في ذلك اليوم كنتُ منهمكةً في تقديم الاستشارات المتعلّقة بالتخدير في قسم الجراحة والعمليّات في المستشفى، حين قُرع بابُ العيادة ودخلتْ سيّدةٌ حاملٌ في شهرها التاسع.
رحّبتُ بها، ثمّ وجّهتُ إليها مجموعةً من الأسئلة التقليديّة تحضيرًا لولادتها. سألتني متردّدةً إنْ كانت تستطيع أن تتحدّث إليّ عن أمرٍ يشغل بالَها. أومأتُ إليها بالإيجاب، فانطلقتْ:
"تعرّضتُ لموقفٍ غريب عندما كنتُ في عيادة طبيبٍ نسائيّ. فأثناء فحصي بجهاز الإيكو [الموجات فوق الصوتيّة] عبر الطريق المهبليّ، شعرتُ بلمسٍ غريبٍ للجزء الحسّاس من عضوي التناسليّ، وبشكلٍ واضحٍ ومتكرّر. حين شعر الطبيب أنّني تململتُ وأبديتُ انزعاجي، توقّف وأنهى الفحص."
هذا الحادث ترك أثرَه العميق في نفس مريضتي التي أصبحتْ تخشى الفحوصَ الطبّيّة. واعترفتْ لي بأنّ خوفَها من "الفضيحة" منعها من تقديم أيّ إجراءٍ في حقّ الطبيب. واسيتُها بما يخفّف عنها قليلًا، وأكّدتُ لها أنَّها فعلتْ حسنًا حين تكلّمتْ إليّ كي لا يبقى الأمرُ حبيسًا في داخلها. ثمّ أخبرتُها بوجوب وجود شخصٍ إضافيّ (ممرِّضة، مُرافق للمريضة،...) تفاديًا لحصول مواقف مشابهة من طرف أطبّاء تجاوزوا صلاحيّاتِهم و"خانوا القَسَم."
***
من الشائع أنّ التحرّش يحصل في المدارس، وفي المؤسّسات العامّة والخاصّة، وفي الوسط الفنّيّ. ولكنْ قلّما سمعنا عن التحرّش في الوسط الطبّيّ. فلقد اتّصف الطبُّ، منذ القِدم، بأنّه مهنة إنسانيّة وأخلاقيّة سامية، هدفُها الأساس مصلحةُ المريض؛ ولذلك يغدو صادمًا أن تحدث حالاتُ الاعتداء والتحرّش في هذا الوسط.
ومن المعلوم أنّ طلّابَ الطبّ، في العادة، قبل تخرّجهم، يُقْسمون قسَمَ ابقراط، الذي يقول في بعض أقسامه:
"سوف أحافظ على حياتي وفنّي بطهارتي وتقواي... وأيًّا كانت البيوتُ التي قد أزورها، فإنّني سأدخل لنفع المريض؛ على أن أظلَّ بعيدًا عن جميع أعمال الظلم المتعمّد، وجميعِ الإساءات، وبخاصّةٍ العلاقات الجنسيّة، سواءٌ مع الإناث أو مع الذكور، أحرارًا كانوا أو عبيدًا. وسوف أظلُّ حريصًا على منع نفسي من الكلام في الأمور المخجلة التي قد أراها أو أسمعها أثناء فترة العلاج، أو بعيدًا عن العلاج، في كلّ ما يتعلّق بحياة الناس..."
وبموجب هذا القَسَم، يتنازل الطبيب عن حقّه في مزاولة مهنته إنْ لم يفِ به:
"فإذا ما وفيتُ بهذا القسم، ولم أحِدْ عنه، يحقّ لي حينئذ أن أهْنأ بالحياة وبالفنّ الذي شَرُفْتُ بالاشتهار به بين جميع الناس في جميع الأوقات. وإذا ما خالفتُ القسَمَ وأقسمتُ كاذبًا، فيجب أن يكون عكسُ هذا نصيبي وجزائي."
هذا، وتنصّ مادّةُ "آداب الطبّ" في كلّيّة الطبّ البشريّ في جامعة دمشق على واجب الطبيب في إعلام المريض بإجراءات الفحص السريريّ، بدءًا بكشف أجزاء من الجسم وصولًا إلى لمسه خدمةً لدقّة الفحص. كما يُطلب إلى الطبيب الالتزامُ بموقف المريض، قبولًا أو رفضًا.
هذه الإجراءات المسبّقة مفيدةٌ للمريض والطبيب معًا: فالمريض عندها لن يُفاجأ بما سيقوم به الطبيب، وسيستطيع تمييزَه من التحرّش إنْ حصل؛ كما أنّ الطبيب سيحمي نفسَه أيضًا من أن يتعرّضَ له مريضُه بأيّ اتهام جنسيّ (قالت الطبيبة توانا سباركس في نيو مكسيكو إنّها دفعتْ "ثمنًا مهنيًّا باهظًا" لأنّها لم تحصل على موافقة مريضاتها قبل قيامها بفحصهنّ ضمن سياق التحرّي عن مرض السرطان).(1)
وقد يحصل أن لا يَعلم المريضُ أنه تعرّض للتحرّش إلّا بعد أن ينتهي مفعولُ التخدير، فيكتشف أنّ الطبيب صَوّر مشاهدَ غيرَ لائقة، أو لمسَه في مناطقَ يجب عدمُ لمسها. لذا فإنّ من آداب الطبّ أيضًا ما سبق أن ذكرتُه لمريضتي أعلاه، وأعني: ضرورة وجود ممرّضة في قاعة الفحص؛ كما أنّ من حقّ المريض أن يطلب إلى الطبيب السماحَ بوجود شخصٍ مرافقٍ في قاعة الفحص، سواءٌ حضرت الممرِّضةُ أم لم تحضرْ. وفي هذا الصدد أذكر أنّ أحد الزملاء، المعروفين بنزاهتهم وحسن سلوكهم، قال لي إنّه تعرّض لابتزاز مريضته التي اتّهمتْه بالتحرّش؛ ما اضطرَّه إلى دفع ثمنٍ باهظ، وبات يرفض لاحقًا استقبالَ أيّ مريضةٍ أو مريضٍ من دون وجود ممرّضة بشكل دائم.
***
ثمّة فكرة شائعة وخاطئة عند بعض العرب، مفادُها أنّ "التحرّش الطبّيّ" قليلٌ أو معدوم في مجتمعات الغرب "المتقدّمة." الحقّ أنّ حالات كشف ضحايا التحرّش عن تجاربهم أو تجاربهنّ في الغرب تزداد يومًا بعد يوم. فمثلًا قالت وزيرةُ الصحّة الفرنسيّة في حكومة ماكرون، آنيس بوزين (Agnès Buzyn)، إنّ عباراتٍ من نوع "تعاليْ اجلسي على ركبتيّ" كانت تصدر من رؤساء قسْم مستشفياتٍ كانت تعمل فيها.(2) وكانت مجلة The Atlanta Journal-Constitution نشرتْ مقالةً ذكرتْ فيها أنّ حوالي مئة ألف وثيقة ادّعاء تزعم وجودَ سلوك جنسيّ غير لائق قد جرى التحقّقُ منها على امتداد الولايات المتحدة الأميركيّة، فعوقِب 3100 طبيب منذ العام 1999 بعد اتهامهم بمخالفات جنسيّة.(3)
وزيرة الصحة الفرنسيّة آنيس بوزين (Agnès Buzyn)
على المرضى، والناس عامّةً، أن يتعلّموا من هذه التجارب. وعليهم أن يعلموا أنّ مجرّد "الشكّ" في حصول التحرّش أمرٌ صحّيّ، لأنّ التحرّش يمكن أن يكون قد حصل فعلًا. المهمّ التقيّد بالإرشادات الواردة أعلاه لأنّها من حقّ المريض (والطبيب معًا). والأهمّ أنه ينبغي عدمُ الخوف من قول أيّ شيء؛ فالجريمة جريمة أيًّا كان مرتكبُها، ولو ارتدى ثوبًا ناصعَ البياض!
دمشق
(1)http://doctors.ajc.com/doctors_sex_abuse/?ec
(2)https://bit.ly/2PcfKyS
(3) op cit