"القصيرات هُنّ المحظوظات": لطالما ردّدتْ أمّي عبارتَها ضاحكةً، وهي تَهمُّ لإحضارِ الطبليّة، كي تساعدني على بلوغِ الأماكن المرتفعة. كنتُ في الثالثة عشرة، وأحلمُ بدخول الجامعة للتخصُّصِ في التعليم.
أورثتْني أمّي قِصرَ القامة، من دون الإيمان بحظّ القصيرات، وإن كانت تُدعِّم إيمانَها بالشواهد حتّى تقنعني بأنّ البختَ صاحبَها لتظفرَ بي، متجاوزةً عُرفَ الزواج بعمّي بعد وفاة والدي. فلقد طاول حنانُ أمّي عمّي الذي يصغرُها بسنوات، أثناء إقامتها ووالدي في بيت جدّي؛ فكوتْ قمصانَه وسراويله، ومدّته بالنصائح بعد أن أسرّ لها بانجذابه إلى الجارة هناء، ولعبتْ دورَ ساعي البريد بينهما. لذا، لم تجد مناصًا سوى الاحتماء ببيت خالي، عندما فاتحتْها عمّتي بالزواج تحت طائلةِ سلبي منها. وساهم منصبُ خالي في الأوقاف في تجاوز العرف، لعدم رغبتِها، ورغبةِ بسّام كذلك، في الرباط. بيد أنّها رأت في الحظّ شريكًا في ذلك، وفي كلّ تفصيلٍ من يوميّاتها، على الرغم من أنّ الحياة عفرتْ وجهَها بمُرّها، ودفعتْها إلى لبسِ مريولِ عاملة النظافة لتعُولنا.
***
بكّرتْ "يامو" في الرحيل، من دون أن تشهدَ على مآل حظّي.
جئتُ بيروت، مع معروف وأمّه وأختِه براء. كشّاشُ حمامٍ أجّرنا عشّته بمائتيْ دولار شهريًّا. نازحون نحن عن سوريانا. كلَّ ليلة، نُسدل الستارةَ بين فرشتِنا وفرشتيْ أمّ معروف وأخته، بعد أَن نَذرعَ الأمتارَ الضئيلة لنتأكّدَ من خُلوّها من الزواحف.
يامو، الشقاءُ بلبنان صيَّر "معروف" عصبيًّا. مَن ربطتُ حظّي وهنائي به بات غريبًا عنّي. البارحة، خاض معركةً حاميةَ الوطيس مع الجرذ الذي هاجم العشّة. استلّ عصا الممسحة، وخبط بها أرضيّةَ الحمّام مُردِّدًا: "طلاعْ يا عَرص،" فيما براء تولول ذعرًا، وحماتي وأنا مرتابتان من فرط حنقه. وبعد أن التصق الجرذُ بالكرتونة المطليّة بالسمّ، داسه زوجي بصندله، فيما فمُه يرغو بالسبّ. ثمّ شرب نصفَ ليترٍ من شرابٍ غازيّ دفعةً واحدةً، وتمدّد على الفراش. وخلال دقائق، شرعَ وَصلةَ الشّخير.
يامو، بتُّ أهاب معروفًا، لذا أخفي عنه الكثير. حتّى الساعة لا يَعرفُ أنّ زبائن صالون التجميل، حيث أعملُ منذ ثمانية أشهر، هم من الجنسيْن. إخالُه أحيانًا مُتسلّلًا إلى الطبقة السفليّة من الصالون. أسمعُ دعساتِ صنداله في مغاطس المياه، وأحسُّ بيديه تُطوّقان عنقي انتقامًا، لإخفائي عنه أمرَ العنايةِ بأظافر الذكور؛ وهؤلاء يدفعون إكراميّاتٍ سخيّة.
في هذا المكان، تنتمي العاملاتُ إلى جنسيّاتٍ أجنبيّة، باستثناء سوسن ولارا اللتين تنظران إلى الجميع بازدراء. ثمّ إنّ الأخيرة تسرق حناجيرَ طلاء الأظافر نصفَ الممتلئة، وتتّهم سوسن ولارا الفلبينيّاتِ باللصوصيّة.
يامو، خبيرةً في كشفِ النفوسِ أمسيتُ، من فرط التدقيق في أَرجل الزبائن. يكفيني أن أجسّ جلدَها، وكمَّ التشقّقات فيه، ومدى بروز العروق، حتّى أستشعرَ صفات القامات فوقها. خَتمتُ دوامي أمس، قبل ساعات من "موقعةِ الجرذ،" بإجراءِ "بيديكور" للدكتور. الدكتور يُدرّس في الجامعة المجاورة للصالون، وهو الوحيد بين الزبائن الذي يعتذر إليّ حين يرفع رجليْه من مغطس المياه لأجفّفهما له. كنسمةٍ تنقضي الدقائقُ حين أتولّى العنايةَ برجليه الفائقتي النعومة.
يامو، كلَّ يومٍ أتجاهلُ وخز مَواجعي: مُجاورتي خراءَ الحمام، وتهكّم براء من بُرودي، ونعتُ سوسن لي بالخرساء، وعنادُ معروف.
يامو، القصيرةُ المهيضةُ الجناحِ تسير في طريقٍ موازٍ للحظّ.
يامو، لسوء الحظّ، كُنتِ مخطئةً.
بيروت