على مرِّ الأعوام التي عرفتُ فيها ماهر اليماني، بدا لي دائمًا أشبهَ بالدمى الروسيّة الشهيرة (ماتريوشكا)، التي تحتوي كلُّ واحدة في داخلها دميةً أخرى مختلفة، لكنّها في الوقت ذاته تشبهها. لذا، كان القرب من ماهر لا يُمَلّ. ما إنْ تظنّ أنّك أمسكتَ بالشخصيّة وعرفتَ كلَّ حكاياها، حتّى يفاجئك بشخصيّة جديدة، لها أقاصيصُها التي لا تزال مخبوءةً في داخله. إنّه مسلسلٌ من المفاجآت المدهشة. وأقول "إنّه،" ولا أقول "كان،" لأنّه، حتى بعد وفاته، أكمل لعبتَه تلك: ففاجأنا بكونه صديقًا خاصًّا لكلّ هذا العدد من الناس الذين توافدوا مكلومين لفقدانه؛ أناسٍ متناقضين طبقيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وعمريًّا، لكنّهم على تناقضهم، وبُعدِهم بعضِهم عن بعض، يكنّون لماهر ودًّا ووفاءً يتجاوزان التهذيبَ الاجتماعيّ.
هكذا، تخيّلتُه يبتسم لتفاجُئي بكلّ هؤلاء الأصدقاء؛ يبتسم تلك البسمةَ الودودةَ، على شيءٍ من الغبطة، لكونه نجح في ما أتقن دائمًا فعلَه: توقيتَ البوح بالأسرار.
***
لم أعد أذكر تمامًا أين تعرّفتُ إلى ماهر. هل كان جوزف سماحة هو من عرّفني إليه، أمْ زياد الرحباني؟ لكنّ ذكرى وجودنا سويّةً، مع زياد وصحبته، هي الأكثرُ يقينًا في ذاكرتي الضعيفة. ربّما لأنّني لم أكن أفهم ما الذي يفعله هذا المناضلُ الفلسطينيُّ الفذّ، تلميذُ وديع حداد، عند زياد الرحبانيّ؟ فهو ليس موسيقيًّا ولا شاعرًا ولا منتِجًا. بالطبع كان يلتقي معه في السياسة، ولكنْ - في كلّ الأحوال - كان حضورًا جديرًا بأنْ تلتفتَ إليه الذاكرة، ربّما لارتباطه بذلك السؤال. ثمّ إنّه كان حضورًا قويًّا لأنّ ماهر فرض ذلك بشخصيّته، التي تجمع بين الامّحاء والحضور القويّ. كان "يختفي" حين يكون ذلك أنسبَ، فتنسى أنّه هنا؛ ثمّ يظهر فجأةً في وسط الضوء تمامًا، حين يكون ذلك ضروريًّا.
في إحدى المراحل، كان زياد "ينقّ" دومًا من أنّه يخسر ماديًّا في كلّ حفلةٍ يقوم بها. كنّا لا نصدّق هذا الكلام، لغرابته ولامنطقيّته. إلّا أنّ ماهر صدّقه لسببٍ ما، وقرّر أنْ يأخد الأمر على عاتقه:
وضع نظامًا حسابيًّا (أكاد أقول عسكريًّا)، مدقّقًا في كلّ شاردةٍ وواردة. لم يُخجلْه أنّ الموسيقيّين ليسوا من عالمه، وأنّه قد لا يفهم بوجهة صرفٍ هنا أو هناك. لم يستطع أحدٌ أن يربكَه بالكلام التقنيّ الكبير. دقّق شخصيًّا مع المنتجين والمعاونين، بأدبٍ ولكنْ بحزم. سأل الأسئلة اللازمة، واستخدم تقنيّاتِ التحقيق. فماذا كانت النتيجة؟
خرج زياد، للمرّة الأولى ربّما، رابحًا من حفلاته تلك. كان زياد سعيدًا كطفلٍ ثأر له أبوه من "الزعران" و"الشطّار." يومها أهدى لماهر "طاقيّةً" حمراء.
من يحبّهم زياد، غالبًا ما يُطلق عليهم الألقاب. وكان نصيب ماهر لقب "الشيخ المسمار"
من يحبّهم زياد، غالبًا ما يُطلق عليهم الألقاب. وكان نصيب ماهر لقب "الشيخ المسمار." ربّما لاستقامة قامتة الرياضيّة العسكريّة وأخلاقه في آن، تمامًا كقراراته التي تنغرز في مكانها بثقة مسمارٍ ينغرز في الخشب. أضف إلى ذلك توفُّزَ جسده، ومللَه من البقاء في مكان واحد؛ وهو توتّرٌ كان يعبِّر عنه باهتزاز ساقٍ دون أخرى. وكنتُ أمازحه بالإمساك بساقه على غفلةٍ منه قائلة: "كنّا درزنا دزينة بناطلين لو حطيناك ع مكنة خياطة يا كاماراد." فيضبط نفسَه لحظاتٍ ضاحكًا، ثمّ ينسى بعد هنيهة، فيتابع الهزَّ والتدخينَ العصبيّ، الذي بالغ فيه إلى درجة إصابة رئتيه في النهاية.
***
كان ماهر يحترم النساءَ احترامَ المناضلين ذوي الأخلاق العالية. وفي محيط زياد، المكتظِّ دائمًا بالمعجَبات من كلّ لون، كان يعرف كيف يقدِّر ذوات النسيج الطيّب، ولا يتردّد في منعهنّ من الانجراف نحو التصرّف كـ"حريم"؛ وكان يفعل ذلك بودٍّ وسرّيّةٍ واحترام.
لم يكنْ له وجهان على عادة الكثير من ذكور بلادنا: واحدٌ للخارج، وآخرُ للداخل، للحميم. كان هو هو: في الخارج والداخل. أخلاق المناضل المحترم ومثاليّته.
كان يقول لشريكته كمن يرى المستقبل: يجب أن يكون لكِ بيتٌ مستقلٌّ يا زينب. قال وفعل. نسج لها بيتًا صغيرًا جميلًا، خلفَه - كما في أحلام المتواضعين - حديقةٌ صغيرةٌ، فسحةٌ من الأرض كان يحبّ أن يزرعَها تارةً بالبقول وتارةً أخرى بشجيرات، ثمّ يهملها مضطرًّا بسبب مهامّه الغامضة. يغيب أسابيعَ وشهورًا، ثمّ يظهر فجأةً. "كيفِكْ؟" يقولها ببساطة، كمن التقاكَ منذ يومين.
***
ثمّ أناخ علينا البلدُ أطنانًا من التعب واليأس. فانكفأ الكثيرون منّا إلى قوقعتهم، وأنا منهم، نحاول تفادي مضاعفاتِ استهلاكِ بلادٍ نافقة؛ جثّةٍ منتهيةِ الصلاحيّة، نقتات منها مُجبَرين، فنتسمّم؛ جثّةٍ تتحلّل تحت أنوفنا جميعًا، وروائحُ الفسادِ والفضائحِ والانحلال المواطنيّ تنبعث منها وتُزكم الأنوفَ.
غاص كلّ منّا بغوّاصته. ظننتُ أنّه مثلنا ابتعد. لكنّي فوجئتُ، مرّةً أخرى، بأنّه يتابع مهامَّه، محاولًا بأقصى استطاعته أن يبثّ الأملَ في نفوسِ مَن حوله.
كان يقوم بأفعالٍ صغيرةٍ، ربّما راهن على تراكمها، متفائلًا بالغد، كما يجدر بالمناضل الحقيقيّ. تمامًا كما كان يفعل للصغيرة "فرح،" التي خصّص لها "قجّةً،" كان يُسْقط فيها، من وقتٍ إلى آخر، ما بقي في جيوبه من "فراطة،" لعلّها - حين تكسرها - تجد ما يلبّي حاجتَها في يومٍ صعب؛ تمامًا كما أفعل أنا الآن بهذا النصّ الذي كسرتُ لكم فيه قجّةَ الذاكرة.
"يجب أن نغادر الأرضَ ليس كعبيدٍ ممزَّقين ومجلودين، بل كملوكٍ ينهضون عن المائدة بعد أن أكلوا وشربوا حتّى الامتلاء،" يقول الكاتبُ اليونانيّ العظيم نيكوس كازانتزاكس في تقرير إلى غريكو. وماهر غادرنا كملك ينهض عن مائدة. مضى مبتعدًا، والقلبُ يقاوم رحيله ذاك، ويقول له: "ليتكَ تبقى قليلًا."
بيروت