مقدّمة: لماذا الأزمة الرأسماليّة؟
تنطوي معالجةُ سمير أمين لموضوعة "أزمة المنظومة الرأسماليّة العالميّة" على أهميّة مزدوجة:
أ) عمليّة، وأعني علاقةَ هذه المعالجة بالواقع؛ فالخروج من أزمة الرأسماليّة، أو الخروج من الرأسماليّة المأزومَة، يتطلّب امتلاكَ وعيٍ مطابقٍ بالأزمة.
ب) نظريّة، وأعني معالجتَه للأزمة قياسًا إلى إرثه المتكامل الثرّ. هذه المعالجة تَعرض لنا مذهبَه في صورةٍ مكثّفة؛ وذلك يرجع في الأساس إلى وعيه بأنّ "الأزمة" تمثّل تكثيفًا مركّزًا لنظام الرأسماليّة بأسْره.
مقولة الأزمة الاقتصاديّة
قبل عرض نظريّة أمين عن طبيعة الأزمة الراهنة وحدودها، يجب ايضاحُ مقولة "الأزمة الاقتصاديّة" نفسها.
أولًا: الأزمة جوهريّة. النظام الرأسماليّ وُلد مأزومًا؛ فالقانون الأساس الذي يتحكّم في حركته ينطوي على تناقضٍ عدائيّ: بين شكل المِلْكيّة الرأسماليّة الخاصّ، وطبيعةِ الإنتاج الاجتماعيّة. على قاعدة هذا التناقض، ينشأ التفاوتُ بين نموّ الإنتاج المتراكم بسرعةٍ هائلة، ونموِّ الاستهلاك بوتيرةٍ أبطأ. والأزمة هي النتيجة المنطقيّة لهذا التفاوت عند احتدامه الحتميّ.
تاريخيًّا، ظهرت الأزمةُ الاقتصاديّة على قاعدة الإنتاج السلعيّ البسيط. حينها، ظهرتْ كإمكانيّةٍ شكلانيّة. ولكنّها لم تصبح واقعًا إلّا في ظلّ الرأسماليّة، وتحديدًا مع سيطرة الإنتاج الآليّ الضخم.
والغرض من القول، هنا، هو التشديد على الطابع الجوهريّ للأزمة، والتعبير عن أنّها تنبع من الهدف الأساس للانتاج الرأسماليّ ــ ــ من سعي الرأسمال إلى زيادة فائض القيمة، أيْ من مراكمة الثروة بالنهب.
ثانيًا: الأزمة شاملة. صحيح أنّ الأزمة تتخلّق على القاعدة الاقتصاديّة، إلّا أنّ مفعولها يتعدّى ذلك ليشملَ مناحي الحياة السياسيّة والفكريّة كافّةً. ولمّا كان الصراع الاجتماعيّ ــــ الطبقيّ يندلع من التناقض الاقتصاديّ الأساس للرأسماليّة، فإنّ كلّ احتدامٍ لهذا التناقض يعني رأسًا احتدامًا في الصراع الاجتماعيّ.
ثالثا: الأزمة دوريّة وذات طبيعة متنامية. تضرب الأزمةُ النظامَ الرأسماليّ بشكل دوريّ. الفترة الفاصلة بين أزمةٍ وأخرى، أو ما يسمّى "الدورة الصناعيّة،" تتكوّن عادةً من أربع مراحل: أزمة، كساد، انتعاش، نهوض. ومع نهاية الأزمة، تسود فترةٌ من الاستقرار الظاهريّ الوقتيّ، سرعان ما تنهار، متحوّلةً إلى أزمة أخرى... وهكذا دواليك. وتاريخ الرأسماليّة شاهد على هذه الدورات والأزمات: مثلًا أزمة ١٨٧٣ الكساد الكبير، أزمة ١٩١٤، وأزمة ٢٠٠٨. لكنّ النظرة المدقِّقة لا تكشف لنا عن مجموعة من الأزمات المتناثرة في التاريخ، بل عن "متصل الأزمة."
فالأزمة انفجار عنيف لتناقضات الرأسماليّة، وهي وسيلة موقّتة عنيفة لإعادة التوازن المختلّ إلى حين. ولكنّها تتحول الى عامل بالغ التأثير في الاحتدام اللاحق لتناقضات الرأسماليّة. وهذا يعني أنّ حلّ الأزمة السابقة، يتضمّن، في الوقت نفسه، مفاقمةً للتناقضات التي تنفجر في الأزمة اللاحقة؛ فما يبدو فترةَ "استقرار" عقب الأزمة هو في الحقيقة فترة "اختمار" للإعصار التالي. وعلى قاعدة هذا التصوّر نرى سمير أمين مثلًا يربط بين أزمة ٢٠٠٨ والأزمة التي ضربت النظامَ سنة ١٨٧٣، وذلك ضمن صيرورة واحدة تشكّل "متّصل الأزمة."
خلاصة القول إنّ الأزمة الاقتصاديّة خصيصة بنيويّة مركوزة في النظام الرأسماليّ، وليست عارضًا طارئًا. وهي شاملة المفعول، وذاتُ طبيعة دوريّة متنامية.
الأزمة الراهنة للنظام الرأسماليّ
أ) الأساس الاقتصاديّ للأزمة الرأسماليّة الراهنة. إنّ فهم أبعاد الأزمة الراهنة يعني فهمَ الشكل الراهن لمبدأ للاستغلال. واستغلالُ اليوم يستنسخ التناقضَ الأساس، لكنْ بمقاييس عالميّة. إنّ "قانون القيمة،" الذي يشكّل جوهرَ النظام الرأسماليّ، يبلغ اليوم، طبقًا لسمير أمين، أعلى مراحله مع "قانون القيمة المعولمة."
فالتراكم بالنهب، الذي يُشكّل مفعولَ التناقض الأساس القائم على تراكم الثروة مقابل زيادة الإفقار، يظهر اليوم على صورة تراكم "الريع الإمبرياليّ،" بطريقة غير متعادلة، سرطانيّة، تقود إلى انشطار المنظومة الرأسماليّة العالميّة إلى مراكز تستمدّ رفاهيّتَها من بؤس التخوم.
فسياسة الإفقار العالميّة، التي تقوم على سعي الاحتكارات إلى إعادة إنتاج الظروف التي تسمح بجمع الريْع الإمبرياليّ، هي مركز أزمة الرأسماليّة الراهنة. وهذه الأرض، تحديدًا، هي الأرض الحقيقيّة للمعركة، بحسب سمير أمين.
ب) الجانب السياسيّ الإيديولوجيّ للأزمة الراهنة. بعد تحديد القاعدة الاقتصاديّة الأساس للأزمة الرأسماليّة الراهنة، يمكن رسمُ صورة الصراع الذي ينبثق عن هذه القاعدة ويتفاعل معها. فمن قاعدة التراكم بالنهب على الصعيد العالميّ، ينبثق صراعٌ بين جموع البروليتاريا وشعوب التخوم وما يقدّر بحوالي 80 ــــ 85٪ من سكّان العالم من جانب؛ وبين الأولغارشيّة الاحتكاريّة، أعلى فئات البرجوازيّة، من جانب آخر. وهذا التحديد يتّسم بأهميّة قصوى؛ فمن دون تحديد القوى الواقعيّة التي تعصف بها الأزمةُ الرأسمالية، لا يمكن عبورُ الرأسماليّة المأزومة.
ومن جانبٍ آخر، فإنّ الاشتراكيّة، التي تُمثل درجةَ أعلى على سلّم الحضارة، تنحطّ في هذه الحالة، متحوّلةً إلى حلم طوباويّ ومحضِ تبشير، بحسب سمير أمين.
ج) الجانب الإيديولوجيّ للأزمة. تضمّنتْ نظريّةُ أمين عن الأزمة الرأسماليّة نقدًا راديكاليًّا للإيديولوجيا الرأسماليّة، بالمعنى الوظيفي التبريريّ، أيْ لمجموع ما تقوله عن نفسها. مثلًا:
ــــ "ترشيد" الرأسماليّة. هذا، في رأي أمين، وهْمٌ تضرب جذورُه النظريّةُ في عدم الوعي بحتميّة الأزمة على الأسس الرأسماليّة.
ــــ الحروب "الوقائيّة،" بما فيها الحربُ على الإرهاب، والتدخّلُ بغرض "حماية حقوق الإنسان." هذه الحروب اعتبرها أمين أغلفةً إيديولوجيّةً لتمويه الإدارة السياسيّة العسكريّة العنيفة التي تتولّد حتمًا من شروط الاحتكارات النهّابة.
ــــ خطاب "التوافق" الإنسانويّ العالميّ. هذا، في رأي أمين، تمويهٌ إيديولوجيٌّ للطابع المتفاوت للنظام الرأسماليّ، الذي ينشقّ أكثر فأكثر على قاعدة النَّهب. إنّ النزعة الإنسانيّة الحقيقيّة في زمن الرأسماليّة لا يُمكن أن تكون سوى النضال ضدّ الرأسماليّة.
ــــ "العدالة الاجتماعيّة، الحوكمة، المجتمع المدنيّ،"... هذه المصطلحات، وشبيهاتُها، وصفها أمين بأنّها فارغة نظريًّا، وتُستعمل عمليًّا للتعتيم، لا للإنارة.
ــــ "نهاية التاريخ." في فترات خفوت الصراع بشكلٍ خاصّ، يسود استقرارٌ وقتيّ يفصل بين أزمةٍ وأخرى. وهذا لا يعني، بحسب أمين، نهايةً للتاريخ.
ــــ "خطاب الأزمات،" وهو خطابٌ يتحدّث عن أزمات موجودة فعلًا (الطاقة، البيئة، الغذاء،...) ولكنّه يعجز، في رأي أمين، عن رؤية الاحتكارات خلفها. فأزمة الوقود، مثلًا، لا تعود إلى النُدرة أو الاستهلاك الشَرِه، بل إلى الاحتكار. وأزمة الغذاء لا تعود إلى الاتجاه صوب تخليق الوقود من مصادر الغذاء النباتيّة، بل الى إفقار الفلاحين في التخوم عن طريق التراكم الاحتكاريّ بالنهب.
ــــ "الليبراليّة." وهذه يعتبرها أمين نتيجةً لهيمنة رأس المال على مجمل جوانب الحياة؛ إذ لا وجود لاقتصاد السوق من دون مجتمع السوق.
ــــ "الديموقراطية البورجوازيّة." وهذه يقوّضها، من داخلها، التناقضُ الذي كشفه ماركس؛ إذ إنّ من يقررون ليسوا هم المعنيين.
ــــ "ما بعد الحداثة." وهي، في نظر سمير أمين، تستيرٌ لتراجع الديموقراطيّة (ولو من أردأ الأنواع، أي الديموقراطيّة البورجوازيّة)، عبر إحلال الفرد محلّ الطبقات (التي يُزعم أنّها تلاشت).
ــــ "الإسلام السياسيّ." رأى أمين أنّ الإسلام السياسيّ مخطّط أمريكيّ/خليجيّ يتلاءم مع الريع النفطيّ بوصفه "منحةَ الله." وكان هذا الإسلام قد أُدخل عمدًا بعد تفريغ المسرح السياسيّ من قواه التقدّميّة.
ــــ "القوميّة" و"خطاب الهويّة." أيّد أمين القوميّة بوصفها اتحادًا عربيًّا لازمًا لمجابهة تحدّيات العصر. وربطها جدليًّا بالاشتراكيّة، فذهب إلى أنّ التحرّر من الاستعمار لن ينجح ما لم يكن في اتجاه الاشتراكيّة. أمّا خطاب الهوية الذي يدور على ادّعاء خصائص ثقافيّةٍ ثابتة، فقد فنّده أمين، وعرّى لاعقلانيّتَه ومضمونَه الإمبرياليّ.
ــــ "التنمية الرأسماليّة المستقلّة." وقد دحض أمين إمكانيّةَ قيامها في إطار العولمة.
مِن فهمِ العالم إلى تغييره
بعد أن أنجز أمين مهمّةَ فهم الأزمة الرأسماليّة الراهنة في أبعادها الاقتصاديّة والسياسيّة والإيديولوجيّة، استنتج ما يأتي:
١) أنّنا بصدد نظامٍ مأزوم، لا أزمةِ نظام.
٢) أنّ الرأسماليّة لا تستطيع أن تتعدّى أزمتَها، وتتّجه صوب المزيد من التوحّش والانتحار الجماعيّ.
٣) أنْ لا مَخرج من هذا النظام المازوم إلّا بالسير نحو الاشتراكيّة؛ فإمّا الاشتراكيّة وإمّا الهمجيّة.
خاتمة
لا يمكن البدءُ في السير صوب الاشتراكيّة ما لم تُهزمْ سلطةُ الأوليغارشيّة الإمبرياليّة، وحلفاؤها وخدّامُها في الشمال والجنوب معًا. ولا يمكن هزيمتُها ما لم تَشْرع القوى التقدّميّةُ في الانتقال من مجرّد "جبهةٍ في ذاتها" إلى "جبهة لذاتها،" وما لم تتوحّدْ فعليًّا في جبهةٍ جبّارة: جناحاها جموعُ البروليتاريا من جهة، وشعوبُ التخوم من جهةٍ أخرى.
لقد شهد القرن العشرون الموجةَ الأولى من صحوة الجنوب. وقرنُنا هذا، كما يعتقد أمين، هو قرنُ الموجة الثانية. في العام ١٩٧٤، في ندوةٍ عُقدتْ في روما، ناشدَنا أمين: "دعونا لا نساعد الرأسمالَ على الخروج من أزمته. فلنخرجْ نحن من الرأسماليّة المأزومة."
مصر