قطعــة طبشـــور
21-12-2016

 

 

أربعة وعشرين عامًا أمضى في تلك الغرفة الرماديّة، في سجنهِ الإفراديّ الذي لا يتجاوز الأمتارَ الأربعة المربّعة. عمره تجاوز الخمسين. تصلّبَ. تحجّر. أصبحَ رماديًّا شاحبًا بسبب تهمةٍ يجهلها، هو نفسُه، رغم كلّ هذه السنين!

سترته رماديّة. الجدران رماديّة. قلبه رماديّ. كلّ هذه الرماديّات أضعفتْ بصرَه. وعدمُ محادثته أيَّ إنسان، حتّى السجّان الذي يجلب له الطعام ودلوَ الاستحمام، أظهر له أنّه أبكم!

كان حلمه الوحيد أن يُكلّمه أو يزورَه أيّ إنسان. أن يقول له أيّ شيء.

 لم يعد ثمّة معنًى لترتيب الزمن: متى تبدأ السنة ومتى تنتهي، متى تشرق الشمس ومتى تغيب. شكل المطر وهو يقفز من الغيوم... الغيوم نفسها... كلّ هذه الصور صار صعبًا استحضارُها وتخيّلُها.

***

في أحد الأيّام الكثيرة المتشابهة، وبينما كان السجّانُ يُقدّم له وجبة الطعام الوحيدة، وجدَ على طرفِ الصحن قطعةً كلسيّةً بيضاء. التقطها باستغراب، قلّبها، شمّها، تذوّقها، فحصها ببصره الضعيف. وسرعان ما عرف ما هي. فابتسم.  

إنّها قطعةُ طبشور!

لم يتناول وجبتهُ، نسيَها تمامًا. وضع القطعة وسط الغرفة، وجلس في الزاوية يتأمّلها وكأنّها نيزكٌ سقط من الفضاء.

ماذا سأفعلُ بهذه القطعة البيضاء الصغيرة؟ ماذا سأرسم بها؟

مرّت عدّة أيّام في تفكير مرهق يُعذّبه. هل يرسم بها نافذةً أمْ عصفورًا أمْ شجرة؟! تمنّى لو أنّ أحدًا معه ليساعده ويقدّمَ له اقتراحًا مفيدًا. لكنّه أمسكها. رفعها عاليًا كأبطال الأولمبياد. ابتسم لها... ورسم ما هو بأشدّ الحاجة إليه منذ أربعة وعشرين عامًا: الأنثى!

رسم أنثى عاريةً رائعة. "مزمزَ" في رسمها. كان يلهو بالزمن كسُبّحةٍ في يده. أنهى لوحتَه. دسّ قطعة الطبشور في جيبه واتّجه إلى الحائط المقابل. أسند نفسَه إلى الحائط وأخذ يتأمّلها. عاد إلى أنثاه يتحسّسها بأطراف أصابعه، يشمّها، يقبّلها، حتّى فارت غرائزه ونام.

صار وقته حديثًا مع الأنثى الطباشيريّة. سرد لها الأعوامَ الأربعة والعشرين، يومًا بيوم، لحظةً بلحظة. روى لها تفاصيلَ طفولته. استغرب بقاء هذه الحكايات والتفاصيل عالقةً بجدران ذهنه إلى الآن، وكيف انفجرت وسالت هكذا.

بعد أن أفرغ كلَّ جعبته، بدأ يحوك لأنثاه قصّةَ حياةٍ كاملة، حتّى أحبّها وعشِقها، بل راح يمارس الجنس معها بجنون وشهوانيّة، حتّى وصلَ إلى نقطةٍ لم يعد يعرف ماذا سيبدع بعدها. رسم لها بطنًا كبيرًا. جعلها حبلى. ابتسم ونام والابتسامة تلفّح قلبَه للمرة الأولى.

ومنذاك الوقت، بدأ يعدّ الأيّام بانتظار أن تُنجب له طفلًا.

***

استيقظ. فتح عينيه على مهلٍ. نورٌ عظيمٌ اخترق جُحرَيْه بوقاحة وعنف.

قفز واقفًا.

أين هو الآن؟

أين الغرفة الرمادية؟

آآآآه... هذه السماء!

سقط على قارعة طريق رئيس. مشى من دون وعي وهو ينظر إلى السماء وما حوله من فراغٍ شاسع. لا شيء سوى سماء، وعليها لطخات بلون الغيم.

رأى سيارةً تتحرّك بعيدًا. ركض صوبها، لكنّ جسمه خذله. وصل إلى مفترق أربع طرق. والآن، إلى أين؟! سرعان ما تغيّر السؤال. حزنه العميق تحوّل إلى غضب بركان:

لماذا؟ لماذا أُسجن كلّ هذه الفترة، ثمّ أخرج هكذا من دون أن أعرف تهمتي، أو الجهةَ التي سجنتني؟ أين كنتُ أصلًا؟ تحت أيّ أرض؟ أريد أن أعرف. أريد أن أحاكَم على الأقلّ.

لكن قبل هذا كلّه... أنثاه! أنثاه بقيتْ عالقةً في ذلك الجدار الرماديّ القذر! وابنه... كيف سيعود إليهما؟ كيف سيولد ابنُه في العبودية والذلّ؟

لا باب في الخلف يرجع إليه. الأفق مفتوح أمامه. أغمد يدَه في جيب بنطاله الرماديّ. تحسّس قطعة الطبشور. وأخذ يمشي... يمشي... لا يعرف إلى أين. لكنّ يده لا تفارق جيب بنطاله الرماديّ.

سوريا

 

 

رافي ميناس

كاتب ومسرحيّ وممثّل من سوريا. وُلد في حلب. مدرّب في مجال المسرح التفاعليّ والعلاج عن طريق الدراما.