كان اللقاءُ الأوّل بالرفيق ماهر اليماني في شهر كانون الأوّل من العام 1969، في أحد سجون أوروبا، حيث اعتُقل مع الرفيق م. ع. بعد تنفيذ عمليّة خارجيّة في مطار أثينا ضدّ إحدى طائرات "العال" الإسرائيليّة، وكنتُ معه بصحبة رفيقيْن آخريْن. أمضينا حوالي عشرة أشهر في السجن معًا، فتوطّدتْ علاقتي بماهر. بعد خروجنا من السجن، عدنا إلى الأردن عن طريق القاهرة بواسطة الصليب الأحمر. في العاصمة الأردنيّة كان في استقبالنا المناضل الكبير أبو ماهر اليماني، شقيقُ ماهر. كما التقينا بالرفيق "الحكيم" جورج حبش في مخيّم الوحدات.
لم نمكثْ في الوحدات طويلًا، بل توجّهنا جميعًا إلى اليرموك، وكلٌّ منّا ذهب في اتجاه: واحد إلى الجنوب، وآخر إلى البقاع، وثالث إلى الشمال. لم تمضِ بضعةُ أشهر حتى جاء شقيقُ المناضلة ليلى خالد إلى منزلي، ليبْلغَني أنّ أبا هاني (د. وديع حدّاد) يريدني أن أحضر إلى بيروت على وجه السرعة. عدتُ إلى بيروت، وعندما وصلتُها التقيتُ ماهر من جديد.
- شو بدّو أبو هاني يا ماهر؟
- ما بعرف بالتحديد، ردّ ماهر. يللي بعرفه أنّو في إشي كبير بدّو يصير.
مساء ذلك اليوم، جاء الرفيق أبو هاني ليطلب منّا الانتقالَ إلى عمّان فورًا، وهناك سنعرف بالتفاصيل ما سيحصل. وفعلًا انتقلنا إلى عمّان صيف العام 1970.
في عمّان التقينا بالرفيق أبي ماهر. كان فضولي لمعرفةِ ما سيحدث قد دفعني لأن أطلبَ من ماهر أنْ يسأل شقيقَه عما يُحضَّر، فكان جوابُ أبي ماهر أنّ هناك تحضيرًا لعمليّة خطف عدّة طائرات في يوم واحد، وسيتمّ إنزالُها في مطار صحراويّ ترابيّ في الأردن. لم أكن أدري حينذاك أنّ هذا المطار سيُسمّى فيما بعد "مطار الثورة."
وديع حداد وليلى خالد في بيروت
في اليوم التالي توجّهنا، أنا وماهر ومجموعاتٌ كبيرةٌ من المقاتلين، بسيّاراتٍ عسكريّة، إلى أنْ بلغْنا المكانَ المقصود. كان على رأس الواصلين الرفيق أبو هاني (وديع حدّاد) الذي راح يعطي التعليمات ويوزِّع الأدوار. كان دور ماهر هو المكوث عند تلّة قريبة من الموقع الذي نحن فيه، والتقاط إشارات ورسائل من خاطفي الطائرات فور وصولها إلى أجواء "مطار الثورة،" وذلك عبر جهاز راديو يلتقط الإشارات تلك على موجات F.M.
بعد ظهر ذلك النهار، بدأتْ أولى الطائرات تحطّ على المدرج الترابيّ، لتتبعَها طائرةٌ تلْو الأخرى. تمّت السيطرة على جميع الطائرات وطواقمها وركّابها، الذين ظلّوا محتجزين ثلاثة أيّام. لم تصل المفاوضاتُ (التي كان يقودها أبو هاني) إلى أيّ نتيجة مع "إسرائيل" بخصوص إطلاق سراح أسرانا من سجون الاحتلال، فجرى تفجيرُ الطائرات جميعِها على أرض المطار.[1]
عدنا إلى عمّان مع ركّاب تلك الطائرات وأطقمها. في طريق العودة، كنتُ أجلس إلى جانب ماهر. وعندما ترجّلنا من الباص في أوتيل الإنتركونتيننتال في عمّان، تمهيدًا لإنزال الركّاب وأطقم الطائرات، كنتُ أحمل سلاحي، وماهر يسير إلى جانبي. هذه لحظة لا يمكن أنْ أنساها: إذ مدّ أحدُهم يدَه من أحد الباصات وأمسكني برأسي، فأزحتُ يدَه عن رأسي بشكل عفويّ وعنيف. حينها، قال لي ماهر: "ما بتعرفه؟" قلت: "لا." فقال لي: "شو نسيته؟ هاد أندريه روشا، مندوب الصليب الأحمر في الشرق الأوسط." عندها تذكّرته. فأندريه كان قد اصطحبنا من سجن أثينا بطائرة خاصّة بالصليب الأحمر إلى القاهرة. عدتُ إلى أندريه واعتذرتُ إليه بكلّ تهذيب واحترام.
ثمّ سألتُه: "وهلّق لوين؟" فقال ماهر إنّ علينا العودة إلى مخيّم الوحدات لأنّ الركّاب الذين نريدهم لمتابعة المفاوضات أصبحوا هناك. بهدوء تركنا الباصات والركّاب في مدخل الأوتيل، وتوجّهنا إلى مخيّم الوحدات، حيث التقينا هناك من جديد الرفيق أبا ماهر اليماني. سألتُه هل انتهت مهمّتُنا فكان الجواب نعم. قلت لماهر حينها: "بدنا نرجع لبيروت الليلة." فردّ أبو ماهر: "خلّيكم اليوم. بكرا بتنزلوا."
نظرتُ إلى ماهر وقلت له: "ما عنّا شي نعملوا، خلّينا ننزل." عندها نهض أبو ماهر وأوصلنا إلى كراج بيروت، ودفع أجرةَ الطريق للسائق، عنّي وعن ماهر، وأعطى كلَّ واحدٍ منّا سبعةَ دنانير أردنيّة، بالتمام والكمال، "مصروف طريق،" ولا قرش غير ذلك.
ما إنْ عدنا إلى بيروت حتى اشتعلتْ في اليوم التالي المعاركُ في عمّان، وبدأتْ عمليّةُ تصفية المقاومة الفلسطينيّة في الأردن، في ما عُرف بـ"معارك أيلول الأسود."
في لبنان التحقتُ مع ماهر بإحدى قواعد "المجال الخارجيّ" [بقيادة د. وديع حدّاد] في أحد جرود سلسلة جبال لبنان الشرقيّة. كان ذلك في العام 1971. وبعدها، عدتُ إلى الجنوب. ثمّ تبعني ماهر بعد فترة، حينما انتقل إلى العمل العسكريّ في الجنوب، وتابعنا النضال معًا، واستمرّت العلاقةُ بيننا حتّى الأيام الأخيرة من عمر ماهر.
ترافقنا أنا وماهر في مواجهات عديدة: عام 1972، وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ سنة 1978. يومها أذكر أنّ ماهر وقف أمام عدسة أحد المراسلين ليقول له: "لن تمرّ إسرائيل من هنا إلّا على جثثنا."
***
عرفتُه مقاتلًا صلبًا يدافع عن مواقع الجبهة الشعبيّة.
عرفتُه مدافعًا شرسًا عن مبادئها وشعاراتها.
عرفته ماهر الوفاء، ماهر الإخلاص، ماهر الأمانة.
وعرفته ماهر المرح.
وعرفتُ أنّه حيثما مرّ ماهر كان يترك أبلغ الأثر في مَن حوله.
لك يا ماهر حبّي ووفائي.
لبنان
[1] هنا شهادة ماهر في الآداب: https://bit.ly/2Fr52QI