في سكون
عندما رأيتهما في تلك الحديقة جذبني إليهما شيء لا أعرفه، جعلني أتتبّعهما بعينيّ، على الرغم من بحر الرؤوس السوداء الذي كان يغمر المكان.
كانا مسنّيْن تجاوزا الثمانين، ولكنّ البريق الكامن في قلبيهما ينعكس بوضوح على وجهيهما، فيكسو الخطوط والتجاعيد التي حفرها الزمنُ بحيويّة عجيبة. كانا يسيران بصعوبة، يتّكئ واحدُهما على الآخر، وفي الوقت نفسه يسيران كأنّ قوّةً ما تدفعهما إلى مواصلة السير. فعلى الرغم من وهنهما، ولِين عظامهما، وعدم ثبات خطواتهما على الأرض، فإنّهما مشيا برسوخ، أو بما يعطيك هذا الانطباع.
جلسا على المقعد المقابل للنهر. لم يتجاذبا أطرافَ الحديث. أخذا يتأمّلان المنظر أمامهما. تنظر عيناهما بتناغم إلى الأفق، وكأنّهما يشاهدان شيئًا لا يراه سواهما. لم يلتفتا وراءهما. لم يلاحظا وجودي. ظلّا جالسيْن. مرّ الوقت ببطء. تخالهما يستمتعان بهذا البطء.
أرادا أن يعودا. يتّكئان، الواحدُ على الآخر، من جديد، كأنّ جسديْهما قد حفرتهما السنون الطويلةُ ليتلاءما في ذلك الاتّكاء المتبادل.
يحلو الكون مع وقع خطواتهما، ببطء.
على النافذة
كانت تتأمّل حمامةً بيضاءَ تقف صباحَ كلّ يوم على حافّة نافذة حجرتها. تنظر إليها فينشرح صدرها. تسيطر عليها فكرة ولكنّها تتردّد كثيرًا، وينتهي الأمرُ بالتراجع عنها. فقد قرأتْ كثيرًا عن الحَمام وطباعه: أنّه كائن رقيق ونقيّ. ورسمتْ له صورًا عديدة في خيالها. تأمّلته مرّات لا حَصر لها، ربما لسنين.
ذات يوم عزمتْ على أن تمسك بتلك الحمامة، وأن تربّيها عندها، تحقيقًا لرغبتها الطويلة في ذلك. لكنْ، في اللحظة التى خطَت فيها نحو النافذة، رفرفت الحمامةُ بجناحيْها، وكأنّها تنقش كلمة "وداعًا" في رحاب السماء.
في الصباح التالي انتظرتها طويلًا ولكنها لم تعد مجدّدًا. تكرّر المشهد نفسه. طال الانتظار، ولم تعد الحمامة أبدًا لتقف على نافذة حجرتها.
حين ملّت الانتظار، ذهبتْ إلى المرآة، فشاهدتْ على خطوط التجاعيد الصغيرة حماماتٍ تتحفّز للانطلاق. تذكّرتْ كلّ ما كان عالقًا في حياتها، كلَّ الفرص المهدورة، كلَّ الحمامات التي طارت ولم تعد. كادت أن تسقط في بكاءٍ مرير، لكنّها قرّرتْ أن تعيد ترتيب غرفتها، أن تنشر أحلامَها العتيقة في الشمس مجدّدًا، وأن تنصب لها الأفخاخَ الزهريّة.
لن أفقد حمامةً أخرى بعد اليوم!
القاهرة