لم أكن واثقة بأنّ موعدي الثالث مع الأصلع سيختلف عن سابقيْه. باستخفافٍ لصيقٍ بشخصيّته، ردَّ على مكالمتي المُعاتبة أمس، قائلًا: "انتظريني قرب المطعم الصينيّ في شارع مونو، عند التاسعة مساءً." وأقفل الخطّ.
مضت أربعة أشهر على كتابتي "بورتريه" عن الأصلع المُكنّى بـ"الموّاس،" بناءً على أخبار صديقي فؤاد عنه، تمهيدًا لقبولي في "محترف القصّة." ولم يعد الوقتُ سانحًا لتغيير الفكرة، بعد أن وعدتني إدارةُ "المحترف" بتبنّي تكاليف نشر روايتي القائمة على بطلٍ مطلقٍ، هو السالفُ الذكر.
في تتبع الموّاس، عياءٌ وفورانٌ نفسيّ وشتمٌ متواصلٌ لفؤاد، الذي عرّفني إلى هذا الكائن الصموت. وبحسب فؤاد، فقد مشى الموّاس في الأرض وحشًا بعد انقشاع غبار الحرب، وبدّل عشراتِ الوظائف: عمل سائقَ أجرة، وحارسًا ليليًّا، وفاعلًا في ورش العمار... وفي الأخيرة لطى، إذ لاحظ أنّه كلّما هدّ جسمَه، أخرس نعيقَ عقله؛ فإذا استمرّ صياحُ هذا الأخير، فلا مناص من السكْر حتى الانتشاء.
ذو الجسم الممصوص تركني في موعدنا الثاني أحسب ــــ مُتحسّرةً ــــ الفوارقَ البصريّةَ بين فخذَي الراقصة الاستعراضيّة المُغطّيين بجوربين شبك، عندما اعتلت عمودًا على حلبة الرقص، وفخذيَّ المُكتنزيْن، وذلك خلال العرض الذي دار في السوبر نايت كلوب. كان الموّاس أوهمني أنّه مضطرّ إلى ملاقاة صديقٍ في النادي الليليّ للتهرّب من الحديث في مشروعي الروائيّ، بيد أنّه اكتفى بمقابلة إصراري على اللحاق به إلى هناك بابتسامة ساخرة، مُصطنعًا الانشغالَ في ورشة العمار. حدّثتُ نفسي عن دور مصاحبته إلى الـ"نايت" في تغذية مادّتي الروائيّة، بيْد أنّ مجالستي إيّاه طوال ساعتين لم تثمر عن أيّ "مفيد"، إذ كان يتبرّم كلّما حاكيته. وبالطبع، لم يكن هناك صديق ينتظره! زاد لقاء الـ"نايت" إلى نتفِ معلوماتي عنه، أنّ من عاداته بين فترةٍ وأخرى أن يُكحّل عينيه بتضاريس الراقصات الشقراوات الرشيقات. وبين الكاحل والكُحل وما بعده، مشروع روايتي في مهبّ الريح!
***
ما تقدّم، ليس سوى نقطة في بحر المواقف المحرجة التي وضعني فيها؛ ومن بينها واحد تركني فيه وسط صالون تتجمّع فيه النسوة لوداع فقيد اسمه توفيق شمّا. قرأتُ اسم المرحوم على النعوة، قبل أن أصعد إلى الطبقة الثانية من بناء جديد في منطقة الضم والفرز بطرابلس، بعد أن قدت سيّارتي من بيروت حتى الشمال ساعة الذروة، آملةً في الحديث وإيّاه. لم يخطر في بالي أنّه حضر إلى الشقّة التي ضرب لي فيها موعدًا، سوى للمواساة. واجهتُ عيون المُتشحات بالسواد، المستفهمات عن هويّتي، بتأمّل الأرضيّة والتفرّس في نقوشها، داعيةً إلى أن يخرج الأصلع من الصالون الثاني الفسيح حيث كان يجتمع الذكور. زادت الظنون بي، ما حدا بي إلى قول "العوض بسلامتكن" بصوت عالٍ، والفرار. في مقابل البناية حيث العزاء، وقفت متأفّفةً أنتظره، ولخيبتي صرفني بكلمة "بعدين" حال خروجه، وركب الدراجة الناريّة خلف شاب حادّ الملامح، واختفى بلحظة عن ناظريّ.
***
غيرَ واثقة من أنّي سأحقّق ما أصبو إليه، تسمّرتُ على الرصيف المُقابل للمطعم في مونو، مُتأمّلةً المكان، أفرك يديّ اتقاءً من قرس شباط. انعكاسات مصابيح البلديّة تشفّ رداء الليل المنسدل على الأبنية القديمة المجاورة للمطعم والفالتة من قبضة شركات الإعمار أو الهدم، لا فرق! الشرفات المزنّرة بالشتل والزهر تدعو إلى تخيّل ما يدور خلفها.
بعد نصف ساعة، جاء راكضًا وطلب إليّ مرافقته، من دون أن ينبس ببنت شفة. أسرعتُ الخطى حتى ألحق به. دخلنا أحد الأبنية المتداعية المطلّة على وسط بيروت، بمحاذاة جسر فؤاد شهاب. الشظايا التي اخترقتْ ما تبقّى من جدران البناء أشعرتِ الموّاس بالألفة. أعلمني أنّه جرد كلّ المباني المهدمة والقابعة في الشطر المقابل للقنّاصة التي رافقته خلال الحرب، وجعل من دمارها عالمًا موازيًا يداري فيه حاضرَه كلّ ليلة. وبخلاف الأيّام الخوالي، حين كان يجشر الزفت من كلّ مارّ، لم يعد أحد يأبه بحضوره! كان الموّاس أضعف من أن ينهي حياته برصاصة، وأذكى من أن يلأم ندوبَه في إعادة كرّة السلاح. كلّما كربه نبضُ قلبه، زاد من جرع الفودكا حتى تعتعه السكْرُ.
بيروت