ الإسلاميّ. تمدّد الإخوان في المجلس الانتقاليّ. لم ترضَ جماعاتُ الإسلام السياسيّ بالحدّ الأدنى من تشارك السلطة مع شركاء الانتفاضة، وشنّت حملةً على الوجوه العلمانيّة في المجلس، حتى قدّم بعضُهم استقالته، كعبد الحفيظ غوقة، الذي تعرّض للاعتداء،(35) شأن محمود شمام وعلي الترهوني وعبد الرحمن شلقم وناجي بركات.
في مقابل الهيمنة على المجلس الانتقاليّ والحكومة، سعى الإسلاميّون إلى إفشال أيّة محاولةٍ لبناء مؤسّسات الدولة. |
مع مقتل القذّافي في 20 أكتوبر 2011، حُسمت المعركة مع نظام الأمس، وتوجّه الإسلاميون إلى حسم المعركة مع شركائهم في نظام اليوم. فاستقال جبريل من رئاسة الوزراء بعد الحملة التي شنّها الإسلاميون عليه بسبب قرار حلّ الميليشيات كما أسلفنا. واعترض تيّارُ الإسلام السياسيّ على بقاء الليبراليّ علي الترهوني في رئاسة الحكومة بعد استقالة جبريل. وتوالت اعتراضاتُ الإسلاميين على المرشّحين إلى رئاسة الوزراء، حتى شغل المنصبَ عبد الرحيم الكيب، الذي كان محاضرًا جامعيًّا وناشطًا في الجالية الإسلاميّة أثناء فترة عيشه الطويلة في ولاية ألاباما الأميركيّة.(36)
في مقابل الهيمنة على المجلس الانتقاليّ والحكومة، سعى الإسلاميّون إلى إفشال أيّة محاولةٍ لبناء مؤسّسات الدولة. في أغسطس 2011، أقرّ المجلس إعلانًا دستوريًّا، تمّ تعديلُه في 2012. ورغم معارضة بعض العلمانيين، نجح الإسلاميون في تمرير جميع البنود التي اقترحوها، وعلى رأسها أن تكون الشريعة المصدرَ الرئيسَ للتشريع. في مقابل ذلك، رفض الإسلاميّون أيّ نصّ يجعل للدولة رأسًا، وأصرّوا على ان تقتصر السلطة على حكومة وبرلمان خلال الفترة الانتقاليّة.(37) وبذلك بقيتْ مؤسّسة الحكم ناقصة في غياب مرجعيّة عليا تفصل بين السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة.
قانون الانتخاب لم يَسْلم هو الآخر من وصاية الإسلاميين، إذ أصرّوا على مشاركة الأحزاب من دون وجود قانونٍ ينظّم عملها، وعلى السماح بترشّح أعضاء الأحزاب على المقاعد الفرديّة، ما يلغي مبدأ المرشّح المستقلّ ويجيّر مقاعدَ أكبر للكتل الحزبية(38) ــــ وهذا البند تحديدًا أنقذ الإسلام السياسي من خسارة فادحة في الاستحقاق الانتخابيّ الأول من المرحلة الانتقاليّة.
رغم ذلك كلّه جاءت نتيجة الانتخابات مفاجئة. ففي 7 يوليو 2012، تاريخِ أوّل انتخاباتٍ تشريعيّة بعد سقوط القذّافي، حاز تحالفُ القوى الوطنيّة، بقيادة الليبراليّ محمود جبريل، 39 مقعدًا، في حين جاء حزبُ العدالة والبناء، الذراعُ السياسيّ للإخوان، في المرتبة الثانية بـ 17 مقعدًا، أما الجماعة الإسلاميّة المقاتلة فانقسمتْ إلى حزبين حاز كلّ منهما مقعدًا واحدًا فقط. لكنّ المقاعد الفرديّة هي التي عدّلت الكفّة بفوز عدد كبير من الإسلاميين "المستقلين."(39) وهكذا انقسم أولُ برلمان ليبيّ منتخب بين كتلة ليبراليّة تملك أقلّ من نصف المقاعد لكنّها متماسكة، مقابل تحالفٍ هشّ من الإسلاميين يحظى بأغلبيّةٍ تكاد لا تكفي لحسم أيّ نزال برلمانيّ.
بالنسبة إلى الإسلاميين لم تنته الحربُ بمقتل القذّافي، بل بقيتْ أسلحتُهم مرفوعة في معارك عدّة خلال الفترة الانتقاليّة، حسموها بالتهديد والتحريض والتكفير، أو بالسلاح. أولى المعارك كانت رئاسة المؤتمر الوطنيّ العامّ، إذ طرحوا اسمَ الزعيم السابق لجبهة الإنقاذ، محمد المقريف، الذي فاز على مرشّح الليبراليين، علي زيدان. (40) ثم سعوْا إلى الهيمنة على الحكومة، فاتفقوا على ترشيح القياديّ الإخوانيّ، الدكتور عوض البرعصي، لرئاسة الحكومة، لكنه لم يلقَ قبولَ جميع الإسلاميين المستقلين، فوقفت الأحزابُ الإسلاميّة وراء الإسلاميّ الدكتور مصطفى أبو شاقور في مواجهة الليبراليّ الدكتور محمود جبريل، ففاز أبو شاقور بفارق صوتين فقط عن جبريل، في تصويتٍ شابه الكثيرُ من اللغط.(41) لكنّ الأحزاب الإسلاميّة لم تفلح في نيل ثقة المؤتمر الوطنيّ بالتشكيلات الحكوميّة التي قدّمها أبو شاقور، فتوافق الليبراليون مع عدد من أعضاء المؤتمر الوطني المستقلّين على سحب تكليف أبو شاقور، وتكليف الليبراليّ علي زيدان لرئاسة الحكومة. ورغم أنّ الإسلاميين استخدموا لغة التهديد والتكفير مستندين إلى قوة ميليشياتهم على الأرض،(42) فقد انتخب المؤتمرُ الوطنيّ علي زيدان لرئاسة الحكومة. وجدت الأحزابُ الإسلاميّة نفسها أمام الأمر الواقع، فأبدت مرونة لمنح حكومة زيدان الثقة مقابل حقائب وزاريّة. ورغم احتشاد بعض الميليشيات الإسلاميّة أمام مقرّ المؤتمر الوطنيّ، ومحاولات اقتحامه بقوّة السلاح مرات عدة، فقد منح النوّاب حكومةَ زيدان الثقة، وتشكّلتْ بذلك حكومةٌ موسعّةٌ تضمّ إسلاميين وليبراليين ومستقلّين.(43)
فاتحة الانقلابات
انتهت معركة الحكومة، ونجح الليبراليون في فرض مبدإ الشراكة على الإسلاميين. بعد زوال غبار المعركة، أيقن هؤلاء من ضرورة الإجهاز على الليبراليين من أجل الانفراد بالحكم، فطرحوا قانونًا لحظر دخول الحياة السياسيّة على أيّ شخصٍ تولّى أيّ منصب خلال عهد القذّافي.(44) ونظرًا إلى اعتماد القذّافي بالحكم على مناطق وقبائل معيّنة، فقد اعترضتْ أطيافٌ واسعة، لكنّ ذلك لم يمنع الإسلاميين من المضيّ قدمًا في المشروع.
باستخدام شعارات ثوريّة تارةً، والسلاح والتهديد تارةً أخرى، نجح الإسلاميون في إقرار قانون العزل السياسيّ داخل المؤتمر الوطنيّ العامّ، أطاح آلافَ الليبيين من الحياة السياسيّة. فبموجب القانون الجديد، عُزل عددٌ من نوّاب كتلة تحالف القوى الوطنيّة، إضافة إلى بعض المستقلين، ومنهم من يُحسب على التيّار الإسلاميّ نفسه، كرئيس المؤتمر الوطنيّ محمد المقريف. صوّت المؤتمر على انتخاب رئيس جديد، وجاء الإسلاميون بمرشّح الإخوان، نوري أبو سهمين. استفزّ قانونُ العزل، وما تلاه من خطوات، فئاتٍ واسعة؛ حتى إنّ الرجل الوسطيّ، مصطفى عبد الجليل، خرج عن صمته الطويل، واتّهم الإخوانَ بالسعي إلى السيطرة على ليبيا، وحمّلهم مسؤولية الاضطرابات لفرض قانون العزل.(45) في المحصّلة، أصبحتْ شوكةُ الإسلاميين في المؤتمر الوطنيّ أقوى، وباتت لهم الكلمةُ التشريعيّة الأعلى.
حسم الإسلاميون معركة السلطة التشريعيّة، ووضعوا السلطة التنفيذيّة نصب أعينهم. لم يتحمّل رئيسُ الحكومة علي زيدان ضغوطهم الهائلة، فاتّهمهم بعرقلة كلّ القرارات،(46) فتعرّض إلى حملة تحريض وتكفير لا مثيل لها، وتزعّمتْ جماعةُ الإخوان حملة سحب الثقة من حكومته،(47) بل اختطفتْه جماعةٌ إسلاميّةٌ مسلحة واعتدت عليه بالضرب والترهيب لتقديم استقالته. قيادات إسلاميّة وأعضاء في المؤتمر الوطنيّ عقدوا مؤتمرًا صحفيًّا لنفي علاقتهم باختطاف زيدان، لكنّ عبد المنعم الصيد، القياديّ في غرفة عمليّات ثوّار ليبيا، المحسوبة على ثوّار مصراته الإسلاميين، فاجأ الجميع، وأعلن مسؤوليّته عن الاختطاف، معربًا عن فخره بذلك.(48)
بالتوازي مع المسار السياسيّ، كان الإسلاميون يكثفون جهودهم لتقوية ميليشاتهم على الأرض. فأقرّ المؤتمرُ الوطنيّ العامّ قراراتٍ لدعم "دروع ليبيا،" الذراعِ العسكريّ للإخوان. وهذا الدعم لم يحصل عليه الجيشُ الليبيُّ ذاته، حتى تجاوزت الرواتبُ الحكوميّة لأفراد هذه الميليشيات رواتبَ المنتسبين إلى الجيش والأجهزة الأمنيّة.(49)
ضاق سكّانُ المدن بالميليشيات وحواجزها المنتشرة وانتهاكاتها اليوميّة، وخرجتْ تظاهرات تطالب بحلّها، انتهى بعضُها بمجازر دمويّة، أولاها في مدينة بنغازي، التي تظاهر سكّانُها أمام معسكر درع ليبيا في منطقة الكويفية، مطالبين المسلحين بترك المقرّ وتسليمه للجيش الليبي، فسقط نحو 40 قتيلًا.(50) تكرّرتْ أحداث مشابهة في بنغازي، أمام مقرّ كتيبة شهداء 17 فبراير الإسلاميّة، وتوالى سقوط الضحايا برصاص المسلّحين. ثمّ أعلنت الحكومة توصّلها إلى اتفاقٍ على إخلاء مقرّ الكتيبة، لكنّ المسلحين رفضوا ذلك، وأصدروا بيانًا توعّدوا فيه مَن يفكّر في اقتحام الكتيبة بالموت.(51)
في غرب البلاد، لم يختلف الأمرُ كثيرًا. ففي 15 نوفمبر 2013 ارتكبتْ درعُ ليبيا مجزرةً في حيّ غرغور ضدّ متظاهرين تجمعوا أمام مقارّ مسلّحي مصراته للمطالبة بانسحابهم من العاصمة، فسقط 45 محتجًّا ونحو 500 جريح. خلال الأحداث، زحفتْ كتائبُ من مصراته نحو العاصمة، واندلعت اشتباكاتٌ في أحياء عدّة، أعنفُها في حيّ تاجوراء، الذي تعرّض للقصف والحصار.(52) عقب الأحداث، بدأت الأصوات تعلو مطالبةً مسلّحي مصراته بسحب ميليشياتهم من العاصمة، وأمهل المجلسُ المحليّ لمصراته ميليشياتِ مدينته 3 أيّام للانسحاب من طرابلس،(53) لكنّ قادة الميليشيات الإسلاميّة رفضوا الانسحاب، وقال آمرُ درع ليبيا الوسطى، الطاهر باشا آغا، إنّهم لن يخرجوا من طرابلس إلّا على جثثهم، وهدّد بشنّ حرب على طرابلس.(54) وبعد وساطات عدة قال آغا إنّ مسلّحيه لن ينسحبوا قبل إقرار الدستور الليبيّ، ما يبرهن استخدامَ الميليشيات القوةَ لفرض رؤيتها على جميع مفاصل الدولة.
فشل المؤتمر الوطنيّ في وضع دستور للبلاد، كما ينص الإعلانُ الدستوريّ للمرحلة الانتقاليّة. ازدادت الضغوط مع انتهاء ولاية المؤتمر بعد 18 شهرًا من انتخابه، فسعى الإسلاميون إلى تمديد ولايته، فخرجتْ مظاهراتٌ حاشدة سقط فيها قتلى برصاص الميليشيات، واستقال أعضاء من المؤتمر. رغم ذلك تبنّى المؤتمر، قبل انتهاء ولايته في 7 فبراير 2014، قرارا بتمديد ولايته نحو 10 أشهر،(55) وهو ما اعتبره كثيرون تكرارًا لديكتاتوريّة القذّافي. واستمرّت المظاهرات مطالبةً المؤتمرَ الوطنيّ بتسليم السلطة، فانصاع أخيرًا وأعلن عن تنظيم انتخابات تشريعيّة مبكّرة تفرز برلمانًا يستلم السلطة.
مع قرب الاستحقاق الانتخابيّ الجديد، ركّز الإخوانُ جهودَهم على إطاحة علي زيدان، الذي صمد على رأس الحكومة. في 21 يناير 2014، انسحب وزراؤهم من الحكومة، لتصبح المواجهة مفتوحة. بعد نجاح المؤتمر الوطنيّ في التمديد لنفسه، تفرّغوا لجمع الأصوات الكافية لحجب الثقة عن حكومة زيدان، وهذا ما حصل في 11 مارس 2014. ثمّ قرّر المؤتمرُ الوطنيّ تكليفَ وزير الدفاع عبد الله الثني بتسيير أعمال الحكومة. وبعدها سارع الإخوانُ إلى تنصيب رئيس حكومةٍ من صلب الجماعة؛ ففي مسرحيّة هزليّة، خرج رئيسُ المؤتمر الوطنيّ ليعلن عن نيل مرشّحهم، أحمد معيتيق، الأصواتَ الكافية لرئاسة الحكومة. ولكنْ على الرغم من 4 جولات تصويت، وتوقّفِ التصويت مرتين إثر هجمات شنّها مسلّحون على مقرّ المؤتمر، فقد فشل معيتيق في الحصول على الأصوات الكافية لتشكيل الحكومة، وعددُها 121 صوتًا. في الجولة الأخيرة، حصل معيتيق على 113 صوتًا، ورُفعت الجلسة، ولكنْ خرج بوسهمين ليعلن نيل معيتيق 121 صوتًا!(56) ضجّت الدنيا ولم تقعد على الإخوان، لكنّهم مضوْا في تكليفه. غير أنّ المحكمة الدستوريّة العليا أصدرتْ قرارًا بعدم دستوريّة انتخابه، فامتثل للقرار،(57) وعاد عبد الله الثني. وهذا القرار شكّل ضربة قاصمة للإسلاميين، ستجعلهم يدفعون ثمنها في انتخابات البرلمان الجديد.
في جردة حساب بسيطة للمرحلة الانتقاليّة، نرصد فشلًا كبيرًا للإسلاميين في تحقيق أهدافها التي رسموها بأنفسهم. الهدف الوحيد الذي تحقّق كان الدعوة إلى انتخاب برلمانٍ جديد، وهو الأمر الذي جاء بعد ضغط شعبيّ كبير عقب محاولة الإسلاميين الالتفاف عليه. "نجاحات" الإخوان ومناصريهم تركّزتْ على عرقلة جهود بناء الدولة، أو سنّ قوانين سبّبت انقسامًا في الشارع: مثل قانون العزل، وقانون تطبيق الشريعة، وفرض الفصل بين الجنسين في الجامعات، وإلزام الفتيات الحجابَ.
حفتر والإسلاميّون: وحدة الأضداد
اللواء خليفة حفتر رجل مهووس بالسلطة والانقلابات، وجد ضالّتَه في الإسلاميين، بالقدر الذي وجدوا ضالتهم فيه. نجح حفتر في توظيف إخفاقات الإسلاميّين وخطاياهم من أجل كسب بعض التأييد في الداخل والخارج، مستخدمًا فزّاعة الإرهاب والتطرف. في المقابل، أعطاهم الذريعةَ الكاملةَ للانقلاب على الانتخابات، واستخدام القوة لسلب الشعب إرادته. في 14 فبراير 2014، استغل سخط الشارع على الإسلاميين، والمظاهرات ضدّ التمديد للمؤتمر الوطنيّ، فقام بإعلان عسكريّ قضى بتجميد عمل المؤتمر والحكومة، ووقفِ العمل بالإعلان الدستوريّ.(58) وجد الإعلان صدًى بلغ طرابلس بعد نحو أسبوع، إذ أعلنتْ كتائبُ الزنتان، القريبة من الليبراليين، مهلةَ 5 ساعات لأعضاء المؤتمر لتقديم استقالتهم، وهدّدتْ بتدخّل عسكريّ.(59) كانت هذه الخطوة أوّلَ شرارة لتفجّر الحرب الأهليّة. الأدهى أنّ إعلان حفتر وكتائب الزنتان جاء في الوقت الذي رضخ فيه الإسلاميون للشارع، وأعلنوا عن إجراء انتخابات برلمانيّة مبكرة. ثم تكشّفت الخيوط لاحقًا، لنرى تحالفًا بين حفتر وكتائب الزنتان، الأمر الذي يثير شبهاتٍ عدّة بشأن هذا التحرك وتوقيته.
تراجع ثوّار الزنتان عن إعلانهم، وتبخّر إعلانُ حفتر. لكنّ هذه التحركات قرعتْ جرسَ الإنذار لدى الإسلاميين. في 4 مارس 2014، كلّف رئيُس المؤتمر الوطنيّ، نوري بوسهمين، درعَ ليبيا بحماية مقرّ المؤتمر وبعض المنشآت الحيويّة.(60) مع حلول الربيع، وصل الاحتقانُ بين ميليشيات الطرفين ذروته، وبدا واضحًا استعدادُ الجميع للتحرك نحو حسم عسكريّ.
مدفوعًا بالتهوّر وهوس السلطة، أعلن حفتر، في 16 مايو 2014، "عمليّة الكرامة" لتطهير ليبيا من "الإرهابيين" ووقف اغتيال العسكريين، مؤكّدًا تجميدَ عمل المؤتمر الوطنيّ العامّ.(61) اندلعت الاشتباكات في مناطق عدة في البلاد، وأعلن أغلبُ قادة الجيش والأجهزة الأمنيّة انحيازهم إلى حفتر، وانضمّت كتائبُ الزنتان إلى عمليّة "الكرامة." ردّ الإسلاميون بدعوة رئيس المؤتمر، نوري بوسهمين، "الدروعَ" إلى تأمين العاصمة؛ وبالفعل دخلتْ ميليشياتُ مصراته طرابلس، لتستعر المعاركُ من شرق البلاد حتى غربها.
هكذا انزلقت البلادُ نحو الحرب الأهليّة في فترةٍ كانت تستعدّ فيها للخروج من النفق المظلم من خلال الانتخابات البرلمانيّة. وفي اعتقادي أنّ حفتر رأى في نجاح الانتخابات نهايةً لحلمه بالوصول إلى السلطة لأنّه لم يكن لديه أيُّ نفوذ حزبيّ أو كتلة سياسيّة. هكذا استبق الانتخابات البرلمانيّة بالإعلان عن عمليّة "الكرامة" بهدف خلق "شرعيّة عسكريّة" تعلو على الشرعيّة الانتخابيّة.
في المقابل، شعر الإسلاميون بحجم الاحتقان ضدّهم في الشارع، حتى إنّ قيادات إخوانيّة حذّرتْ قبل الانتخابات من خسارتها.(62) فجاءت عمليّةُ حفتر في الوقت المناسب بالنسبة إلى الإسلاميين، ورأوْا فيها مخرجًا محتملًا للانقلاب على نتائج الانتخابات في حال خسارتهم؛ وهو ما حدث بالفعل، إذ قبل إجراء الانتخابات بخمسة أيّام أعلنت الدروع والكتائبُ الإسلاميّة شبهُ الرسميّة تحالفَها مع الكتائب الأخرى الأكثر تشدّدًا كأنصار الشريعة، وشكّلتْ في شرق البلاد "مجلسَ شورى ثوّار بنغازي."(63) أما في طرابلس، فقد حشدت الميليشياتُ الإسلامية قوّاتها، واستعدت لطرد كتائب الزنتان والقوات الموالية لحفتر من العاصمة.
جرت الانتخابات في 25 يونيو 2014. جميع المؤشّرات أظهرتْ منذ البداية خسارةً فادحةً للإسلاميين. لذا، قبل إعلان النتائج، سيطرت الميليشياتُ الإسلاميّةُ على جميع المفاصل الحيويّة في بنغازي، ودحرت القوّاتِ الموالية لعمليّة "الكرامة" من مدن عدةٍ شرقَ البلاد.(64) وفي غرب البلاد، أعلنت الميليشياتُ الإسلاميّة، بقيادة ميليشيا الدروع، عمليّة مضادّة لعمليّة الكرامة، أطلقتْ عليها اسمَ عمليّة "فجر ليبيا،" فدشّنتها بهجوم كبير على مواقع كتائب الزنتان في طرابلس، وخصوصًا المطار الدوليّ.(65)
مع إعلان النتائج في 21 يوليو 2014، كانت الكتائبُ الإسلاميّة تسيطر على مناطق واسعة من البلاد، ولاسيّما المدن الكبرى. وجاءت النتائج كما توقّعها المراقبون: خسارةً فادحةً للإخوان وعموم التيّار الإسلاميّ.(66) بعد إعلان النتائج، عقد المؤتمرُ الوطنيّ جلسةً أقرّ فيها بأن تكون مراسمُ تسليم السلطة وأداء اليمين القانونيّة في العاصمة، ومن ثمّ انتقال الأعضاء إلى بنغازي لعقد أولى جلساتهم البرلمانيّة.
لكنّ دعوة المؤتمر الوطنيّ إلى تسليم السلطة بدت مستحيلةً مع سيطرة الميليشيات الإسلاميّة على بنغازي وطرابلس. فتوافق معظمُ النواب على عقد جلستهم الأولى في مدينة طبرق، التي تنعم باستقرار نسبيّ. وتمّ ذلك في 4 أغسطس 2014، بمشاركة أغلبيّة الأعضاء ومقاطعة النوّاب الإسلاميين، وجرت مراسمُ تسليم السلطة.(67)
غير أنّ الإسلاميين رفضوا انعقادَ البرلمان في طبرق، وأصرّوا على بنغازي وفقًا لقرار المؤتمر الوطنيّ، ولكنّ الرفض في الحقيقة كان ذريعةً لمقاطعة الجلسة ولعدم الاعتراف بشرعيّة البرلمان المنتخب.(68) وهذه ذريعة واهية: إذ ما علاقة مكان انعقاد الجلسة بشرعيّة الانتخابات التي أشرفتْ عليها حكومةٌ منبثقةٌ عن المؤتمر الوطنيّ؟ وماذا يضير المؤتمرَ الوطنيّ إذا توافقتْ غالبيّةُ أعضاء البرلمان الجديد على نقل الجلسة إلى طبرق للحفاظ على سلامتهم؟ وكيف يمكن أصلًا تسليمُ السلطة في مدينةٍ يسيطر عليها تنظيمٌ كأنصار الشريعة، الذي مَنع الناخبين من التصويت في مناطق سيطرته، ويرفض العمليّة الديمقراطيّة برمتها؟ الإجابة المنطقيّة تثبت أنّ الإسلاميين كانوا يناورون لعدم تسليم السلطة، واتخذوا مكانَ انعقاد مجلس النواب ذريعة للانقلاب على الانتخابات ونتائجها.
مضى الإسلاميون في رفضهم لشرعيّة مجلس النوّاب المنتخب، وتمسّكوا بشرعيّة المؤتمر الوطنيّ العامّ. رئيس الحكومة انحاز إلى شرعيّة الأول، فعيّن المؤتمرُ الوطنيّ حكومةً جديدة. ومع الحرب الأهليّة الدائرة على الأرض، انقسمتْ ليبيا بين قوتين عسكريتين، ومجلسيْ نوّاب، وحكومتيْن. حاول الإسلاميون شرعنة خطوتهم الانقلابيّة، فحاصروا مقرّ المحكمة الدستوريّة العليا في طرابلس، وأجبروها على إصدار قرار بحلّ مجلس النواب المنتخب.(69) منذ اللحظة الأولى، وقبل إعلان المحكمة قرارَها، قال رئيسُ المؤتمر الوطنيّ، نوري بوسهمين، إنّ الحسم العسكريّ هو الحلّ في ليبيا.(70) وقد بقي الأمر كذلك حتى اليوم.
خلاصات
1ـ بدأت الانتفاضةُ الليبيّة، رغم شعبيّتها ومشروعيّتها، بدايةً متعثّرةً باستدعاء التدخّل الخارجيّ. أراد قادةُ المعارضة حرقَ المراحل، والوصولَ إلى السلطة بأقلّ ثمن. وكان لهذا الأمر الأثرُ الأكبر في ارتهان كلّ طرفٍ ليبيّ لأجندات خارجيّة، ما أدّى إلى تشرذم المعارضة. تؤكّد التجربة الليبيّة كارثيّة اللجوء إلى قوًى خارجيّة، وضرورةَ الرهان على الجماهير مرجعيّةً وحيدةً لإطاحة السلطات الرجعيّة والديكتاتوريّة.
تثبت التجربة الليبيّة أنّ القوى الإسلاميّة لا تبحث سوى عن مصالحها الضيّقة، وأنّها مستعدّة لاستخدام جميع الوسائل من أجل تحقيق مآربها، وأنّها كرّرتْ سياساتِ القذّافي وتجنّبتْ قيادةَ البلاد نحو تغيير حقيقيّ. |
2ـ غاب البرنامجُ الواضحُ عن جدول أعمال المعارضة منذ بداية الانتفاضة. لجأت قيادةُ المعارضة إلى هذا "الحلّ" من أجل التوفيق بين التيّارات المتناقضة داخلها، فأجلّت الحسمَ في مسائل مصيريّةٍ عدّة، لكنّها انقسمتْ على نفسها بمجرّد زوال النظام، ودخلتْ في معارك أوصلت البلادَ إلى وضعٍ أسوأ من السابق. تجربة المعارضة الليبيّة تؤكّد ضرورة وضع برنامج ثوريّ واضح منذ البداية ليكون بمثابة دستور للثورة يلتفّ حوله الشعبُ بمختلف أطيافه، ويبقى مرجعيةً لقياس مواقف القوى المختلفة والتزامِها بمبادئ الثورة.
3ـ تصدّرت الانتفاضةَ الليبيّة قوًى عملتْ على مصالحها الضيّقة، ما أدّى إلى الانتقال من نظام فاسد إلى أنظمةٍ فاسدة. "دم الشهداء لن يذهب هباء": هتافٌ ردّده أبناءُ الشعب الليبيّ طوال شهور الانتفاضة، لكنّ الرهان على قوًى رجعيّة جعل دماءَ شهداء الانتفاضة ضدّ القذّافي تُهدر، وأدّى إلى إراقة المزيد من الدماء في معارك أهليّة. أظهرت انتفاضةُ الليبيين أنّ "القوى التقدميّة" ــــ إنْ وُجدتْ ــــ هي وحدها القادرة على الدفاع عن الجماهير ومصالحها، وتمثيلِ الشعب تمثيلًا حقيقيًّا يؤدّي إلى التطور وبناء المجتمع، ولم تكن تلك القوى حاضرةً في الانتفاضة الليبيّة إلّا بشكلٍ فرديّ.
4ـ تثبت التجربة الليبيّة أنّ القوى الإسلاميّة لا تبحث سوى عن مصالحها الضيّقة، وأنّها مستعدّة لاستخدام جميع الوسائل من أجل تحقيق مآربها، وأنّها كرّرتْ سياساتِ القذّافي وتجنّبتْ قيادةَ البلاد نحو تغيير حقيقيّ.
5ـ ساهمت الدولُ الكبرى بشكل كبير في الحالة التي وصلتْ إليها ليبيا من تشرذمٍ وفوضى وهيمنةٍ للميليشيات. تقاطعتْ مصالحُ الإسلاميين مع الدول الكبرى في إبقاء الحظر على تسليح الجيش الليبيّ، ما ساهم في إضعاف المؤسّسة العسكريّة وتعزيز نفوذ الميليشيات. اليوم، وفي مشهدٍ يثير السخرية، تحذِّر فرنسا والولاياتُ المتحدة وبريطانيا من تزايد نفوذ داعش في ليبيا وتدعو إلى محاربة التنظيم هناك، وكأنّ الأمر كان مفاجئًا لها!
المراجع والهوامش
44. قانون العزل السياسيّ بالتفصيل على موقع قناة الجزيرة: http://goo.gl/ZQt73X
45. تصريحات عبد الجليل وردّ الإخوان: http://goo.gl/7bAFWi
46. اتهامات متعددة لزيدان: http://goo.gl/RQWbeM، http://goo.gl/3ZJjdt، https://goo.gl/3eqK4b
47. تصريحات وبيانات عدة لجماعة الإخوان ضدّ زيدان: http://goo.gl/VR0X3z
إخوان ليبيا يسعون لعزل حكومة زيدان: http://goo.gl/lvO720
48. تفاصيل المؤتمر الصحفيّ: http://goo.gl/j5HxZQ
49. بحث غني عن القطاع الأمنيّ في ليبيا، أعدّه مركزُ كارينغي: http://goo.gl/DFfXz2
50. تفاصيل مجزرة الكويفية على جريدة الوسط الليبيّة: http://goo.gl/g8dJG2
51. الإعلان الحكوميّ وردّ الكتيبة: http://goo.gl/ceYDEu
52. تفاصيل أحداث يوم 15 نوفمبر 2013: http://goo.gl/dQ7zqS
53. بيان المجلس المحليّ لمصراته على موقع BBC: http://goo.gl/XjmfiQ
54. تصريحات آغا وتفاصيل أحداث غرغور في مقال مهمّ: http://goo.gl/CX1072
55. الخبر مع تفاصيل التظاهرات: http://goo.gl/Ni7mIz
56. تفاصيل انتخاب معيتيق، واعتراض نوّاب إسلاميين: http://goo.gl/sLsVX6
57. خبر المحكمة الدستوريّة: http://goo.gl/78p9KS
58. إعلان اللواء خليفة حفتر: https://goo.gl/dWTLxT
59. بيان ثوّار الزنتان: http://goo.gl/IEEHGt
60. تكليف بوسهمين لدرع ليبيا مع صور من وثيقة نصّ القرار: http://goo.gl/esbq6O
61. عمليّة الكرامة: http://goo.gl/vYaSvG
62. تصريحات المسؤول العامّ لجماعة الإخوان في ليبيا: http://goo.gl/b1JKfN
63. تفاصيل تشكيل مجلس شورى ثوّار بنغازي: http://goo.gl/lJByww
64. خبر تقدم مجلس ثوار بنغازي في الشرق: http://goo.gl/2vQlu8
65. إطلاق عمليّة "فجر ليبيا" والهجوم على مطار طرابلس: http://goo.gl/6LEJ7h
66. نتائج الانتخابات البرلمانيّة 2014: http://goo.gl/GgNeqW
67. تفاصيل الخلاف بشأن الجلسة الأولى: http://goo.gl/0jsGvl
68. المصدر السابق نفسه.
69. خبر قرار المحكمة الدستوريّة مع تأكيد سيطرة "فجر ليبيا" على مقرّ المحكمة: https://goo.gl/0dHIbb
70. تصريحات بوسهمين في لقاء مع قناة الجزيرة: http://goo.gl/IEbjKy
كاتب من الأردن