حصل على شهادة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من الغرادجويت سنتر- كيوني في نيويورك. يدرّس حاليا في كلية جون جاي. باحث في دراسات الشرق الأوسط والفلسفة السياسية.
هذه المقالة ستكون جزءًا من سلسلة مقالاتٍ نتحدّث فيها عن الحالة اللبنانيّة، وعن الأمثلة التي نراها مناسبةً لتحقيق أهداف الثورة وكيفيّة الوصول إلى اللاحتميّة السياسيّة (Political Uncertainty) التي نعتبرها عنصرًا مهمًّا ترتكز عليه الديمقراطيّة.
***
من الصعب تحقيقُ العدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة في المجتمعات والدول التي تتّصف بتعدّد الهويّات العشائريّة والدينيّة والإثنيّة والطبقيّة وغيرها. فسيطرةُ الهويّات، وسياساتُ الهويّة دون الوطنيّة بشكلٍ خاصّ، ساعدتْ على تفكّك المجتمعات في العالم العربيّ عمومًا، وفي بلادِ الشام خصوصًا (ولطالما سمعنا، في هذا الصدد، مصطلحاتٍ مثل "الحزب الحاكم" و"الزعيم المفدّى" و"سطوة الأكثريّات" و"خوف الأقليّات" التي تدافع أجهزةُ الدولة عنها أكثرَ من التركيز على تعزيز المصلحة العامّة). ولكنّ الهويّة مسألةٌ فلسفيّةٌ جوهريّة، وتتباين تعريفاتُها بين العلوم المختلفة. ففي العلوم السياسيّة، مثلًا، تتألّف هويّةُ كلّ انسانٍ من عدّة عناصر، مثل الجنسيّة واللغة والعِرق والطبقة والقبيلة والطائفة والمذهب؛ ونحن نرى أنّ الهويّة الطائفيّة والمذهبيّة مسيطرةٌ في لبنان وسوريا والعراق مثلًا، في حين تسيطر القبليّةُ في اليمن وليبيا وغيرهما.
على مدار القرن الماضي، ومع تطوّر نظام الدولة العربيّة الحديثة آنذاك، تطوّرت القوميّةُ العربيّةُ وسط ثقافة القوميّات التي كانت نتاجًا للمرحلة التاريخيّة قبل الحربيْن العالميّتين وبعدهما. لكنّ الأنظمةَ الاستبداديّة، على مختلف أنواعها، لجأتْ، من خلال آليّات مختلفة، إلى بناء السلطة على حساب الحقوق والحريّات الفرديّة.
وضع لبنانُ نظامًا لتقاسم السلطة والحكم استند إلى تعريفٍ للهويّة مختلفٍ عن سائر الدول العربيّة الأخرى. فمنذ إنشاء دولة لبنان الكبير في 1/9/1920، تبنّى لبنان تدريجيًّا نظامًا سياسيًّا مبنيًّا على التمثيل الطائفيّ. وبعد صياغة الدستور الرسميّ، تركّزت السياسةُ اللبنانيّةُ على الحصول على الاستقلال من فرنسا، وأصبح من الصعب إيجادُ طرقٍ فعّالةٍ لتنظيم السلطة نظرًا إلى التنوّع الدينيّ في البلاد. ومع ذلك، ففي أكتوبر 1943، قدّم رياض الصلح "الميثاق الوطنيّ،" الذي كان عبارةً عن تفاهمٍ غيرِ مكتوبٍ بينه وبين بشارة الخوري.
منذ دولة لبنان الكبير، تبنّى لبنان نظامًا سياسيًّا مبنيًّا على التمثيل الطائفيّ
يشير فوّاز طرابلسي في كتابه تاريخ لبنان الحديث إلى أنّ "الميثاق الوطنيّ عمل على إكمال وتصحيح الدستور بشأن المسائل الأساسيّة المتعلّقة بهويّة لبنان، وبعلاقاته العربيّة والدوليّة، وبدمج المسلمين في هيكليّة السلطة." [1] الأهمّ من ذلك أنّ "الميثاق أكّد صيغةَ تقاسم السلطة بين الطوائف ...: نسبة 5/6 في التمثيل السياسيّ والإداريّ، وكذلك توزيع المناصب الرئيسة الثلاثة في الحكومة: رئيس الجمهوريّة المارونيّ، ورئيس مجلس النوّاب الشيعيّ، ورئيس الوزراء السنّيّ." [2]
استطاع هذا الميثاقُ الصمودَ إلى ما بعد الحرب الأهليّة التي التهمتْ كلَّ ثروات البلاد وأحلامِها. فوقّع النوّابُ اللبنانيّون، برعاية الدول العربيّة المحيطة، اتفاقَ الطائف في المملكة العربيّة السعوديّة في 22/10/1989، من أجل وقف الحرب ووضعِ البلاد على سكّة إعادة الإعمار. في 21/9/1991، صوّت البرلمانُ على قانونٍ دستوريّ لدمج إصلاحات اتفاق الطائف، أو - بعبارةٍ أخرى - لإنهاء ازدواجيّة صيغتَي الدستور والميثاق الوطنيّ. ومن ثمّ أعيد إنتاجُ النظام الطائفيّ بعد التعديل الذي حصل في ميزان القوى نتيجةً للحرب والتطوّرات الإقليميّة والدوليّة.
يرى أرند يجبهارت، مؤلّفُ كتاب الديمقراطيّة في المجتمعات التعدّديّة، وأستاذُ العلوم السياسيّة في جامعة ييل، أنّ "التوافقيّة السياسيّة" تَخدم المجتمعاتِ التي تَسُودها انقساماتٌ داخليّةٌ كبرى بحيث لا توجد فيها فئةٌ كبيرةٌ بما يكفي لتشكيل أغلبيّة. تُبنى التوافقيّةُ على تشارك النخب السياسيّة، من مختلف الفئات الرئيسة، للسلطة بهدف التخفيف من التشرذم المجتمعيّ، الناجمِ عن أسبابٍ عرقيّةٍ وطائفيّةٍ، كما في الحالة اللبنانيّة. لكنّ نجاحَ هذه التوافقيّة يكمن في تفتيتها، تدريجيًّا، على طريق التحوّل الديمقراطيّ الكامل. ويعطي يجبهارت أمثلةً على تجارب بعض البلدان، مثل هولندا والنمسا وسويسرا، حيث كانت التوافقيّةُ السياسيّةُ مرحلةً عابرةً في تاريخها وتطوّرها حتى وصولها إلى أنظمةٍ ديمقراطيّةٍ مستقرّة.
يكمن ضعفُ الطائفيّة السياسيّة في لبنان، بحسب يجبهارت، "في عدم مرونتها، وفي التحديد المسبَّقِ للمقاعد الحكوميّة [وفق الميثاق الوطنيّ غير المكتوب]." ولقد جرت محاولاتٌ كثيرةٌ لإلغائها، بدءًا من ريمون إدّة وكمال جنبلاط، وصولًا إلى الاحتجاجات التي اندلعتْ سنة 2011، وانتهاءً بثورة 17 تشرين 2019. لذلك تجب إعادةُ النظر بالطائفيّة السياسيّة بشكلٍ عامّ من أجل معرفة أصولها وتاريخها، ومن أجل التحقّق من قدرة النظام الطائفيّ على التعامل مع التحدّيات الهيكليّة العديدة التي يواجهها لبنان داخليًّا وخارجيًّا.
هناك دراسات مختلفة ومتعدّدة تختصّ بالطائفيّة، ولكنْ هناك مساراتٌ محدّدةٌ في دراسات الشرق الأوسط، نذكر منها أربعةً. المسار الأوّل يُرْجع أسبابَ تفاقم الطائفيّة إلى ظهور الحداثة وحركاتِ التغيير الجارفة التي أثّرتْ في الثقافات والمجتمعات كافّةً، كما يقول أسامة مقدسي في كتابه ثقافة الطائفيّة. [3] أمّا المسار الثاني، فيساريٌّ مناهضٌ للإمبرياليّة والكولونياليّة، وهو يُرجع أسبابَ تفاقم الطائفيّة إلى عمليّة "استبطانٍ" حصلتْ في مجتمعاتنا، بحيث بتنا نرى أنفسَنا من خلال نظرة المستعمِر إلينا، كما يقول فوّاز طرابلسي. [4] وهناك المسارُ الثالث الليبراليّ، الذي ينفي وجودَ الطائفيّة بشكلٍ مطلق، ويعمل في حقل الدولة والعلاقات الدوليّة فقط، مثل المسار الذي يسلكه توم نجم. أمّا المسار الرابع، المتمثّل في المؤرِّخ اللبنانيّ المعروف كمال الصليبي، [5] فيُظهر الترابطَ الداخليَّ بين العشائريّة والطائفيّة، وحاجةَ الأطراف السياسيّة إلى إبراز هذه أو تلك أو كلتيْهما معًا عند الحاجة. إنّ علاقةَ الطائفيّة بفترةِ ما قبل الحداثة وما بعدها علاقةٌ سائلةٌ، كما نفهم من طلال أسد. فهل مبنى الطائفيّة مفتوحٌ للعموم؟ وإلى أين نخرج منها؟ ومن أين نعود إليها؟
إنّ عمليّة فهم الأسباب التي أدّت إلى ظهور الطائفيّة أو إلى عدم ظهورها هي، في اعتقادي، ذاتُ علاقةٍ كبيرةٍ بفهمنا للأحداث الراهنة. فالانقسام الحادّ الذي نراه الآن بين مؤيِّدٍ للثورة على أساس "كسرِها حاجزَ الطائفيّة،" ومُعارضٍ لها متمثّلٍ في الأحزاب الطائفيّة وأتباعِها، لا يدلّ إلّا على العودة إلى التعصّبات الدينيّة والحزبيّة من جهة، والتعصّبات الفكريّة كاليساريّة والليبراليّة من جهةٍ أخرى.
إنّ هذه الصرامة تدلّ على عدم استعداد الأطراف اللبنانيّة المناهضة للنظام الحاليّ لتوحيد الصف وقبولِ الاختلاف أولًا. وهي تمنع الثوّارَ والثائرات، ثانيًا، من إنتاج أيّ عملٍ إيجابيٍّ يغيّر مسارَ العمليّة السياسيّة التي تحافظ على المواطن والوطن. ولكنْ يبقى السؤال، بغضّ النظر عن نجاح الثورة أو فشلها: هل التحديدُ المسبَّقُ لمسار الثورة، ولمسارِ ما بعد الثورة، يتوافق مع مبادئ الثورة نفسها؟
على الثوّار أن يجيبوا على السؤال الصعب: ماذا يريدون (وليس ما لا يريدون، أي الحكّام)؟
إنّ الثورة اللبنانيّة التي انفجرتْ في 17 تشرين الأول، وتشكّلتْ من معظم أطياف الشعب اللبنانيّ، قد استطاع شبابُها وشابّاتُها أن يتّحدوا - ولأول مرّة - ضدّ سطوة الطائفيّة، والحزبيّة، والنيوليبراليّة المصرفيّة، والجيوبوليتيكية السياسيّة وغيرها. لكنْ، بعد موجة الثورات التي اندلعتْ في بعض بلدان العالم العربيّ منذ العام 2010، واستطاعت أن تهزَّ عرشَ النظام العربيّ الموروث من القرن العشرين، استفاقت الشعوبُ على موجةٍ من "الثورات المضادّة" التي استطاعت - بمساعدةِ مَن هبّ ودبّ - أن تهضمَ ثوراتِ الشعوب وتعيدَ هذه الأخيرةَ إلى "بيت الطاعة،" كما يقول البعض، مثلما حدث في مصر وسوريا وغيرهما.
فبعد هذه الظروف أصبح من الممكن القول إنّ الثورات ضروريّةٌ جدًّا لزرع فتيل التغيير، ولكنّ التغيير الحقيقيّ لن يحصل من دون مطالب سياسيّة محدّدة وواضحة تلغي امتيازاتِ الطبقة الحاكمة. إنّ فكرة "الثورة" كملاذٍ أخير للحَراك الشعبيّ، وكوسيلةٍ مضمونةٍ لتحقيق مطالب الشعوب، لم تعد أكيدةً في عالمنا الحاليّ. فالأنظمة السياسيّة الحاليّة قد خبرتْ هضمَ الثورات وتفكيكَها. وعدمُ وجود الوعي السياسيّ الكافي لدى البعض، إلى حدّ مطالبتهم بتدمير الأنظمة كليًّا، لن يؤدّي إلّا إلى زعزعةٍ تنتهي ببقاء الأنظمة والحكّام، وتهجير الشعوب أو التنكيل بها في أحيانٍ كثيرة.
إنّ المخاطر السياسيّة، والأمنيّة، والاقتصاديّة، والجيوبوليتيكيّة، الناجمةَ عن الثورات ليست هي المخاطرَ الوحيدة. فهناك أيضًا مخاطرُ خاصّةٌ بالثوّار أنفسهم، ومنها وقوعُهم في حبّ أنفسهم، بدلًا من الوقوع في حبّ العمل الصعب والصبر الطويل. المتظاهرون ليسوا الهدفَ، بل الهدفُ هو التغيير. لكنّ رسالتَهم الأقوى هي أنّهم كسروا حاجزَ الخوف. ولا ريْب في أنّ اكتشافَهم الخللَ في العالم الذي يعيشون فيه سيضطرّهم، عاجلًا أو آجلًا، إلى التفكير في خياراتٍ مختلفة.
الطريق طويل، وعلى الثوّار أن يجيبوا على السؤال الصعب جدًّا، وهو: ماذا يريدون (وليس ما لا يريدون، أي الحكّام)؟ وما هي المنظّماتُ الاجتماعيّة التي ستبدّل النظامَ القائم؟ من هم القادةُ الجدد؟ وما هي البدائل من وسائل القمع والتحكّم؟ على الكلّ أن يفكّرَ في الوسائل العمليّة للانتقال إلى الديمقراطيّة، أو إلى مرحلة ما بعد الثورة.
إنّ عمليّات الانتقال إلى الديمقراطيّة التي نجحتْ في القرن الماضي قادت العلماءَ الى توسيع دراساتهم في تحوّلات الأنظمة السياسيّة. هناك الكثير من الجوانب التي تحدِّد مسارَ هذه العمليّات، وأهمّها ثلاثة:
- أوّلًا، إنّ قوّة الديمقراطيّة هي في حتميّة المؤسّسات، وفي إضفاء عمل هذه الأخيرة على النزاعات المتقلّبة، بحيث تستحوذ المؤسّساتُ على السيادة وتحتكرها.
- ثانيًا، إنّ العمل المؤسّساتيّ هو الذي يَضمن المصالحَ الحقيقيّةَ للجماعات ضمن إطار سيادة الدولة، لا خارجها. وبمعنًى آخر، فإنّ لغة الدولة هي اللغة السياسيّة التي يَجْدر تبنّيها.
- أخيرًا، لا تُحدَّد نتائجُ النزاعات بشكلٍ مسبّق، وإن امتلك المتنازعون وسائلَ الإنتاج أو الترتيباتِ المؤسّساتيّةَ النموذجيّة.
قد يبدو غريبًا وصفُ الديمقراطيّة بطريقةٍ مجرَّدة، تكاد تكون نظريّة، بدلًا من الإشارة إلى الترتيبات والأدوات المؤسّساتيّة النموذجيّة للديمقراطيّة: كالبرلمانات، والأحزاب، والانتخابات، إلخ. ومع ذلك، فإنّ نقطةَ الانطلاق هذه ضروريّةٌ لفهم "الانتقال إلى الديمقراطيّة" في وصفه عمليّةً لإنشاء مؤسّسات محدَّدة تؤثّر في قدرة المجموعات المختلفة على تحقيق مصالحها.
إنّ إقامةَ الديمقراطيّة تهدف إلى مأسسة اللاحتميّة السياسيّة، وإخضاعِ جميعِ المصالح لها. ففي الأنظمة الاستبداديّة، تكون لبعض الجماعات، المسلّحة عادةً، القدرةُ على التدخّل الحتميّ كلّما تعارضتْ نتيجةُ النزاع مع برنامجها أو مصالحِها. وهذا التدخّل الحتميّ المسلّح يعني رضوخَ الجماعات المستبعَدة من السلطة لقرارات الجماعات المسلّحة، ومن ثمّ تحكُّمَ هذا التدخّل بسياسات الجماعات الأولى. غير أنّ هناك جماعاتٍ ذات درجةٍ عاليةٍ من السيطرة على الموقف، ولهذا تشعر أنّها غيرُ مجبَرةٍ على قبول نتائجَ لا ترغبُ فيها. لكنْ في أيّ دولة ديمقراطيّة، لا تستطيع أيُّ مجموعةٍ التدخّلَ عندما تنتهك نتائجُ النزاعات مصالحَها التي تتصوّرها بنفسها. الديمقراطيّة تعني أنّ جميعَ المجموعات يجب أن تُخضع مصالحَها إلى حالةٍ من عدم اليقين أو اللاحتميّة. هكذا تصبح عمليّةُ "عزل السيطرة عن نتائج النزاعات" خطوةً حاسمةً نحو الديمقراطيّة.
إنّ إقامةَ الديمقراطيّة تهدف إلى مأسسة اللاحتميّة السياسيّة
من غير الممكن أنْ تَضمنَ أيُّ مجموعةٍ مصالحَها داخل النظام الديمقراطيّ. ولكنّ الممكن هو الاتفاقاتُ المؤسّساتيّة، أي التنازلاتُ المؤسّساتيّة التي تشكّل الاحتمالاتِ المسبَّقةَ (a priori) لتحقيق مصالح تلك المجموعة. إذا كان الانتقالُ السلميّ إلى الديمقراطيّة أمرًا ممكنًا، فإنّ المشكلةَ الأولى التي يتعيّن حلُّها هي كيفيّة مأسسة عدم اليقين واللاحتميّة، من دون تهديد مصالحِ مَن لا يزالون قادرين على قلب هذه العمليّة. وتجربةُ الديمقراطيّات تدلّ على أنّ الضمانات المؤسّساتيّة فعّالةٌ جدًّا في إتاحة وصول بعض المصالح إلى الواجهة، ومنعِ مصالحَ أخرى من التعبير السياسيّ على الإطلاق.
تُركّز معظمُ الأدبيّات الموجودة عن نموذج الدولة اللبنانيّة على أهمّيّة التمثيل الطائفيّ، وعلى الأبعاد الدينيّة والحروب الطائفيّة التي اجتاحت الشرقَ الأوسطَ ككلّ. هذه الأدبيّات تشدّد على وجود فجوةٍ بين الشعب اللبنانيّ والدولة من جهة، وبين التحليل المثمر لمستقبل هذا البلد من جهة أخرى. وفي حين أنّ عمليّة الانتقال إلى الديمقراطيّة كانت وما تزال محورًا رئيسًا في دراسة التاريخ السياسيّ اللبنانيّ، فقد أكّدتْ هذه الأدبيّات أنّ لبنان يعيش حالةً من الركود نظرًا الى أنّ خلل الدولة مرتبط بتقاسم الأحزاب للكعكة اللبنانيّة. لكنّ هذه القراءة، التي تحبس عمليّةَ الانتقال التدريجيّ إلى الديمقراطيّة في خطّ مستقيم، من الاستبداد إلى الديمقراطيّة، تخفق في إدراك تعقيد التغيير نفسه. ذلك لأنّها تقود "خبراءَ الشرق الأوسط،" المتأثّرين بعمل بعض منظّري عمليّة الانتقال الديمقراطيّ، أمثال أ. ر. نورتون وغسّان سلامة، إلى اعتبار بعض بلدان العالم العربيّ راكدةً أو في ديمقراطيّةٍ غيرِ مكتملة.
إنّ الثورة بطبيعتها ترفض فكرةَ الركود السياسيّ، وفي الوقت نفسه تفتح فجوةً في المسار التاريخيّ للتحرّكات السياسيّة. فعلى الرغم من تميّز لبنان في خلق نظامٍ سياسيّ يعتمد على توازن القوى بين الطوائف المختلفة، وعلى الرغم من نجاح هذا النظام في الحفاظ على التوافقيّة الى حدٍّ ما، فهل يمكن الوصولُ إلى اللاحتميّة السياسيّة عبر حتميّة المقاعد الطائفيّة الثلاثة (بموجب العرف): رئيس الجمهوريّة المارونيّ، ورئيس الحكومة السنّيّ، ورئيس مجلس النوّاب الشيعيّ؟
هل هذا يعني أنّنا عدنا إلى النقطة الأولى التي تقول: إمّا هذه الصيغة من الطائفيّة والعشائريّة، وإمّا دولة علمانيّة؟ وهل هذان الخياران هما المتاحان أمام الثوّار فقط؟ في كلّ الأحوال، لا بدّ من معالجةٍ جديدةٍ للمعرفة، ليس فقط على الصعيد التجريبيّ بل على الصعيد التاريخانيّ (historicism) أيضًا؛ معالجةٍ تضع عجلةَ التاريخ تحت "دوّاسة" النظريّة الثوريّة، كما فعل كوندورسيه وهيجل وماركس مثلًا. ولكنْ، كما زاوجْنا بين النظريّ والتطبيقيّ، وبين التاريخانيّة والقانونيّة، وبين الثورة والدستور، فلا بدّ من إبقاء اللاحتميّة هدفًا أسمى من المصالح الضيّقة التي أكل الدهرُ عليها وشرب.
فكما يقول جون بيرجِر، الناقدُ والروائيُّ المعروف، " إنّ الثورة هي رفضُ الانخفاض إلى نقطة الصفر، ورفضُ الصمت القسريّ. فالثائر يمكن أن يثورَ عبر نصب الحاجز، أو حملِ السلاح، أو الإضرابِ عن الطعام، أو الصراخِ، أو الكتابة." [6] وعبر التاريخ اتّخذ الثوّارُ أشكالًا عدّةً في إبراز تطلّعاتهم، ولكنْ لماذا خاضوا كلّ هذه المآسي؟ يُكمل بيرجِر: "من أجل إنقاذ اللحظة الراهنة، أيًّا كان ما يخبّئه المستقبل."
نيويورك
[1] Fawwaz Traboulsi, A History of Modern Lebanon (London: Pluto Press, 2007), page 110
[2] المصدر السابق.
[3] أسامة مقدسي، ثقافة الطائفيّة، ترجمة: ثائر ديب (بيروت: دار الآداب، 2005).
[4] فوّاز طرابلسي، مصدر مذكور سابقًا.
[5] كمال الصليبي، بيتٌ بمنازل كثيرة: الكيان اللبنانيّ بين التصوّر والواقع (بيروت: مؤسّسة نوفل، 1990).
[6] John Berger, Bento’s Sketchbook (London: Verso Books, 2015), p.20
حصل على شهادة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من الغرادجويت سنتر- كيوني في نيويورك. يدرّس حاليا في كلية جون جاي. باحث في دراسات الشرق الأوسط والفلسفة السياسية.