منذ بداية الأزمة السوريّة سنة 2011 اتُّخذتْ فلسطينُ محورًا بارزًا للجدال بين مختلفِ الفرقاء السياسيين. أنصارُ النظام السوريّ اعتبروا أنّ حمايتَه جزءٌ من حمايتها، وأنّ إسقاطَه يَهدف ـــ من ضمن استهدافاتٍ أخرى ـــ إلى إسقاطها وإسقاطِ المقاومة وفكرةِ المقاومة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ. بعضُهم طَرح شعارَ "فلسطين هي البوصلة،" ولكنّ غالبيّة أقوالِه وتصرّفاتِه منذ اندلاع الأزمة أظهرتْ أنّ شعارَه الفعليَّ أحْرى بأن يكون "النظام هو البوصلة." وفي المقابل، اعتَبَرَ معارضو النظام أنّ فلسطين ـــ شأنَ شعاراتِه الأخرى كالقوميّة والاشتراكيّة والممانعة ـــ قناعٌ لستر تسلّطه وفسادِه، واتّضحَ مِن خطابهم أنّ بوصلتَهم الفعليّة هي "إسقاطُ النظام."
الجدالُ بين طرفَي النزاع، وحلفائهما العربِ من الجانبيْن، مفهومٌ وطبيعيّ؛ ففي كلّ نزاعٍ تَحشد الأطرافُ المتنازعةُ ما أمكنها من حججٍ ووقائعَ (وتصوّراتٍ واختلاقاتٍ) لتعزيز موقفِها. ما لا نراه مقبولًا أو صحّيًّا في الجدل الثقافيّ ـــ السياسيّ الراهن، من موقعنا كمنخرطين في القضيّة الفلسطينيّة، هو أن تؤخَذَ فلسطينُ، بما هي فكرةُ تحرّرٍ وانعتاقٍ من الظلم الإسرائيليّ والدوليّ، بجريرةِ أيِّ ظالمٍ أو فاسدٍ، أكان سوريًّا أمْ فلسطينيًّا أمْ غيرَ ذلك.
بتعبيرٍ آخر: إذا كان "فرعُ فلسطين" في دمشق قد اشتُهر بالتوقيف والتعذيب، فينبغي ألّا يفضيَ ذلك إلى مماهاته بفلسطينَ نفسِها! ذلك لأنّ مماهاةً كهذه عبثيّةٌ وظالمةٌ وغبيّة، وهي ـــ بدلًا من أن تسرِّع في خلاص الشعب السوريّ من أزمته المتمادية (المتعدّدةِ الوجوه) ـــ تَخْلقُ خصومةً غيرَ ذاتِ معنًى ولا فائدةٍ بين سوريا وفلسطين، أو بين حريّةِ الأولى وتحرّرِ الثانية.
***
وعلى صلةٍ وثيقةٍ بالسطور السابقة، فإنّنا لا نفهمُ مغزى إجراء المقارنات السقيمة بين أعدادِ ضحايا النظام السوريّ في صفوف السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وأعدادِ ضحايا الصهيونيّة في صفوفِ هؤلاء (وغيرِهم)، للخلوص إلى أنّ النظامَ السوريَّ أسوأُ من العدوّ الإسرائيليّ؛ وكأنّ على أنصار النظام انتظارَ المزيدِ من الجرائمِ الإسرائيليّةِ الضخمة "ليتأهّلوا" لدخولِ المرحلة الأولى من المباراة الوحشيّة!
خطورةُ هذه المقارنات لا تقتصر على التقليل من هوْلِ الجرائمِ الإسرائيليّة المستمرّة منذ العام 1948، بل تتعدّى ذلك لكي تصيرَ سلاحًا إضافيًّا في أيدي أنصارِ العدوّ في العالم من أجل تبيان خطأ الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل، "المتسامحةِ" جدًّا، في رأيهم، مع الفلسطينيين، مقارنةً بنظام الأسد، الذي هو أَوْلى ـــ بحسب هذه المقارنات ـــ بالمقاطعةِ والعقابِ العالميّيْن، هو وحلفاؤه في إيران ولبنان بشكلٍ خاصّ.
كما أنّ مباراةَ الأرقام تفيد عربَ التطبيع، الباحثين عن مادّةٍ إضافيّةٍ في أطروحتهم (العلنيّةِ اليوم)، لتنصيب إيران و"الشيعة" عدوًّا مكانَ إسرائيل: فما المانعُ من اللقاءِ بإسرائيل، بل التحالفِ معها أيضًا، وهي "أهونُ الشرّيْن" في كلّ حال، إذا كانت ستخلّصُنا من ظلمِ الأسد وإيران وحزبِ الله والحشدِ الشعبيّ العراقيّ و"الشيعة"...؟
بيْد أنّ مباراةَ الأرقام هنا تُغفل حقيقةَ السياسات الإسرائيليّة، التي تتعدّى السيطرةَ على حدودِ فلسطين الجغرافيّة لتكون طليعةَ الهيمنةِ الإمبرياليّة على مقدّرات الوطن العربيّ بأكمله، نفطًا وغازًا بشكل خاصّ. مباراةُ الأرقام تحوِّل الكيانَ الصهيونيَّ من عدوٍّ وجوديّ، تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا، إلى حليفٍ تكتيكيٍّ (في الحدّ الأدنى) لمواجهةِ عدوٍّ داخليٍّ وإقليميٍّ "أشرسَ" و"أوْلى" بالمواجهة الحاليّة.
***
ختامًا، فلسطين ينبغي ألّا تكون غطاءً للاستبداد العربيّ، مثلما أنّ الاستبدادَ العربيَّ ينبغي ألّا يكون ذريعةً للتطبيع مع إسرائيل (والتخلّي الكامل عن فلسطين). تحرير فلسطين ليس حذلقةً خطابيّةً نتمترس وراءها لقمعِ خصومِنا الداخليّين، والاستبدادُ الداخليّ ليس رايةً برّاقةً نرفعُها كلَّ دقيقةٍ فيما نحن ماضون إلى التحالفِ "التكتيكيّ" مع إسرائيل.
المسألة هنا ليست مساواةَ مستبدٍّ بمحتلّ: فمعاداةُ الاستبداد (في أيِّ دولة) ينبغي أن تنحصرَ بنظامٍ محدّدٍ ومؤسّساتٍ محدّدة وشخصيّاتٍ محدّدة؛ أمّا معاداةُ الاحتلال، وخصوصًا إذا كان ذا طبيعةٍ تهجيريّةٍ وإحلاليّة وعنصريّة شأنَ الاحتلال الإسرائيليّ، فمرتبطةٌ بمعاداةِ كيانٍ كاملٍ ــــ جيشًا، وأجهزةً أمنيّةً، واقتصادًا، وسياحةً، وإعلامًا، ومهرجاناتٍ فنّيّةً، ومؤتمراتٍ ثقافيّةً، ويمينًا، و"يسارًا" (زائفًا)، وجامعاتٍ بُنيتْ على أرضٍ مسروقةٍ "طُهِّرتْ" من شعبِها الأصليّ لصالحِ أشتاتٍ من العالم لا تمتّ إلى الأرض المغتصَبة إلّا بصلةِ الغيْبِ أو الخرافة.
المسألة، ببساطة، قديمةٌ حدَّ الملل، ولكنْ يتوجّب تكرارُها كلَّ حين: أنّ الحريّةَ في الداخل، والتحرّرَ من الخارج، عمليّتان متلازمتان ومترابطتان، ولا تحلّ إحداهما مكانَ الأخرى تحت ذريعةِ "المعركة" أو "الأولويّة" أو "الواقعيّة" أو أيّةِ ذريعةٍ أخرى. "البوصلة" وصفةٌ للتضليل حين تشيرُ إلى التحرّر من الاستبداد "بأيِّ ثمن،" ولو كان الثمنُ حربًا داخليّةً طويلةً لا تُبقي حجرًا على حجر، أو كان الثمنُ تحالفًا مع المجرم الإسرائيليّ العنصريّ. ولكنّ "البوصلة" التي تشير إلى فلسطين على حساب كلّ قضيّةِ حقٍّ أخرى ليست بوصلةَ الأحرار وأنصارِ العدالة الحقيقيّة، ولا بوصلةَ القوميين العروبيين التقدّميين؛ ففلسطين ليست أرضًا يَلزمُ تحريرُها من محتلّيها فحسب، وإنّما هي أيضًا عنوانٌ لمقاومة العسفِ والاحتلالِ والعنصريّةِ في العالم، وهي ـــ بشكلٍ أكثر تحديدًا ـــ عنوانٌ لمستقبلٍ عربيٍّ تتضاءل فيه أشكالُ الظلمِ كافّةً.
بيروت