قُبلةٌ لماريانا
15-01-2018

 

لا وقتٌ، ولا طريقةٌ، مُتّفق عليهما لبدء القصص. لذا لا غرابةَ أنْ تستيقظ "صبا" عند الرابعة فجرًا على منبِّه جوّالها، الذي أخطأتْ في ضبطه قبل أن تنام. تنظر إلى الوقت باستغراب، لكنّها تشعر بالسعادة لأنّها ستنام ساعاتٍ أخرى. في الثامنة صباحًا كان لا بدّ من مغادرة الفراش، إذ ستبدأ "بروفا" المسرحيّة بعد ساعةٍ ونصف الساعة، وستتأخّر إنْ لم تنهضْ على الفور ... هذا إذا كانت لا تريد التضحية بتمريناتها الرياضيّة الصباحيّة.

تجلس على طرف السرير بتكاسل، وتبتسم حين تتذكّر قولًا يُنسبُ إلى الممثّل الأمريكيّ آل باتشينو: "حين أستيقظُ صباحًا وأشعرُ في حاجةٍ إلى ممارسة الرياضة، أعودُ إلى السرير إلى أن يزول هذا الشعور." كانت صورةُ آل بتشينو على الجدار المقابل مأخوذةً من فيلم عطر امرأة، تُجاورها صورةُ الموسيقيّ ياني، بابتسامته الوديعة؛ وأخرى بحجمٍ صغيرٍ للشاعر لوركا، رافعًا يده وهو يلقي الشِعْر مُتحدّيًا فرقةَ إعدامه:

"ما الإنسان بلا حريّةٍ يا ماريانا؟ قولي لي كيف أستطيع أن أحبَّكِ إنْ لم أكنْ حرًّا؟ كيف أهِبُكِ قلبي إنْ لم يكنْ ملْكي؟"

كان اسمُها في المسرحيّة ماريانا. لذا بحثت عن هذه الصورة، إلى أن وجدتْها في إحدى المجلّات، فاقتطعتْها، وعلّقتْها في غرفتها، معتقدةً أنّ ذلك سيساعدها في أداء دورها بواقعيّةٍ أكبر.

***

تخرّجتْ صِبا من المعهد العالي للفنون المسرحيّة قبل عامٍ من يومها هذا. وللمرّة الأولى يُسنَد إليها دورُ البطولة في عملٍ مسرحيٍّ مهمّ. كانت تزداد توتّرًا كلّما اقترب موعدُ العرض، وتُرهق نفسَها في البروفات كي تتقن الدورَ، كما يتوقّع منها الأستاذ جهاد، مُخرجُ العمل، الذي راهن عليها بعد مشاهدتها في عملٍ آخر. لم تصدّقْ حين عرضَ عليها الدوْر، ولشدّة فرحها بدأتْ تقفز وتصيح: "إسمع يا ستانسلافسكي، إسمع!"

بعد قراءتها النصَّ وجدتْ في شخصيّة ماريانا تحدّيًا حقيقيًّا لإمكاناتها في التمثيل، ولكنها شعرتْ في الوقت ذاته بالرَّهبة. أمّا الخبر الذي أسعدها بحقّ فقد جاءها عبر الهاتف، حين أخبرها في اليوم التالي الأستاذ جهاد أنّ الممثّل "ليْث" سيشاركها البطولةَ في دور حبيبها المتيّم "ساري." وما إنْ أغلقت الخطّ حتّى بدأت تفتّش بين كلمات النصّ عن موقفٍ غراميّ يجمعها به، فلم يخبْ ظنُّها تمامًا، إذ وجدتْ في المشهد الأخير الكلماتِ الآتية: "ثم عانقتْ ماريانا حبيبَها للحظة..." قرأتْها وقالت باستنكار: "للحظة؟!" ثم أضافت ساخرةً: "هذا أفضل من لا شيء."

***

لا تذكر متى رأت ليْث آخرَ مرّة، لكنّ الجرح الذي تركه في قلبها منذ أيّام الدراسة لا يزال طريًّا. حبٌّ من طرفٍ واحد: هذا ما كانت عليه العلاقةُ بينهما. والغريب أنّها بقيتْ تحبّه على الرغم من تجاهله لمشاعرها طوال السنوات الأربع التي قضياها في المعهد. وما صبّرها تلك الفترةَ وترك بابَ الأمل مفتوحًا إلى قلبها هو تعاملُه مع رفيقاتها بالطريقة نفسِها؛ فهي لم تلاحظْ أيّةَ خصوصيّة تجمعه بأيٍّ منهنّ.

كان ليث محطَّ أنظار فتيات الدفعة كلّها، ومنهنّ صِبا، التي رأته أوّلَ مرّةٍ بدايةَ العام الدراسيّ من السنة الأولى، حين دخل قاعةَ الدرس يَقطر ماءً. كانت تجلس في المقعد الأوّل، الأقربِ إليه، وبحركةٍ عفويّةٍ أخرجتْ من حقيبتها كميّةً كبيرةً من المحارم الورقيّة وقدّمتْها إليه، فأخذها قائلًا بتأفّف: "أكره المطر." لم يشكرها، لكنّ ابتسامته كانت كافيةً لتقع في غرامه. وبعد عدّة أسابيع فهمتْ لماذا قالت عنه إحدى صديقاتها: "كتر المرعى بيعمي قلب الدابّة،" مشيرةً إلى كثرة المعجبات المتحلّقات حوله، حتى ليشعر بالإشباع، فلا يهتمّ بأيٍّ منهنّ. لكنّ ذلك لم يمنع قلبَها من الاضطراب كلّما التقتْ عيناها بعينيْه أو لاح طيفُه من بعيد. واليوم، ما إنْ سمعت اسمَه حتى شعرتْ بتيّارٍ كهربائيٍّ يسري في عروقها ويعيدها إلى مشاعر الأمس.

***

في أحد الاجتماعات الروتينيّة، وأثناء مناقشة النصّ، عرفتْ أنّ الأستاذ جهاد حذف من المشهد الأخير قبلةً غراميّةً بين العاشقيْن، وعلّل الأمرَ بالقول: "إنّ النصّ مُترجمٌ كما تعلمون، ولم يُكتب ليُعرض في بلادنا، لذا قمتُ بتلطيف بعض المشاهد بما يخدم العرضَ ولا يخدش الحياءَ العامّ." ثم أضاف، موجِّهًا كلامَه إلى صِبا التي كانت تبتسم وتشتمُه في سرّها: "... ولا أعتقد أنّ هناك ممثّلةً ستقبل بتأدية هذا المشهد." أجابته بجدّيّة: "بالتأكيد أستاذ." فتدخّل ليث ضاحكًا: "ولماذا لم تلطّف الصفعةَ التي سأتلقّاها؟" إلّا أنّ الأستاذ جهاد أخذ السؤالَ على محمل الجدّ واسترسل في الحديث عن ضرورة اعتماد حلولٍ إخراجيّة تنسجم مع طبيعة كلّ عمل مسرحيّ، على أن تخدم هذه الحلولُ فكرةَ النصّ و"لا تتصادم ــــ ما أمكن ــــ مع عادات المجتمع وتقاليده." إلى أن انتهى بممازحته قائلًا: "وكما تعلم، فَضرْب الحبيب زبيب."

هذا ما كانت عليه بداياتُ العمل: نقاش، وضحك، وارتباك، وتعبٌ، وآمالٌ، وأحلام. لكنّ ذلك انتهى مع اقتراب موعد العرض. واليوم بالذات كان القلقُ سيّدَ الموقف، إذ يُفترض أن يُقدّموا المسرحيّة كاملةً (بروفا جنرال). أثناء ذلك تطوّرتْ علاقتُها بليث، حتّى صار يتّصل بها ليلًا بحجّة مناقشة العمل. وطالت أحاديثُهما وامتدّت أحيانًا إلى ساعات الفجر الأولى. في تلك الليلة شعرتْ بأنّها لم تعد قادرةً على كبح مشاعرها وكادت أن تقاطعه قائلةً: "بحبَّكْ،" وليحصلْ ما يحصل. والحقّ أنّها قالتها أكثرَ من مرّة، ولكنْ تلميحًا، فلم يفهم، أو تعمّد عدمَ الفهم، وتابع حديثَه كأنّه لم يسمع. وكي تكتمل المصيبة لاحظتْ إشعارًا أسفلَ الشاشة يُخبرها أنّه قام بنشر صورة، فاستغربتْ أن يكون مشغولًا بنشر الصور وهو يتحدّث معها! وفوجئتْ أنّ الصورة لمجموعةٍ من الصبايا الجميلات يُحِطن به وهو يضحك بسعادة، واضعًا يده على كتف إحداهنّ؛ ما أضرم نارَ الغيرة في صدرها، لتمتدّ إلى حوارهما وتُحرقَ الكلامَ الجميل الذي كان بينهما منذ لحظات، ولتعتذرَ عن متابعة الحديث، من دون أن تترك له مجالاً للشرح. حصل ذلك قبل ساعاتٍ قليلةٍ من موعد البروفا جنرال، وانعكس سلبًا على أدائها أمام جمهور الفنّانين والنقّاد والمهتمّين الذين دعاهم المُخرج للاستئناس بآرائهم قبل تقديم العرض الأوّل أمام الجمهور الكبير.

وصلتْ إلى المسرح قبل الجميع، وجلستْ تَشْغل نفسَها بقراءة دورها للمرّة الألف. كانت متوتّرةً، وتشعر بالغيظ، وتترقّب وصولَ ليث لتُفْرغ غضبَها في وجهه، عازمةً على وضع حدٍّ لحالة التسونامي العاطفيّ الذي اجتاحها في الأيّام الأخيرة واستهلك أعصابَها. ولحسن حظّه ــــ وربّما حظّها ــــ أنّه لم يَحضر إلّا في الدقيقة الأخيرة، قبل أن يعطي المُخرج شارةَ البدء.

***

تتحدّث المسرحيّة عن "ساري،" الموسيقيّ الشابّ الذي اضطرّته ظروفُ الحرب إلى السفر بحثًا عن حلمه، بعيدًا عن حبيبته ماريانا، التي كان قد أثقلها قبل سفره بالوعود البرّاقة. ينجح ساري، بعد رحلةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، في الوصول إلى ألمانيا، مع مجموعةٍ من الشباب (نتعرّف إلى قصص بعضهم من خلال مكالماتٍ تلفونيّة يُجْرونها مع أحبّائهم ممّن تركوهم خلفهم وسط ويلات الحرب). في ألمانيا يتفرّق الجمع، وتبدأ الظروف بمعاكسة ساري بطريقةٍ غير معقولة، فيتعرّض للكثير من المواقف الطريفة والمفارقات المضحكة، وتختلط الدموع بالضحكات في معظم المشاهد. وبشكل موازٍ، تمضي البلادُ في متاهات الحرب، آخذةً معها ماريانا وعائلتَها الصغيرة وأيّامَها الصعبة، باستثناء اللحظات التي تقضيها في مهاتفة حبيبها أو حين تستقبل رسالةً قصيرةً منه يخبرها فيها عن حبّه لها وشوقه إليها، فترتسم على شفتيها ابتسامةٌ ساحرةٌ تمحوها في كلّ مرّةٍ  لعلعةُ رصاص أو دويُّ انفجارٍ يهزّ خشبةَ المسرح ويعيدها مع الجمهور إلى الواقع المرّ. إلى أن يجتمع شملُ الحبيبيْن بعد عشر سنوات، في مشهدٍ مؤثّرٍ وسط الخراب. وكان المسرح نفسُه قد تعرّض للتخريب بعد سقوط عدّة قذائف حوله وفوقه، فتهدّمتْ بعضُ جدرانه، وجزءٌ كبيرٌ من سقفه، وتضرّرتْ خشبتُه بشكلٍ كبير، فاستغلّ المُخرجُ الوضعَ وترك الركامَ على حاله، ليُظْهرَه في المشهد الأخير، بعد أن أخفاه طوال العرض بقطع الأثاث وبستارةٍ ضخمةٍ مليئةٍ بالرّقع والشعارات وصورٍ لمواقعَ أثريّةٍ وسياحيّةٍ قبل أن تطولها يدُ الخراب.

***

لم تكن صِبا في أفضل حالاتها خلال العرض، باستثناء المشهد الذي ضمّت فيه حبيبَها إلى صدرها، فتعلّقتْ به فترةً أطولَ ممّا جاء في النصّ، متناسيةً المسرحَ والجمهور، لتشبعَ أنفاسَها برائحة عطره، وتتلذّذَ بدفء حضنه. وتمضي الثواني بطيئةً تحت أنظار المخرج ،المرتبك من رؤيته ساري مكبَّلًا بين يديْ ماريانا، التي انهارت أخيرًا، وبدأتْ تشهق وتبكي بصوتٍ مرتفعٍ كالأطفال.

كان الجمهور يتابع المشهدَ من دون أن يدري أنّ ما يحصل لا علاقة له بالنصّ، إذ كان يُفترض أن يتلقّى بطلُ المسرحيّة صفعةً من محبوبته بمجرّد لقائهما، وذلك بسبب غيابه الطويل وتبديده لأيامها وأحلامها سدًى، فيعمل على إرضائها بعناقٍ خجولٍ قصير، يعقبه عتابٌ ووعودٌ جديدة، ثمّ تخفُت الأضواءُ شيئًا فشيئًا على صوت الآلات الموسيقيّة وهي تصدح بالمقطوعة التي كان يعمل عليها في غربته، فنسمعها وقد اكتملتْ، بعد أن نكون قد سمعنا شذراتٍ متفرّقةً منها خلال المشاهد السابقة.

إلّا أنّ صِبا كانت في عالمٍ آخر، لا يمتّ بصلة إلى ماريانا، وإلى خجلها الذي رافقها طوال العرض. وقبل أن يستوعب المُخرج سلوكَها المُحبط فوجئ بليث يتخلّى، هو الآخر، عن دور ساري، فيجلس قربها، ثم يحتضن وجهَها بكفّيه كلتيْهما، ويطبع قبلةً غراميّةً طويلةً فوق شفتيْها. وهو المشهد الذي جعل المخرجَ يقفز عن كرسيّه كمن لدغتْه أفعى، وكاد يُغمى عليه، لولا التصفيقُ الذي انفجر في جنبات الصالة، واستمرّ طيلة زمن القبلة السحريّة، التي صارت حديثَ الصحافة في اليوم التالي، وسببًا لانقسام جمهور المسرح والنقّاد بين مؤيّد ومعارض؛ بالإضافة إلى تدخّل بعض المسؤولين ورجال الدين، ليصل الأمرُ إلى التوصية بإيقاف عرض المسرحيّة لاحتوائها مَشاهدَ "تُخلّ بالآداب العامّة."

تابعتِ المسرحيّةُ عروضَها تحت ضغط الجمهور، الذي حضر في اليوم التالي بالمئات، رافضًا إيقافَها، وتجمهر أمام باب الصالة، في وقفةٍ احتجاجيّةٍ تخلّلها الكثيرُ من القبلات الغراميّة؛ بينما غابت قبلاتُ ساري وماريانا عن المشهد الأخير، وناب عنها تصفيقُ الجمهور الحارّ وصوتُ الموسيقى الذي كان يتصاعد ويطغى على كلّ صوت.

سوريا

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).